مجلة الرسالة/العدد 874/صور من الحياة:
مجلة الرسالة/العدد 874/صور من الحياة:
قلوب من حجر!
للأستاذ كامل محمود حبيب
قال لي صاحبي: خرجت من الدار - منذ أيام - وقد شغلتني حاجات الدار والولد، واكتنفتني شواغل الوظيفة، فأنا بينها مضطرب العقل موزع الذهن، لا أستقر على حال ولا أقيم على رأي؛ فانطلقت مفزعاً علي أجد متنفساً في الشارع ملهاة لخاطري ومسرحاً لفكري. ورحت أضرب في أنحاء المدينة لا أبتغي هدفاً ولا أصبو إلى غاية، أقلب النظر في حياة المدينة وفي قفزات الحضارة وفي مشاغل الناس. . . فما راعني إلا أن أرى كلباً ملقى على الطوار يئن أنيناً خافتاً فيه الألم والاستسلام، ويرمق الناس بنظرات راجفة فيها الضيق والخوف، فنظرت فإذا ساقه مكسورة وإذا الدم ينزف متدفقاً في شدة وعنف، وإذا الناس يمرون بازائه في غير عناية ثم يندفعون كل إلى هدفه، وما فيهم من يعبأ بالجريح الطريح على الطوار. ونبض قلبي بالرحمة واختلج فؤادي بالحنان فاندفعت إليه. . . ولكن ولشد ما آلمني أن أراه ينبح نباحاً عالياً متواصلاً، وأن أجده يجر نفسه بعيداً، وفي نظراته الخوف وعلى سماته الفزع! فقلت لنفسي (يا ويح قلبي! لأمر ما فزع مني هذا الكلب الجريح!) ورحت أروضه في هدوء، وأذلله في عطف، حتى اطمأن إلي وسكن رعبه فاستكان واستسلم، وأنا في حيرة من أمره أجيل فيه البصر والفكر معاً؛ وتراءى لي أنه يحدثني حديث صديق حبيب، وسمعت من وراء أناته كلمات ترن في مسمعي كأنها تقول (آه يا صاحبي) كم في هذا الناس من يغرك بمظهره ويخدعك بروائه، تراه يزهو في ثيابه ويتألق في بهائه، تخشع النفس من هيبته، ويعنو القلب لأبهته، ويستأسر الفؤاد لصعره، على حين أن في إهابه روح خنزير وفي رأسه عقل حمار! أما قصتي - يا سيدي - فهي أنني غيرت ساعة من الزمان وأنا طريد صبي من أولاد الشارع يقذفني بالحجارة في غير ذنب جنيته، ويضربني بالعصا في غير جرم اقترفته؛ لا يزيده فراري إلا تشبثاً بي، ولا يدفعه نباحي عن أن يستأسد علي، ولا يصرفه تحرشي به عن أن يوسعني أذى وتعذيباً. ونظرت إلى وراء لأرى عذري فرأيت إنساناً تخلى عن إنسانيته فبدت فيه حيوانية جياشة تبطش بالعقل والحيلة. ولا عجب - يا سيدي - فإن الإنسانية حين تتهاوى تسفل فتتضع فتنحط إلى أوضع مراتب الحيوانية! وراعتني شراسة الصبي فانطلقت أشتد في غير وعي ألتمس الخلاص والمهرب فقذفت بنفسي في عرض هذا الشارع أريد أن أخترقه، وهو - كما يرى - مكتظ مزدحم بالعربات والسيارات والترام جميعاً، فصدمتني سيارة كسرت ساقي ثم مرقت مثلما يمرق سهم عن قوسه. . . مرقت وخلفتني هنا أنادي غير مستمع. واستطعت - في لمحة واحدة - أن أرى السيارة التي أبطرها الغنى فرأيتها تفهق بالكبرياء وتشرق بالغطرسة وتزهو بالنعمة، ورأيت فيها رجلاً واحداً يقودها. . . رجلاً تعرى عنه الإنسانية لينحط إلى أوضع مراتب الحيوانية. . .
ورنت الكلمات الحزينة في مسمعي تصاعد من وراء أنات الكلب الجريح، تخترق شغاف قلبي وتسيطر على نوازع نفسي، فتشغلني عن حاجات الدار والولد والوظيفة، وتجذب خيالي إلى الوراء. . . يوم أن كنت صبياً أعاني قسوة أبي وأقاسي غلظة زوجته التي ليست أمي، يوم أن لبثت نيفاً وعشرين يوماً موثقاً إلى فراشي لا أبرحه إلا لماماً، أجد برحاء المرض ولوعة الوحدة، أفتقد القلب الرحيم الذي يعطف، واليد الرفيقة التي تواسي، لا أستطيع أن أبوح بالشكوى التي ترفه عن النفس، ولا أطمع في أن أرى الطبيب الذي يطب للمرض. . . ثم هدأت سورة المرض ساعة فتسللت إلى المستشفى وفي رأيي أني طرت إلى الدار التي أجد فيها شفاء دائي وشفاء نفسي.
ووضع الطبيب يده ثم رفعها وهو يقول (عملية!) فانطويت على نفسي أحدثها حديثاً فيه الطمأنينة والرضا فقلت: (الآن أفوز بإحدى الحسنيين: إما الموت، فأشفى من داء الحياة. . . الحياة التي تصفعني منذ زمان - بالعنت وتعصرني بالشدة، وإما البرء من سقام أمضني طويلاً فأعيش فتى فيه القوة والفتوة، لا يعجزني أن أكسب قوت يومي) واستسلمت.
وفي المستشفى رأيت عجباً من العجب، رأيت أجساماً مريضة ينهكها السقام، ونفوساً سقيمة يقتلها اليأس، وقلوباً قاسية يصرعها الشره. وتنشقت روائح متناقضة تصاعد في أرجاء الحجرة فتملأ أنفي فتتقزز لها نفسي. وسمعت أصواتاً مدوية يجأر بعضها بالشكوى ويرتفع بعضها بالصياح. . . أصواتاً تصك السمع وينخلع لها القلب. ووهت عزيمتي فراودتني نفسي أن أفر من هذا المكان الموحش تحت سترين من الليل ومن الهدوء، غير أن الألم حال بيني وبين أن أفعل فاستسلمت.
هذا هو المستشفى، الدار التي كانت تتراءى في خيالي مهبط الرحمة ومسكن الشفقة لأنها أنشئت على عمد من الإنسانية السامية لتمسح على أوجاع الفقير والعاني بيد رقيقة طيبة. . . هذه الدار نفضت عن نفسها الآن عبار الحيال المموه فبدت أمام ناظري سجناً يضيع المرض في ظلماته، ويتيه السقيم في مضلاته، وتتلاشى الصيحات المدوية في فجاجه، ثم لا يحس واحد فيه الحنان ولا العطف!
أسدل الليل سجوفه وأنا أتقلب على فراش خشن قذر، وعيناي لا تجدان من الكرى، وإن روحي لتفزع مما يتراءى لها من أخيلة شيطانية مخيفة، وإن قلبي ليضطرب من أنات تحوم حواليه في هدأة الليل خافتة حيناً وصارخة حيناً، وإن نفسي لترتاع من أثر الرهبة والفرق، فشملني خوف أورثني الأرق الممض، ومضى يومان. . .
وفي حجرة العمليات أحسست بالمخدر يسري في عروقي فيستلبني الحركة والحس، وشعرت ببرد الراحة والخمود يتدفق في مفاصلي، ثم اغتمرت في سبات عميق.
وحين انجابث عني وطأة المخدر استشعرت ألماً عاتياً يعركني عركاً شديداً. . . ألماً طاش له صوابي وبدا فيه ضعفي، فندت عني صيحة ارتجت لها أركان المكان، فخف نحوي الممرض يأمرني في كبرياء وقسوة أن أخفف من غلوائي وأن أهدئ من ثورتي، وأرغمني على ما لا تهواه نفسي ولا يرضاه ضعفي، ثم قدم إلي قطعة من قماش قذر وأرادني على أن أحشو فمي لتمنع الصوت عن أن يرتفع، وتكتم الصيحة فلا تدوي، فألقيت السلم خشية أن ينالني عنته وهو فظيع، أو يصيبني بطشه وهو قاس.
ولأول مرة في حياتي علمت أن الممرض في المستشفى الحكومي رجل جبار النزعة غليظ الكبد جافي القلب، مرن على الجفوة ودرب على القسوة. وهو - إلى ذلك - صاحب السلطان المطلق في المستشفى، وصاحب الرأي الأعلى في العنبر، وصاحب السيطرة العارمة على المريض، والمرضى يأخذون ما يعطي الممرض في غير نقاش، ويذرون ما يكره في غير تمنع، ويأتمرون بما يأمر في غير تردد، ثم هو لا يفعل شيئاً إلا أن يستلب المريض من طعامه، ويسرق السقيم من دوائه، وينزع عن المستشفى ثوبه السماوي الذي تسربله منذ أن أقيم. وهو في الحكومة خادم مطيع، وفي رأي نفسه السيد الذي لا يخضع إلا للدرهم ولا يتعبد إلا للدينار، يرتدغ - دائماً - في حماقته لأنه أمن الرقيب.
وأنشب الألم أظفاره الجافية في جسمي فما تمالكت نفسي عن أن أقضم قطعة القماش القذرة بأسنان فتية حادة، فأحسست برائحة النتن تصاعد من ثناياها، فألقيت بذات بطني على صدري وإلى جانبي الممرض ينظر ثم لا يمد يداً. ونظرت إليه نظرات فيها التوسل والرجاء فقال لي في كبر: (هات كذا قرشاً وأنا أزيح عنك الخبث) فأشرت إليه من خلال آلامي أنني لا أملك شيئاً، فانصرف عني وخلفني أعاني ضنى الألم ومضض القذارة. ومضت أيام.
واستصرخته - ذات مرة - ليعينني على بعض شأني فما ألقى إلي السمع، فنزلت من على السرير أتحامل على نفسي، فما برحت أن دارت بي الأرض فاقد الوعي لا أجد الرحمة في قلب ولا أحس الشفقة في فؤاد.
وغبرت أياماً في الدار التي أنشئت على عمد من الإنسانية السامية لتمسح على أوجاع الفقير والعاني بيد رقيقة طيبة. . . غبرت أياماً أعاني الوحشة وأقاسي الضياع، لم تهف نفس أبي نحوي ولا رفت علي أبوته.
آه لطالما قضيت الليل سابحاً في أمواج من العبرات. . . عبرات الشباب العابس الحزين حين ينطوي عنه أحب الناس إلى نفسه وأقربهم إلى قلبه.
وجاء عمي - بعد أيام - يزورني فتكلم لسانه كلاماً طويلاً ولكن يده لم تبض بدرهم واحد أشبع به نهم الممرض أو أستجدي عطفه، فودعته - حين ودعني - بعبرات قلبي.
وجاء الطبيب يزورني، فهمس الممرض في أذنه بكلمات دفعته إلى أن يكتب على بطاقتي (يخرج اليوم!).
آه! ما للقلوب الإنسانية قد تحجرت فصفرت من الإنسانية وخلت من الرجولة! أأخرج من المستشفى إلى الشارع ولما أتماثل للشفاء؟ وطردت - بعد ساعة من المستشفى. . . من الدار التي أنشئت على عمد من الإنسانية السامية لتمسح على أوجاع الفقير والعاني بيد رقيقة طيبة. . . خرجت لألقي بنفسي على طوار الشارع أرمق الناس بنظرات راجفة فيها الضيق والألم.
لا عجب - يا قلبي - فإن الإنسانية حين تتهاوى تسفل فتتضع فتنحط إلى أوضع مراتب الحيوانية! كامل محمود حبيب