مجلة الرسالة/العدد 875/أخوان الصفا ورسائلهم

مجلة الرسالة/العدد 875/أخوان الصفا ورسائلهم

ملاحظات: بتاريخ: 10 - 04 - 1950



للدكتور حسين الهمداني

الدكتور حسين الهمداني أستاذ متخصص في التاريخ

الإسلامي، وهذا البحث مما عني بدراسته عناية خاصة، وقد

ألقاه في رابطة الأدباء بالقاهرة، ومما تخصص فيه الدكتور

الهمداني بحث الدعوة الإسماعيلية باليمن. وآثاره في هذين

الموضوعين معروفة في البيئات العلمية العربية والاستشراقية

وله بحوث قيمة في عدة مؤتمرات عقدت بلندن وبألمانيا.

اعتقد أن البحث عن (أخوان الصفا ورسائلهم) - على رغم كثرة ما تعرض له الكتاب طيلة مئات السنين الفائتة، برغم تعدد الآراء والنتائج التي استخلصت منها - لا يزال بحثا غامضا يشوبه كثير من الابهام، ويكتنف جنباته مزيد من التشكك والارتياب سواء كان ذلك من ناحية شخصية الأخوان أنفسهم الذين ألفوا الجماعة، أو كان من ناحية الأهداف التي كونوا أنفسهم وعاهدوا الله على تحقيقها. . .

ولم يصادف التاريخ في حقبة من حقبه جماعة كهذه الجماعة، ظل أمرها خافيا على الناس ملتبسا عليهم. وكثيرا ما قامت في الشرق والغرب جماعات سرية، دينية أو علمية أو سياسية أو إرهابية وكثيرا ما كانت تعمل في الخفاء، لا تعلن عن نفسها، ولا تفصح عن حقيقة أعضائها، ولكنها بعد وقت، طال أو قصر ظهرت، وعلم الناس من أمرها كل خافية. . . إلا جماعتنا هذه، فإنها بقيت إلى اليوم موضع الشك ومثار الإبهام والجدل وموطن الدهشة والغرابة.

ولكن يمكن أن يقال نتيجة لما اتصل بنا من بحوث الأقدمين وأحاديث الرواة، إن هذه الجماعة كانت مجموعة من علماء البصرة، تعاهدوا فيما بينهم في أواسط القرن الرابع الهجري، على إحداث حدث جديد، يقلب الأوضاع التي كانت سائدة، والنظريات المتواترة، دينية كانت أم سياسية عقلية أو نظرية أو مادية. . . وأول من قال بهذا الرأي أبو حي التوحيدي في كتابه (الإمتاع والمؤانسة) ثم جاء بعده جمال الدين أبو الحسن القفطي المصري فأورد في (تراجم الحكماء) كلاما طويلا، بل تسجيلا كاملا للحديث الذي جرى عام 983 ميلادية بين أبي حيان وبين وزير لصمصام الدولة، الذي خرج منه بنتيجة هي أن زيد بن عارفة تعهد وهو بالبصرة مع جماعة بينها أبو سليمان محمد بن معشر السبتي المعروف بالمقدسي، وأبو الحسن على بن هرون الزنجاني. وأبو احمد القفطي كان أميناً وحذراً في الرواية، فانه لم يخف في كتابه شكة في حقيقة لجماعة فقال: (ولما كتم مصنفوها أسماءهم، اختلف الناس في الذي وضعها. فكل قوم قالوا قولا بطريق الحدس والتخمين،، فقوم قالوا: هي من كلام بعض الأئمة من نسل على بن أبي طالب كرم الله وجهه واختلفوا في اسم الإمام الواضع لها اختلافا لا يثبت له حقيقة. وقال آخرون هي تصنيف بعض متكلمي المعتزلة في العصر الأول). والغريب أن القفطي اعترف بإمكان نسبة الرسائل إلى الأئمة العلويين، كما اعترف بوجود مذاهب أخرى، مع أنه استند كثيرا فيما قال إلى كلام أبي حيان.

ولكن يتبين من كل هذا أن تاريخ إنشاء الرسائل تراوح بين سنة 334 و373 هجرية وأن مدينة البصرة كانت مركزاً للجماعة. ولكن لو بعدنا عن القفطي لأعوز هذه النتائج كثير من الأدلة والشواهد. ومم يذكر أن الأخوان تحاشوا ذكر اسم البلدة كما لم يذكروا التاريخ.

وهناك رأى في أن هذه الرسائل ألفها مسلمة المجريطي سنة 398 هـ لأنه قال في كتاب (رتبة الحكيم) ما يأتي: (وقد قدمنا من التأليف في العلوم الرياضية والأسرار الفلسفية رسائل استوعبناها فيها استيعابا، لم يتقدمنا فيها أحد من عصرنا البتة. وقد شاعت هذه الرسائل فيهم وظهرت إليهم فتنافسوا في النظر إليها وحضوا أهل زمانهم عليها، ولا يعلم من ألف ولا أين ألف غير الحذاق منهم. . .

ونحن لا نستطيع أن نسلم بهذه النظرية؛ فكتاب (رتبة الحكيم) ثابت أنه ليس من تأليف المجريطي، بل هو منسوب إليه فقط فقد اثبت العلماء أن هذا الكتاب ألفه شخص غير المجريطي لا نعرف اسمه بعد قرن من وفاة المجريطي. ومن الجائز أن يكون صاحب كتاب (رتبة الحكيم) يشير إلى رسائل أخرى ألفها على نمط رسائل أخوان الصفا، وعلى كل فلو افترضنا انه من يريد من التأليف رسائل أخوان الصفا فالمجريطي ليس هو صاحب هذه التأليف.

وهناك رأى أخر وهو ما نادت به الدعوة الفاطمية باليمن وهو ينصب على أن هذه الرسائل ألفها أمام من الأئمة الفاطميين المستورين قبل ظهور المهدي بالمغرب هو أحمد بن عبد الله بن محمد بن إسماعيل بن جعفر الصادق في أيام الخليفة المأمون العباسي، وأول من قال بهذا الرأي الداعي علي بن محمد الوليد الأنف المتوفى سنة 613 هـ (1216) ومن بعده الداعي إدريس عماد الدين المتوفى سنة 872 هـ (1467م) ولاشك أن هذا الرأي يلقي ضوءاً على الصلة بين الرسائل والحركة الفاطمية الإسماعيلية ولكننا لا نعرف شيئا عن هذا الأمام المستور وليس هناك ذكر لهذه الرسائل، فضلا عن ذكر مؤلفها، في الكتب التي ألفت في أيام الفاطميين في مصر أو في غيرها من البلاد الإسلامية.

ومما يثير شيئا من الدهشة أيضاًأن الرسائل كانت خالية تماما من ذكر الفاطميين مع انتساب هذه الجماعة إلى دعوة أهل بيت النبي؛ ومع أن الدعوة الفاطمية طرف متصل بالدولة الفاطمية التي بدأت في المغرب وتسربت حتى مصر وسوريا فليست هناك شواهد داخلية أو خارجية ترمي إلى إثبات هذه النظرية أو إلى صحة هذه العقيدة إلا أن يقال أن الصلة قوية بين الآراء والتعاليم التي تتضمنها الرسائل وعقائد الإسماعيليين، وإلا أن الرسائل كانت مصطبغة تماماً بالصبغة الإسماعيلية نفسها. وقد وصل إلى هذا الرأي كل المستشرقين أمثال كازانوفا، ودى بور، وجولد تزيهر، وغيرهم. .

هذا وقد وجدت رسائل أخوان الصفا كلها كاملة فيما عدا (الرسالة الجامعة) وتعتبر أهمها، حتى جاء المستشرق الفرنسي كازانوفا في أواخر القرن الماضي، وأعلن عثوره على نسخة خطية منها فريدة، كانت صفحاتها الأولى بما تحمله من تعريف بها مفقودة تالفة، فأخذ يدرسها ويبحثه حتى خرج من البحث إلى أنها (الرسالة الجامعة) وهنا أخذ العلماء يدرسون الرسائل من وجهة أخرى حتى اتجه الفكر أخيراً كما قال الأستاذ عبد اللطيف الطيباوي إلى وجود صلة بين الفلسفة أخوان الصفا من جهة وعقائد الإسماعيلية من جهة أخرى وهناك نسخ خطية من هذه الرسائل توجد في مكتبة ميونيخ في ألمانيا وفي دار الكتب المصرية ومكتبة المغفور له أحمد باشا تيمور وفي خزائن ولي الدعوة الفاطمية باليمن والهند. والغريب أن كل هذه النسخ منسوبة إلى الحكيم مسلمة المجريطي ماعدا النسخ المحفوظة في اليمن. وكانت الدعوة الفاطمية اليمنية تهتم برسالة الجامعة منذ أواخر عهد السلاطين الصليحيين اهتماماً بالغاً. وقد عرفت الرسالة عندهم منذ القرن السادس وكانت تعرف باسم (الجامعة) وهم لا ينسبونها إلى المجريطي، بل يقولون إن الرسالة الجامعة لب الرسائل وروحها؛ وهي الرسالة المذكورة في رسائل أخوان الصفا. وكان الداعي إبراهيم بن الحسين الحامدي المتوفى سنة 557 هـ أول من أشار في كتابه (كنز الولد) إلى الرسالة الجامعة في عدة مواضع ونقل منها عبارات كثيرة.

ولهذه الرسائل أثر كبير في اليمن، حتى لكان الدعاة يعتبرونها بمثابة (قرآن الإمامة) وقد ذكر الشيخ السيفي أنه سمع بعض العلماء يقول: أن رسائل أخوان الصفا هي القرآن بعد القرآن وهي قرآنالعلم، كما أن القرآن قرآن الوحي؛ وهي قرآن الإمامة، وذلك قرآن النبوة.

وقد ادعى أخوان الصفا أن الرسائل تتضمن علوم بيت النبي (صلعم). ويظهر هذا في قولهم: (واعلم يا أخي بانا قد عملنا إحدى وخمسين رسالة في فنون الأدب وغرائب العلوم وطرائف الحكم كل واحدة منها شبه المدخل والمقدمات والأنموذج، لكيما إذا نظر فيها إخواننا وسمع قراءتها أهل شيعتنا وفهموا بعض معانيها وعرفوا حقيقة ما هو مقرون بها من تفضيل أهل بيت النبي (صلعم) لأنهم خزان علم الله ووارثو علم النبوات تبين لهم تصديق ما يعتقدون فهم من العلم والمعرفة. . .)

وقالوا كذلك (من أراد أن يدخل مدينة العلم وجنة الدين فليأت الباب كما قال النبي: أنا مدينة العلم وعلى بابها. ومن أراد أن يستفيد من هذه العلوم فعليه أولا معرفة الباب. وهي معرفة الحدود، ومن عرف حدود الدين فقد دخل الجنة، جنة الدعوة والدين الاختياريإذ لا إكراه فيه)

كل هذا الغموض وهذا الإبهام الذي اكتنف هذه الرسائل مبعثه عدم إفصاح الأخوان عن حقيقتهم، وهذا طبيعي، لأنهم كانوا جماعة سرية غرضها قلب النظام السياسي السائد في العالم الإسلامي وقتئذ عن طريق التأليف، أو عن طريق الأغراء على اعتناق الفكرة. لهذا سعوا إلى بث دعاياتهم في رسائلهم هذه عن طريق الكلام، متفادين اللجوء إلى أي إجراء آخر مما قد يعتمد عليه في الانقلابات التي ذخر بها التاريخ - ولقد أرادوا تغير الأوضاع وقلب النظريات عن طريق إنشاء فلسفة جديدة تخلق جواً وافقاً جديدين بال نسبة للفرد وبالنسبة للجماعة. وكانوا في هذا كله يسعون بجد واهتمام إلى هدم بناء الدين القديم وتأسيس دولة الخير؛ يصرف الأمور فيها علماء حكماء أخيار. وكانت كل أعمالهم ومحاولاتهم هذه تتم عن طريق خفي مقنع، يمكن أن نقول عنها إنها أعمال كان يشوبها الغموض من كافة نواحيها.

وكانوا كذلك يحاربون أهل الفكر المتزمت، ويطالبون بحرية الفك وحرية القول وحرية الفرد. والغريب إنهم كانوا يطلبون بتحقيق أمور هي في يومنا الحاضر هدف الناس وهدف الساسة؛ وكأنهم استشفوا مغاليق الغيب وعرفوا أن العالم لا ينصلح إذا وضع زمام الأمور في أيدي الشيب (الذين اعتنقوا الآراء الفاسدة والعادات الردية والأخلاق الوحشية مع استبعاد الشباب السالمي الصدور، الراغبين في الآداب، المبتدين بالنظر في العلوم.)

والكلام عن الرسائل وما جاء فيها كلام طويل، إذ تضمنت كثير من العلوم الفلسفية والهندسية والشرعية والأدبية كما تضمنت غرائب الحكم وطرائفها ولسنا اليوم بسبيل التحدث عنها وإنما ستطيع أن نتكلم عن ناحية أخرى من هذه الرسائل ولو أنها ليست في صميمها، وإنما تدور حولها.

فقد قصد الأخوان من وضع الرسائل الدعوة المذهب سياسي وديني جديد، ولكنهم عرفوا إنهم إذا ما قاموا بدعوتهم سافرة فإنها تكون عرضة للقليل والقال، كما تكون عرضة للجدل الرخيص. فأثروا أن يبثوا دعوتهم في تضاعيف أمور أخرى ويقدموها دواء للناس داخل غطاء، فكانوا يبثون دعوتهم في صور مقالات أدبية، وطورا في مباحث دينية، لا تحمل صبغة الدعاية ولكنها تظهر بمظهر البحث العلمي أو الأدبي.

وغريب أن يصل هؤلاء المتقدمون إلى ما وصل إليه العلم الحديث اليوم من تفضيل بث الدعوة في شئ من الغموض أو اللف والدوران، ونحن نجد اليوم الدول الحديث وأصحاب الأفكار ويقومون بنشر ما يريدون عن طريق كتب أو عن طريق المجلات أو الصحف، أو عن طريق معاهد يؤسسونها باسم العلو والدرس والثقافة. وها نحن نرى بيننا وحولنا كثيراً من هذا مما يضيق المقام عن سرده. وكأني بهؤلاء الأخوان قد توغلوا في النفس البشرية حتى وصلوا إلى النقطة الحساسة فيها فعرفوا قبل مئات السنين هذه الحقيقة وعرفوا الطريق الذي يصل بهم إلى الغاية.

وليس فينا من ينكر عليهم أدبهم وغوصهم لالتقاط المعاني واستخلاص الآراء. ولسنا ننكر عليهم توسعهم في المعرفة وامتلاكهم لناصية الكلام والبلاغة والبيان. ولكننا نعرف أنهم كانوا يريدون بث دعوتهم على نطاق وسع ونشرها بين الناس على كافة طبقاتهم، غير مقتصرة على طائفة ولذلك عمدوا إلى وضعها في أسلوب بسيط ممتع تستطيع العامة قبل الخاصة أن تفهمه وأن تستوعبه.

وثمة حقيقة أخرى تظهر بوضوح مدى التفكير البعيد الذي سبقنا الجماعة إليه قبل مئات السنين، فقد حدث أنه بعد أن ألفت الرسائل أرسلت سرا وبواسطة مبعوثيهم إلى بعض الدول الإسلامية. وفي وقت وفي ساعة متفق عليهما ظهرت هذه الرسائل في مساجد هذه البلاد المهمة وأمكن الاطلاع على ما فيها. وقد يكون هذا جائزاً في عصرنا الحالي، عصر السرعة، حيث يقوم التليفون واللاسلكي والطائرة. أما يوم كانت واسطة الانتقال الوحيدة الدابة والجمل فإنه أمر يدعو إلى الدهشة وإلى أعمال الفكر. . . وهكذا سبقنا أخوان الصفا إلى كثير مما عمدنا إليه اليوم، وهكذا سبقونا في الفكرة ثم في كيفية التنفيذ.

حسين الهمداني