مجلة الرسالة/العدد 875/الأزهر في مفترق الطرق

مجلة الرسالة/العدد 875/الأزهر في مفترق الطرق

ملاحظات: بتاريخ: 10 - 04 - 1950



للأستاذ احمد الشرباصي

من شرائط الوصول إلى الحق، والتوفيق لكلمة الصدق، القصد في النقد، والاعتدال عن الحكم، والنزاهة في الرأي، والنأي عن الاستجابة لعاطفة قوية أو غي جامح! وكم من حقوق ضاعت بين الهوى المفرط والبغض المفرط؛ وكم من صيحات إخلاص بعضها مخلص ضاعت فلم يستجيب لها أهلها بسبب ما اكتنفها من شدة أو إسراف!. .

لقد فسحت (الرسالة) الزهراء صدرها الرحيب للأقلام الناشئة والقديمة على السواء لكي تصولوتجول في الحديث عن الأزهر والأزهريين، واشترك في هذا الميدان الأزهري الشاب والأزهري العجوز والأزهري الوسط؛ وتلك عناية مشكورة تبديها الرسالة الغراء بالأزهر، أو بمعنى أدق تعيدها، فليست الرسالة بجديدة العهد والصلة بالأزهر، فمنذ سنوات وسنوات وهي تهتبل الفرص والمناسبات لتذكر بخير أو تدعو الأزهريين إلى معروف، فشكر الله لها، وجزاها خير كفاء ما قدمت وتقدم.

لكني لاحظت على كثير ممن كتبوا أنهم غضبوا لنقص موجود أو عيب أو حق مضيع، فشرعوا رماحهم المسنونة، بدل أن يشرعوا أقلامهم الرفيقة الرقيقة؛ فشنوها حربا قاسية على الأزهر. والأسلوب إن حمدناه عند دواعي اليأس والرغبة في إثارة الهمم واستنهاض العزائم، فلن نحمده حين يكون المقام مقام بحث عن حقيقة، ووصول إلى فكرة، وتحديد لهدف، واتفاق على وجهة إصلاح!. . وكيف يتأتى ذلك والأقلام المشبوبة قد صورت أن الأزهر قد خلا من معناه، ومن رجاله الجدراء به، ومن الكتاب الصالح فيه، ومن المدرس الصالح له، ومن الطالب المعتز به، و. . . ماذا بقي بعد هذا من الأزهر المسكين حتى يحكم عليه بالوجود، أو بعدم الوجود؟. . لم يبق اللهم إلا هذه الأحجار المرصوصة التي نالت منها يد الزمان ما نالت، ونالت منها يد المصلحين أو المبدلين ما نالت هي الأخرى، وما أهون هذه الأحجار مجردة في نظر الناس ونظر التاريخ!. .

وهل حقيقة أفلس الأزهر كله من رسالته وجماعته وكتبه ومدرسيه؟. . فلنتريث في الجواب حتى نعرف فصل الخطاب!. . لا جدال في أن الأزهر الشريف كان قبل النهضة المعاصرة يغط في سبات عميق، وكان مقطوع الصلات بالحياة والأحياء، وكان أشبه بالأث الكريم العزيز على قومه، لا ينتفعون منه ولكنهم يبقون عليه إجلالا للماضي وهيبة من التبعة ورجاء للمستقبل. . ثم تنادي الغير المصلحون بوجوب إخراج الأزهر من عزلته فخرج بلا شك. . صدرت من أجله القوانين وغير ت النظم واستحدثت الوسائل وجددت الأشكال والمظاهر، وحذفت كتب وجاءت كتب، وطمعت طرق التدريس فيه بما طمعت.

وخدع الأزهر بريق التجديد فأنطلق في سبيله عجلان لا يتلبث، وأسرف في هذا التجديد بلا تحديد، أو بلا تفرقة بين التجديد في المفيد والتجديد البعيد عن الجوهر والأصل، حتى أشفق بعض الناس على الأزهر الشرقي العربي الإسلامي المصري من هذه الوثبة الواسعة التي لا تطيقها قدماه اللتان طال بهما الوقوف والسكون، فدعوا الأزهر إلى التأني والالتفات إلى الوراء، لعله ترك خلفه ما هو أولى بعنايته واهتمامه مما يخطف بصره من بريق يتطلع إليه في الأمام.

ووقف الأزهر حائر مبلبل الفكر تائه اللب، يريد أن يرضي دعاة التجديد فيسمى نفسه جامعة، ويرسل بعوثه إلى أوربا، وينشئ كليات ومعاهد، ويقيم معامل وملاعب، وغير ذلك من أشكال وأنماط، ويريد أن يرضي أيضاًدعاة القديم فيدرس كتب القدماء، ويعني بالمتون والشرح والحواشي والتقرير، ويتزمت في التقيد بآراء السالفين حتى فيما تحسن فيه الحرية كالأدب والبلاغة وعلوم البيان. . ومن هنا يستطيع من يريد أن يلتمس للأزهر وجوه محافظة وإيثار للقديم أن يجد ما يريد من الشواهد والبراهين، كما يستطيع من يريد أن يصف الأزهر بالتجديد أو بالتجديد في الشكل دون الجوهر والأصل أن يجد ما يدلل به على ما يقول.

ونستطيع نحن أن نقول إن الأزهر الآن في فترة بلبلة واضطراب، فلا هو بالقديم ولا هو الجديد، وحتى اليوم نستطيع أن نقل إن الأزهر قد عرف طريقه المستقيم بين أنصار القديم وأنصار الجديد؛ فقد جدد فعلا ولكن التجديد في الغالب كان في الأساليب والأوضاع لا في المنهاج والأهداف، واستحدث فعلا ولكن على سبيل الاقتناع أو الاستقلال. وحسبك دليلا على هذا أن الأزهر في الغالب ينتظر حتى يتصرف سواء ثم يسير على خطاه!

والأزهر محافظ فعلا رغم هذا التجديد، فروحه وكتبه وأفكاره وطرزه في تناول الأشياء وأحكامه على أمور الحياة وخاصة عند الكبار، كل هذا لا يزال وثيق الصلة بالماضي، عريق الجذور في تربة السلف!. .

لكن هل معنى هذا أن الأزهر مختلف أو جامد أو ميت؟ لا، فالأزهر سائر حتى يأخذ طريقه إلى ما يريد، أو إلى ما يراد له، يستقيم على طريقة حينا، ويتعثر في خطواته بسب الأعاصير أو الأضاليل أحيانا، ولا أزيد!

وهل معنى هذا أن الكتاب في الأزهر لم يتغير ولم يتبدل؟. كلا، فقد تبدلت الكتب وتغيرت، طبعت الكتب الصفر طبعة جديدة، ونقحت وهذبت وعلق عليها وترجم لرجالها، وحدث فيها بعض التغيير والتجديد، وإذا كان هذا لم يخرجها بأكملها عن صورتها الأولى فليس ذلك بضائرها في فترة نعتبرها فترة تجربة وانتقال من حال إلى حال في تاريخ الأزهر الطويل. . . كذلك ظهرت في الأزهر كتب جديدة لها قيمتها العلمية، وأنشأها رجال في الأزهر لهم مكانتهم وثقافتهم، ونستطيع الآن لكي نقتنع بهذا أن نتذكر كتب أمثال الأساتذة الإجلاء شلتوت ومحمد يوسف موسى والصعيدي وغلاب وحامد مصطفى والبهي وماضي وعنتر ومحيي الدين والمدني والنجار ويوسف الشيخ وحامد عوني وغيرهم.

كذلك في الأزهر بلا شك اليوم كوكبة معجبة من الأساتذة المدرسين، وأغلبهم من الشباب، وهؤلاء فيهم الثقافة والدرية وسعة الأفق والشوق إلى العمل والاصلاح، ولكن حوائل كثيرة تقف في وجوه هؤلاء فلا تمكنهم من تحقيق ما يريدون من أحلام وآمال؛ فإذا أردت إيقاعي في (شر عملي) وسألتني ومنذا الذي يقيم تلك الحوائل؟. قلت لك: ارتفع في الصفوف العليا ثم اسأل!. .

قد تسألني: وما عيوب الأزهر إذن؟ فأوجز لك قائلا: عيوب الأزهر هي الحيرة بين القديم والجديد، انقطاعه عن متابعة الحياة، وتفرق وجهات النظر فيه، وتوتر العلاقات الداخلية بين أهليه، ومتابعته متابعة التسخير لسواه، وانصراف الطلاب عن رحيقه لانشغالهم بغيره من جاذب الحياة؛ فمن للأزهر بعد كل هذا؟. . له الله!. .

احمد الشرباصي

المدرس بمعهد القاهرة الثانوي