مجلة الرسالة/العدد 875/الشعر المصري في مائة عام:

مجلة الرسالة/العدد 875/الشعر المصري في مائة عام:

ملاحظات: بتاريخ: 10 - 04 - 1950



علي الليثي

للأستاذ محمد سيد كيلاني1896 - 1822

- 2 -

في هذه الأبيات يعبر الشاعر عن إحساس داخلي مفعم بالحزن، ويترجم عن شعور صادق فياض بالأسى على ما حاق بالوطن من نكبات الجسام، ويتحسر على أيام الرخاء والصفاء. ويندب مريع الحظ والأنس الذي أقفر. ولا شك في أننا نرى مظاهر الحسرة والألم بادية بوضوح في قوله:

كان إقليمنا رياض صفاء ... فيه للواردين أعذب منهل

بساطة في التعبير ولكن لا نكلف ولا تصنع.

وقال:

من رآه يقول توفيق مصر ... أبصر الناس بالأمور واعدل

قد أمنا الزمان فيه ونمنا ... آمنين الخطوب لا نتململ

وهنا يذكر فترة الرخاء القصيرة التي أشرقت على البلاد قبيل جنوح الحركة العربية إلى الطيش الذي اضر بالأمة المصرية ضرراً بليغاً. وعبارة البيت الثاني ضعيفة، ذلك لأنه قال (أمنا الزمان) ثم قل (ونمنا آمنين الخطوب) والجملتين بمعنى واحد.

وقال:

نتهادى في ضل أسمى مليك ... من سجاياه كل خير يؤمل

فسرت أعين الحوادث فينا ... فاطرحنا الوقار والأمر أعضل

البيت الأول تامة المعنى. وفي البيت الثاني انتقل إلى لاعتذار فزعم أن الدهر قد حسد المصريين فتركوا ما طبعوا عليه من الهدوء والسكينة. وفي تعبيره بضمير المتكلم في قوله (فاطرحنا) اعتراف صريح منه باشتراكه مع العرابيين في حركتهم. ويظهر في البيتين شعور الحزن والدم. ورد الحركة الغربية إلى الحسد الدهر أمر لطيف واعتذر جميل وقال:

ورأى غرنا من الحلم أمراً ... غره فابتغى الذي لا يح وإذا المرء كان بالوهم يبنى ... فخيال الظنون ما قد تمثل

وبح قوم سعوا لإدراك أمر ... دون إدراكه الجبال تزلزل

والغير هو عرابي الذي اظهر جهلا عظيما وقصر في نظر الشؤون السياسية. ومعنى البيت تافه. والبيت الثاني جيد المعنى أراد أن يجريه مجرى الحكم. أما معنى البيت الثالث فقد ورد في البيت الأول.

وقال:

ما أصروا عليه إلا اضروا ... بناس من نابه ومغفل

ذاك يسعى على التقية خوفا ... وسواه يسعى لكما يجمل

لو أصابوا الرشاد عند ابتداء ... كانت الغاية الجميلة امثل

ذكر في البيت الأول أن العرابيين بإصرارهم على خطتهم قد الحقوا الضرر بالناس أجمعين. وفي البيت جناس بين (أصروا) و (أضروا) وطباق بين (نابه) و (مغفل). وفي البيت الثاني يذكر أن الذين انضموا إلى العربيين كان منهم متطوعون المؤمنون بما يدعو إليه عرابي وزملاؤه ومنهم المكرهون الذي أرغموا على تأييد تلك فشايعوها رهبة لا رغبة. ومعنى هذا البيت مأخوذ من الواقع لا من الخيال.

وفي البيت الثالث يقول لو أن العرابيين منذ بداية أمرهم وفقوا إلى الصواب لحمدت العاقبة. وهو في هذا يستمد من الواقع ويستوحي القول من الحقيقة المرة التي صمدت الأمة. وفي البيت الأخير نرى روحاً وطنياً سامياً. إذ نظر الشاعر إلى هزيمة العرابيين أمام الإنجليز على أنها معرة لحقت بالأمة في حين أن المشايعين للخديوي والراغبين في التزلف إليه اعتبروا هزيمة الجيش المصري في نصر الله الذي جاءهم والفتح، وراحوا يتغنون بفوز الإنجليز وبنجاح أسطولهم وجيشهم في القضاء على العرابيين.

ثم قال:

آه من رقده الحلوم ودهر ... أيقظتنا صورفه إذ تبدل

كانت الناس في ظلال نعيم ... تجتني من ثمار غصن تهدل

ما لنا لم نقم بجد وتدعو ... من عدا للهدى وننصح من ضل

ما لنا كلنا سوى القل منا ... قد سلكتا سبيل غار مضلل قد تساوى الغبي والمتغابي ... وعليم من جاهل صار اجهل

هذه أبيات مؤثرة لأنها صادرة من أعماق الفؤاد فيها تأوه وتوجع وتحسر وتفجع وبكاء على ما أصاب الوطن وأهله. ويلوم الليثي العقلاء من المصريين لأنهم لم يسمعوا في إزالة الشقة التي فصل بين الخديوي والعرابيين والتي كانت نتيجتها الوبال والخسران. وهو من غير شك صادق في شعوره، مخلص الإخلاص كله فيما يتحدث به. وفي هذه الأبيات يعترف الشاعر بان المصريين - سوى أقلية منهم - قد أن خرطوا في سلك العرابيين وهو محق فيما يقول:

ثم قال:

قد جبنا وصاحب الجبن جان ... وهو بالطبع في الأنام مرذل

لو رزقنا السداد لانسد باب ... وحقنا دماء قووم تحلل

كان يا قوته المذاب مصانا ... فسقينا به الثرى إذ تهيل

كم غرسنا جماجماً وجسوما ... وجنينا الأسى بزلة من زلة

من يقرا هذه الأبيات ولا يذكر الدماء الغزيرة التي تلطخت به ارض الإسكندرية والمحمسة والقصاصين والتل الكبير؟ أجل لقد بكى الليثي بكاء الوطني على هته الدماء التي سفكت والأرواح التي أزهقت. وناح على الأبرياء الذين قتلوا وخلفوا الأسى والحزن وقال:

يا ترى من يقوم عنا بعذر ... إذ أطعنا الغواة في كل محفل

حيث حدنا عن المليك وخفنا ... سطوة من عداه والقطر مقبل

حيث لا يرفع البريد شكاة ... وسلوك السلوك صار معطل

حيرة أدهشت ولى اللب حتى ... ما اهتدى للصواب منهم مجمل

ذاك سر القضا وليس عجيباً ... أن يحار الأريب فيه فيذهل

في هذه الأبيات اعترف الليثي بأنه أطاع العرابيين ومالأهم. وعذره في ذلك الخوف وعجزه عن إيصال شكواه إلى الخديوي لانقطاع الأسلاك البرقية بين المصر والإسكندرية، وتعطل البريد. وهذا ليس بعذر. فقد كان في استطاعته أن يلحق بالخديوي كما لحق غيره. وكان في قدرته أن ينزوي في ضيعته متمارضاً كما فعلبعض الناس. وهو دون ريب متكلف في هذه الأبيات يقول غير الواقع ويحاول أن يخلق لنفسه عذراًيبرر به مسلكه.

وأخيراً أحال الأمر على القضاء والقدر، وعزا اندفاعه في تأييد العرابيين إلى سر خفي من الأسرار الإلهية. وماذا كان قائلا غير هذا؟ أجل! لم يجد الرجل أمامه غير ما تقدم.

وقال:

غير أنا لما فقنا أرقنا ... من شؤون لعيون دمعاً تسلسل

وبسطا اللسان في ذم قوم ... إن ذكراهم نغص ونخجل

ومددنا أكف ذل لمولى ... شأنه البر كم علينا تطول

آل مصر بغيره لا تلوذوا ... إذ هو الملجأ الملاذ لمن ذل

يا عظيم الجناب يا خير ملك ... سعده قد أباد من قد تغول

في هذه الأبيات يذكر الليثي أنه لما انتهت الأمور بهزيمة العرابيين أفاق من أحلامه واصطدم بالواقع فبكى ندماً على ما فرط منه. وأخذ يلعن زعماء الحركة العرابية لما جنوه على أنفسهم وعلى مواطنيهم بجهلهم وقصر نظرهم ورعونتهم وطيشهم والليثي في قوله (وبسطنا اللسان. . . الخ) يصور المصريين وقد تنكروا لتلك الحركة وشرعوا يتقربون من الخديوي بالقدح في زعمائها. وفي البيت التالي تصوير لبعض من اتهموا بموالاة العرابيين وقد هرعوا إلى ساحة الخديوي طالبين العفو والصفح. ثم انتقل بعد ذلك إلى مدح الخديوي فخاطب المصريين وحثهم على أن يلوذوا بجانب الخديوي إذ هو خير ملاذ وأطيب ملجأ. وما أظن الليثي قصد مخاطبة المصريين الذين تسابقوا من تلقاء أنفسهم إلى ساحة الخديوي رغبة أو رهبة. إنما أراد أن يظفر بالعفو فنهج نهجاً فيه إغراء للخديوي بتحقيق أمنيته التي يصوب إليها. وذلك بتقريره أن الخديوي هو الملجأ والملاذ لمن ذل. فهذا التقرير فيه حث وإغراء. وفي البيت الأخير يخاطب الخديوي ويمدحه ويقول إن حظه الحسن قد أعان في القضاء على من شق عصر الطاعة من العرابيين. ومن الطبيعي أن يذكر الشاعر شيئاً كهذا في ذلك المقام.

وقال:

من بغى الوغى ثار فحكم ... في طلاه الحسام فالطيف فيصل

وأجعل العدل عادل الرمح فيهم ... نافذاً قدر ما يعمل وينهل

وأسقهم كالذي سقيناه إنا ... قد شربنا من بعد بعدك حنظل كان الخديوي توفيق يرتاح لمثل الأبيات. ولذلك أكثر الشعراء من تحرضيه على قتل زعماء الحركة العرابية، وإهدار دمائهم. ولو ترك له الأمر لما تردد في قتلهم. وقد جاء الليثي إلى الخديوي من الناحية التي يرتاح إليها، وضرب على الوتر الذي يسره. وذلك لا حقداً منه على هؤلاء الزعماء بل استرضاء للخديوي واسترداد عطفه وهو لم يرى في ذلك بأساً فمصير الزعماء كان قد تقرر. فتحريضه لا يقدم ولا يؤخر، ولا يغير من هذا المصير. وعلاوة على ما تقدم فإن الليثي في هذه القصيدة لم يحزن على الزعماء ولم يبك على ما أصابهم إنما حزن وبكى على ما أصاب المصريين من الكوارث والخطوب التي دهمتهم من جراء قيام الحركة العرابية. أما قوله:

(واسقهم كالذي سقيناه. . . الخ) فظاهر فيه الكذب، وأي حنظل هذا الذي سقيه؟ وكان في استطاعته أن يعتزل في ضيعته. وما قال هذا إلا ليصور للخديوي أن يد العرابيين امتدت إليه بالأذى وأنه قاسى منهم الأهوال وشرب الحنظل، فيرثى للخديوي له ويعطف عليه ويقربه منه إكراماً له وتقديراً على ما أصابه من شر العرابيين.

وقال:

وأغتفر ذلة لمن رغماً ... لبلاه ولا منيع يؤمل

كم مليك عفا وأنت المفدى ... فوقهم همة فلا تتعجل

وأمنح الناس من سجاياك عطفاً ... واجعل العفو موضع الشكر واعمل

فجدير بمجد ذات الخديوي ... كل فضل وليس للعذر محمل

ذكر في البيت الأول أنه أرغم على الانضواء تحت لواء الحركة العرابية. ثم أخذ بعد ذلك يلتمس العفو في عبارات في منتهى البساطة لا غلو فيها ولا مبالغة، ولا إمعان في التذلل والخضوع. ثم قال:

فابق واستبق من رعاياك قوماً ... أملوا العفو من حياك المسبل

إن تدقق تدق أعناق ألف ... بل مئين من الألوف تقتل

والرعايا تضيع بين عدو ... وولي له الفخار المؤثل

هكذا ختم الليثي قصيدته هذه، مستمداً ختامه من الواقع. فالذين اشتركوا في الحركة العرابية كثيرون أو كما قال: ما لنا سوى القل منا ... قد سلكنا سبيل غاو مضلل

فلو أن الخديوي قد تشدد لقضى على حياة مئات الألوف. وقد أجاد في الجمع بين بقاء الخديوي واستبقائه لقوم من رعاياه أملوا عفوه. ووفق في استخدام كلمة (رعايا) في هذا المقام. وكأنه أراد أن يقول إن الذين تعفو عنهم ليسوا بأجانب إنما هم وطنيون وممن ترعاهم. فإذا لم يستشعر الخديوي الحلم هلكت الرعية، وكيف يبقى الراعي بغير رعية؟ وكل هذا إغاء للخديوي على ترك الغلو والمبالغة في معاقبة من انضموا تحت لواء عرابي.

هذه القصيدة وإن كانت ضعيفة الأسلوب، واهية العبارة إلا أنها خير ما نظم الليثي. ذلك لأنه لم يكن فيها متكلماً ولا متصنعاً. إنما كان معبراً عن إحساس داخلي وشعور كامن في نفسه. وإذا قارنت هذه القصيدة بقصيدة عبد الله فكري التي نظمها في هذا الصدد لأدركت الفرق بين الرجلين فالليثي بدا في هذه القصيدة وطنياً مخلصاً. بكى على ما أصاب الوطن، وناح وتألم وتوجع وتحسر، وذكر الضحايا والشهداء وقرر أن هزيمة الجيش المصري معرة كبرى لحقت بالأمة أما عبد الله فكري فقد بكى على نفسه وشرع يستدر عطف الخديوي بعبارات الشحاذين. ومثال ذلك قوله:

أيجمل في دين المروءة أنني ... أكابد في أيامك البؤس والعسرا

وقوله:

وحسبي ما قد مر من ضنك أشهر ... تجرعت فيها الصبر أطعمه مرا

(للكلام صلة)

محمد سيد كيلاني