مجلة الرسالة/العدد 875/القصص

مجلة الرسالة/العدد 875/القصص

ملاحظات: بتاريخ: 10 - 04 - 1950



ضيف غريب

للكاتب السويدي الفكه المعروف هاس زيتر ستروم

بقلم الأستاذ احمد مصطفى

كنت قد فرغت منذ لحظات من تناول فطوري ودلفت إلى الشرفة. . . كان الخليج ينبسط أمامي بشطئانه الفسيحة المترامية، ولونه الأزرق الداكن، وتتألق فوق مياهه شمس متوهجة تتقد اتقاداً.

وبعد أن ثبت مقعدي بحيث أواجه مهب الريح، أخذت استمتع بالنسيم الرخي الفاتر فشعات في حنايا قلبي دواعي الغبطة والابتهاج. . .

ناولني الخادم برقية. . . وقد شعرت وأنا أتناولها منه بأنني سأجد فيها حتما ما يضايقني وينغص علي عيشي رغم أنني كنت اجهل بطبيعة الحال ما قد تتضمنه بين ثنايا سطورها. . .

صعدت زوجتي أيضاًإلى الطابق الذي كنت فيه. فقلت لها

- وصلتني برقية. . . فهل لك أن تحزري ما فيها؟. . .

- ليس لدي الوقت الكافي لحل الألغاز وفك الأحاجي. . . فضها وأنظر ما فيها. . . فضضت الغلاف فقرأت:

بحثت عنك في المدينة. . . سأتحرك في الرابعة والثلاثين. . .

تحياتي لزوجتك

(فردريك)

قلت لزوجتي

- هل تعرفينه؟. .

- كلا!. . ومن يكون فردريك هذا؟. .

لا أعلم. . . أنا أعرف شخصاً واحداً بهذا الاسم وهو ليس ممن يطيب له أن يبحث عني أويخطر له ببال أن يشخص إلى. . .

- لعل البرقية ضلت طريقها إلينا:. . .

- لا!. . . فالعنوان كامل ليت شعري أي فردريك هذا؟. . إنه سيتصل في السابعة. . . يجب أن ترتدي ثياباً لائقة، ثم اغسلي الأولاد قبل ربع ساعة فقط من الموعد ليمكن إبقاؤهم نظيفين. . .

غادرتني زوجتي، فخلوت إلى نفسي وإلى أفكاري. ثم نسيت فردريك تماماً إذ فقدته بين زورقي البخاري والجزيرة التي لجأت إليها التماساً للراحة والهدوء. . .

كان النهار رائعاً حقاً. . .

وفي أثناء تناول الغذاء قلت لزوجتي:

- الساعة السابعة بالضبط. . . ألا يجب أن نذهب لاستقبال فردريك؟

هبطنا إلى الميناء. . .

كان المرفأ يموج بعلية القوم الصلفاء الذين تعودوا تمضية أوقاتهم فيها على الدوام عابثين ساردين. . . وكان هناك المصور الشاب ذو القبعة الحمراء والمشية الوئيدة المتزنة، كما كانت هناك النساء اللائى درجن على أن يصدقن بسذاجة متناهية كل ما يقال لهن:

وما إن رمقني هؤلاء بعيونهن الزرق الواسعة التي حملت إلى قلبي كل ما في أرواحهن من معاني الوداعة والدلال حتى ابتدرت مخاطباً إياهن:

- نشبت ثورة عظيمة في باريس هذا الصباح، وأعلنت الأحكام العرفية، وقد بلغ دوي المدافع والانفجارات من العنف والشدة بحيث تعذر على السكان أن يسمع الواحد منهم صوت محدثه. لهذا فقد أضطر الجميع إلى تخلية المدينة والخروج إلى الأرض الفضاء لمواصلة ثرثرتهم ولغوهم هناك. . .

صرخت إحداهن بصوت حاد مؤلم وكانت أمها تقيم بباريس:

- أمي!. . . أمي!. . .

فقلت مسلياص إياها

لا تخافي ولا تحزني!. إنهم نقلوا النساء والأطفال جميعاً إلى ساحة معشوشة خضراء قبالة المدينة. . .

أخذت الباخرة تقترب شيئا فشيئا وكان القول قد تبعه العمل. . .

قلت لزوجتي:

- عاملي فردريك بمنتهى الرقة واللطف

التصقت الباخرة بالميناء. . . فحياني قائدها، كما حيا المصور الشاب، والسيدة التي هتفت بهبقولها: هل من أخبار جديدة؟.

خرج من الباخرة رجل وخط الشيب رأسه، ونال الزمان من فوديه، فقلت في نفسي:

أستبعد أن يكون فردريك هو هذا. . . ثم عرفته على التحقيق. لقد كان الرجل الذي تزوج حديثاً سيدة تملك متجراً في المدينة لبيع القمصان، وقد أبت صاحبته مغادرة عملها لأن موسم الصيف ملائم جداً لبيع أكبر عدد من باقات القمصان. . .

ثم خرجت إلى البر سيدة وبنتها. لقد عرفتهما أيضاًولوحت لهما بيدي. . .

وعلى أثر هؤلاء الثلاثة غادر السفينة رجل غريب، ضخم الجثة، متين البنيان، عريض ما بين المنكبين، يرتدي بدلة في غاية الأناقة وتوحي مشيته بالجرأة والاعتداد بالنفس. . .

وما إن لمحني حتى تقدم نحوي ووضع يده على كتفي وقال بصوت يمازجه الود والمرح؟

- ها! قد حضرت أخيراً أيها الشيخ الماجن!. . .

بات لزاماً أن يكون هذا هو فردريك بالذات. . .

تولتني الحيرة والذهول. . . إنه لم يسبق لي أن رأيت هذا الرجل في حياتي من قبل. ومع ذلك فهو يعرفني، بل ويتحدث إلي كما لو كنا صديقين حميمين منذ سنين. انغمسنا في الثرثرة وتبادلنا (الماجن، غير مرة. إلى أن قال أخيراً:

- والآن كيف أنت؟. هل الأطفال بخير؟. وكيف حال مرتا؟. .

إلهي. إلهي! إنه يعرف حتى اسم زوجتي.

- شكراً لك. . . إننا جميعاً بخير. . . إننا جميعاً بخير.

شكراً لك. . . شكراً لك. . .

مد إلي حقيبة كان يحملها:

- خذ هذه أنت بنفسك. أما الحقيبة الكبيرة فستأتي بها العربية بعد قليل. يبدو لي أن حضوري كان مفاجأة لك. أليس كذلك؟

وهنا لحقت بنا زوجتي أيضاً.

انبسطت أسارير وجه فردريك وأبرقت عيناه، وانحنى أمامها، حتى كاد أن يمس الأرض بناصيته ثم قال مخاطباً إياها.

- في كل مرة أراك أجمل مما كنت في المرة السابقة!

رمقتني زوجتي بنظرة شزراء مريبة ولكنني استدركت الموقف فلقت لها:

- ستأتي حقيبة فردريك الكبيرة في العربة بعد قليل. . . لفردريك حقيبة غير هذه التي أحملها بيدي لفردريك حقيبة كبيرة. . . ثم أخذت أتمتم بهذه الكلمات الأخيرة بغير وعي أو شعور. . .

أما زوجتي فقد كانت جامدة كالصنم، قاسية كالصخر.

ارتقينا ثلاثتنا التل إلى (الفيلا) التي كنت أقيم فيها. فقطع علينا فرديرك الصمت وقال موجهاً الحديث إلي:

- ما أجمل المكان الذي اخترته لنفسك! بكم استأجرته؟.

ثم استدرك قائلا: ولكن لماذا أسأل هذا السؤال؟. . . أي غرفة ستخصص لي؟. . .

- اختر أي مكان تشاء! أي مكان تشاء أيها الفتى الماجن؟.

قال لي فرديرك:

- عهدي بك لم تتغير كثيراً

فأجبت مرتبكا

- يؤسفني لا تكون أنت كذلك.

- ماذا تقول؟ ثم ما هذا الهراء؟ هل كبرت حقاً؟.

إن وزني لا يزال ثمانين كيلو وهو وزني بعينه منذ ست سنوات. . .

ثم أدار رأسه إلى زوجتي

- أتجدينني الآن أسمن مما كنت عليه سابقاً يا مرتا؟

أجابت زوجتي بجفاء ظاهر

- لا، لم تسمن إلا قليلا

اصطحبنا فرديرك إلى غرفة الاستقبال، وعندما غادرنا الغرفة قالت لي زوجتي بحدة

- ومن يكون هذا الطفيلي؟ - هذا هو فرديرك، الرجل الذي ابرق إلينا نبأ حضوره هذا الصباح.

- حسن جداً: وهل. . . سيبقى. . . هنا. . . في بيتنا؟

- هذا ما تدل عليه قرائن الأمور الآن. أو هذا ما يراه هو نفسه على الأقل.

كنا واقفين في فناء الدار، فأطل فرديرك برأسه من النافذة:

- أريد صابوناً فحقيبتي الكبيرة لم تصل.

التفت إلي زوجتي وقلت:

- مرتا! احضري له قطعة من الصابون سريعاً.

ولكن مرتا لم تحفل بكلامي بل ولت بوجهها شطر غرفة النوم، وذراعاها إلى الأعلى ثم ألقت هناك بنفسها على السرير.

كان هذا ديدنها في حالات الغضب والهياج. . .

فاضطررت إلى أن أحضر الصابون بنفسي

- كان فرديرك وقد خلع عنه سترته منهمكا في تنظيف ثيابه إصلاح شأنه، وعندما رآني مقبلا عليه ابتدرني قائلا:

- لم كان سعيدا في حياتي الآونة الأخيرة كما قد تظن. لقد هزتني (ألما) هزة عنيفة وهدت من كياني.

- أعرف ذلك تماماً. . .

وهنا أخذت اسأل نفسي. . . من هي (ألما) هذه يا ترى؟

أمتزوج هذا الرجل أم هو يحدثني عن خطيبته فحسب؟. . .

- النساء هكذا شأنهن دائماً

- أجل!. . . أنهن هكذا دائماً

- آلك ما تشكو منه؟. . .

- ليس كثيراً!. وأما الآن فليبس لدي ما أشكو منه إطلاقاً

- ألما، تقوم برحلة الآن

- هيه، هذا حسن

- نعم نعم إنها هي التي طلبت ذلك.

- وهذا أحسن طبعاً.

فرغ ضيفنا من ارتداء ثيابه فدلفنا إلى الشرفة. وما إن افرغ كأساً من (البنج) في جوفه حتى كانت زوجتي أيضاًقد لحقت بنا وشاركتنا حديثنا.

كان فرديرك في ذروة نشوته ومرحه. يمزح، يثرثر، يثير قهقهة إثر قهقهة حتى لقد أوشك أن يغمى على زوجتي ثلاث مرات من فرط الضحك.

وصلت الحقيبة الكبيرة، وكان أول عمل قمت به هو أنني هرعت إلى السلم لأقرأ عليها على الأقل العنوان الذي قد يرشدني إلى هوية صاحبها.

فرديرك لندنهولم.

هذا هو الاسم الذي وقع عليه بصري وأنا أتفرس جيداً في أحد جانبي الحقيبة.

لم يتبدد شيء من الظلام الذي يكتنف ذهني.

وعلى هذا المنوال أقام فرديرك لندنهولم هذا بيننا. غير أنه لم تكد تمر سوى ثلاثة أيام فقط متى كانت قد استحكمت بيننا وبين ضيفنا أواصر الألفة والمودة، واشتدت الوشائج التي تربط كلا منا بالآخر.

كان فرديرك قد أصبح عنصراً ضرورياً في حياتنا اليومية لا يمكن إغفال أمره أو الغض من أهميته. فهو حيناً يداعب الأطفال ويلاعبهم، وطوراً يساعدني في قيادة زورقي البخاري.

وقد استطاع بظرفه وخفة روحه أن يكسب حتى قلب زوجتي وثقتها.

قالت لي زوجتي ذات يوم:

- ليتك أنت أيضاًمثل فرديرك دائم المرح، بادي البشاشة، مستعداً لمعونة الغير في أي لحظة! إن الإنسان ليكاد لا يشعر بأي ضجر أو سأم عندما يكون قريباً منه.

استسلمت لبحر من التأمل والتفكير العميقين، بينما مرت الحياة رتيبة هادئة في بيتنا لا يكدر من صفوها وإشراقها شيء يستحق الذكر.

وبعد مضي ثمانية أيام تسلم فرديرك خطاباً، وما فضه وقرأه حتى قطب جبينه وبدت على قسمات وجهه علائم الجهد والاهتمام ثم قال:

- أصدقائي الأعزاء. لقد انتهى عملي هنا، يجب أن أسافر غداً صباحاً بدون إبطاء. إن (ألما) قد عادت من رحلتها وأظنكم تفهمون معنى ما أقول.

- نعم! نعم! أفهم ذلك حق الفهم - ولكنني أيضاًآسف أشد الأسف على فراقك أيها الصديق العزيز. لقد قضينا معا أياماً سعيدة. هل لك أن تعدنا بالعودة إلينا ثانية؟

أجاب فرديرك

هذا محتمل! ربما!

وعندما سمعت زوجتي نبأ اعتزام فرديرك العودة، وإن (ألما) كانت هي السبب في ذلك قالت والتأثر باد على صوتها:

- إن (ألما) هذه لشريرة مستهترة!

وفي صباح اليوم التالي شيعنا فرديرك إلى الباخرة، ولم يتأخر أي واحد منا في النوم برغم أن الوقت كان مبكراً جداً.

صعد فرديرك إلى سطح الباخرة، وعندما دنا موعد الرحيل ظل يلوح لنا بمنديله الأبيض إلى أن ابتعدت السفينة وتوارت عن الأنظار.

قفلنا راجعين إلى البيت واجمين وكأن على رؤوسنا الطير، وعندما وصلنا باب سور الحديقة توقفنا عن المسير لحظة. فابتدرت زوجتي قائلة:

- قل لي بربك من كان هذا الرجل؟.

- لا أعلم.

كنا قد أحببناه دون أن يعرف أحدنا الآخر. وعندما فراقنا خيل إلي أنني قد فقدت شيئاً ثميناً جداً وأحسست بالفراغ يحيط بي من كل صوب.

وفي غرفتي وجدت على المنضدة خطاباً فاختطفته في مثل سرعة البرق وتلوثه وأنا أكاد التهم ما فيه التهاما. ثم أعدت تلاوته من جديد وأنا مطرق ساهم غارق في لجة من التأمل العميق.

وإليك ما جاء فيه:

سيدي الأديب!

بينما أنا جالس ذات يوم مع زمرة من الأصدقاء في أحد الأماكن نتحدث عن أحسن مكان أستطيع أن اقضي فيه عطلتي الأسبوعية إذ ذكر أحدهم اسمكم وأثنى على جمال البقعة التي تزلون فيها وأوصاني حتى بالنزول في ضيافتكم. ولكني اعتذرت لعدم وجود تعارف سابق بيننا. غير أنه لمعت في ذهني في تلك اللحظة فكرة طريفة فقلت لأصدقائي: هل تراهنونني على أن اذهب إلى هذا الرجل دون أن يعرفه بي أحد أو أتلقى دعوة منه، فأمكث في ضيافته طول أسبوع كامل؟. . فقبلوا ذلك وتقرر تنفيذ الفكرة. التقطت عنكم وعن أسرتكم بعض المعلومات ثم حدث بعد ذلك ما أنتم به أدرى وأعرف. لقد كسبت الرهان اليوم. ولكنني أستشعر خجلًا شديداً كلما تذكرت ما جرى. اضطررت إلى أن أعترف لكم بالحقيقة. سامحوني. لن اقبل رهاناً كهذا بعد الآن وبخاصة إذا كنتم أنتم طرفاً فيه.

المخلص

فرديرك

خرجت من الغرفة وناولت الخطاب إلى زوجتي فألقت هي الأخرى أيضاًعليه نظرة خاطفة ثم صاحت: مدهش: مدهش!. وأعادت تلاوته ثانية.

وبعد أن أرسلت مرتا تنهيدة عميقة أدارت رأسها نحوي وقالت:

- مهما يكن فقد كان إنساناً نبيلاً حقاً!.

أحمد مصطفى