مجلة الرسالة/العدد 876/القصص

مجلة الرسالة/العدد 876/القصص

ملاحظات: بتاريخ: 17 - 04 - 1950



القبلة

للكاتب الأسباني أوسيبيو بلاسكو

في سجن من السجون ليس يعنينا اسمه، كان أحد المجرمين العتاة سجيناً. والحق أنه لا ينتظر في مثل هذا المكان أن يجد عدداً من خيار الناس، بيد أنه من بين الستمائة سجين الذين كانت تضمهم جدران هذا السجن الذي نسوق الحديث عنه، كان هذا السجين أشدهم خطراً.

كانوا يدعونه (الذئب). وكان في الستين من عمره، وقد أمضى من الستين اثنتان وأربعين سنة في سجون مختلفات. وكان منذ شبابه يتنقل من دار قصاص إلى دار قصاص، وقد حكم عليه بسبب السرقة حيناً، وبسبب القتل آخر حيناً. وإنه لمن المحال أن يقدم كشف جامع لجرائمه، وقد حكم عليه آخر مرة لجريمة أشنع من سابقاته كلها، بالسجن لمدة تزيد على البقية الباقية من حياته.

ولقد كان على قدر كبير من الضراوة، وسوء الخلق، حتى أن بقية السجناء كانوا يتحاشونه. وكان كلما مر بأحدهم نأى عن سبيله جهد المستطاع، إذ كان (الذئب) بطبعه شرساً عسر الخليقة. وقد حدث أكثر من مرة أن عض من اقترب منه كثيراً أو ركله بقدمه، أو شكه بالإبرة، وكان دائب العمل في جوارب من الصوف. وكان أكثر شراسة من غالبية القوم، متعطشاً للدم كأكثر الحيوانات المفترسة.

وكان يقضي الأيام والأسابيع في صمت قاعداً على الأرض، وأمامه عمله، وهو مطرق برأسه. وكان رأسه مغطى بشعر أسود، ولحيته التي سمح له أولوا الأمر بالاحتفاظ بها بدافع الخوف أو التحمل، مشعثة الشعر مهملة، وكانت عيناه سود قاسيتين، ونظرته مخيفة مهددة، وكان برغم سنيه الستين شديد القوى، وثيق عضلات اليدين، وكان مبعث الرعب الصامت في المكان كله. إذ كان لا يبادل الحديث أحداً، ولا يشارك الآخرين مزاحهم الآثم، ولكنه كان يحافظ على سمعته الذي كان الجميع يعترف به ويحترمه، وكان كلما رفع بصره، وألقى الطرف حوله إلى نزلاء السجن الآخرين، أشاحوا برؤوسهم، أو رفعوا أبصارهم إلى السماء بدلاً من لقاء نظرته.

وعين مدير للسجن جديد كان من أولى النشاط، حازماً لا يستهان به. وأخذ المسجونون بسبب صمته هذه يحدجونه بنظرات آثمة، ويتذمرون تذمراً منه دون سبب حقيقي.

وكان لهذا المدير طفلة صغيرة تدعى أورورا، لم تبلغ الخامسة بعد حين عين أبوها مديراً للسجون. وذهبت عصر يوم مع أبيها إلى فناء السجن ساعة الغداء. وبينما كان يقوم بوزن غداء السجناء ذهبت الطفلة في شجاعة الأطفال وأخذت تحدثهم، وكلمتهم جميعاً وضحك نفر منهم، وطلب البعض منها أن تشفع لهم عند أبيها، ولكن فريقاً منهم تمتم بألفاظ نابية ضد الأب وابنته.

وكان الذئب وحيداً، بعيداً عن الآخرين، جالساً على الأرض وظهره مسند إلى الحائط، وغداؤه موضوع بجانبه لم يؤكل نصفه، وكان يعمل بسرعة تبعث الدوار في صنع جورب. وكان مطرقاً برأسه ولم يرفع بصره حتى عند ما أصبح الوالد وطفلته على قيد خطوتين أو ثلاث منه. ونظر بطرف عينه، لحظة لا غير، إلى الرئيس وابنة الرئيس.

وحولت البنية أن تقترب منه، ولكن أباها منعها.

وقالت أورورا (أريد أن أقترب منه، وأتفرس فيه.)

فقال الأب (كلام أنه شرير جداً، خطر جداً، ربما يلطمك)

فقالت الطفلة (أنظر، أنظر، يا أبت، كيف يبدو! وأنه ليصنع جورباً!) فقال الأب:

(إنه ليصنع ذلك على الدوام؛ وقد أخبرني المدير السابق أنه شديد الخطر، وقد قضى في السجن كل حياته تقريباً. وله الآن هنا ثلاثون عاماً.) فقالت الطفلة

(ثلاثون عاماً! يا للمسكين! يا للرجل المسكين!)

ولما سمع (الذئب) الكلمات (يا للمسكين! يا للرجل المسكين!) رفع بصره، ورمق الطفلة بعينين محملقتين، ولكنه لم ينقطع عن العمل بإبرته، وكان المدير على وشك أن يقول لأبنته الصغيرة كلاماً، ولكنها انفلتت إلى الأمام وهي تصيح (سأمنحه قبلة.)

وقد فعلت ذلك. واقتربت من (الذئب) وقبلته دون اشمئزاز أو خوف، قبلة في وجهه تماماً، وهي تقول (خذها، ولا تكن شريراً بعد!)

وكأنما أصابت (الذئب) صاعقة. ولم يفه ببنت شفة، ولكن خرج من حنجرته صوت حشرجة، كالمشلول الذي يود الكلام فلا يستطيع، لما بلغ الأب وابنته الباب المؤدي إلى سكن المدير، التفت المجرم العجوز نحوهما وحدجهما بنظره.

ومر العصر، ثم المساء، وذهب (الذئب) ككل حيوان إلى عرينه.

وتعاقبت الأيام والأشهر، ولم يحدث في السجن المنظم شيء ذو بال. ولكن قامت ذات يوم من شهر يوليو عاصفة في اليم خارج السجن، وثارت في نفوس السجناء ثورة تجاوب العاصفة، وارتفع نذير العصيان، ورفض الرجال تناول الطعام الذي قدم إليهم، وانفجرت المؤامرة التي كانت تضطرم بكامل قوتها.

وهتف المسجونون (اطردوا الضباط! ليسقط الضباط! لنأخذ السجن!)

وقفز المدير كالفهد من غرفته حيث كان يقيل، وفي طريقه إلى الفناء أغلق باب مسكنه على طفلته حتى لا تتبعه. ولما دخل فناء السجن وجد أمامه ثلاثمائة رجل مسلح بملاعق خشبية كبيرة دببت أطرافها وأرهفت حتى لتقتل كالسكاكين

وأطلق الطلقات الست من غدارته، ولما أطلق الطلقة الأخيرة رأى وحشاً حقيقياً مقبلاً نحوه، رجلاً أشعث الرأس، كأنه رأس دب، وهو يصيح (لا تخف! أنني هنا!) وكان هو (الذئب).

وأمسك المدير من حزامه، ودفعه إلى الحائط وأوراه بجسمه، وأمسك في يمناه مدية كبيرة الحجم، لا يدري أحد كيف حصل عليها، وبدأ والمدية في يده يستقبل العدو، وهو يسدد طعنات صائبات حقي أن كل من اقترب من متناول يده سقط ميتاً عند قدميه.

لما وصل إلى نجدته الحرس المسلحون والشرطة، وانتهت المعركة، وهدأ كل شيء، ونجا المدير، سقط (الذئب)، وقد أثخنت الجراح رأسه وجسمه وكان في حشرجة الموت. وادخلوه سكن المدير بناء أمره، وأرقدوه على سريري ناعم وثير رقد على مثله لأول مرة في حياته. ورقد هنالك، يقلب الطرف حوله، بعينين باحثتين متوقعتين. . وتكلم (الذئب) بصوت متقطع وهو راقد هناك بين الحياة والموت، وهو يرمق الرجل الذي أنقذه من الموت.

وقال (الطفلة. . الطفلة).

وفطن المدير في لحظة إلى السبب الذي حمله على الدفاع عنه، أجل أجل لا ريب أن ذلك هو السبب! وجرى نحو مسكنه الذي أغلق بابه على ابنته، وقد نسى أن يفتح الباب حتى الآن وكانت الطفلة تبكي من الرعب. وأخذها بين ذراعيه وعاد بها إلى الغرفة التي كان الرجل العجوز يلفظ أنفاسه الأخيرة فيها. وكان (الذئب) العجوز راقداً وعيناه مفتوحتان محملقتان، وما زال لديه فسحة من الوقت لرؤية المخلوق الوحيد الصديق الذي لقيه في حياته، وليقول:

(مرة أخرى! مرة أخرى!)

ورفع الأب أورورا بين ذراعيه، وسمع صوت قبلة، قبلة وضعتها شفتان ملائكيتان لطفلة صغيرة على ذلك الوجه المفضن الذي لفحته السنون.

ولما غادر القس المكان، وما زال يتمتم بالصلاة وهو يحمل الزيت المقدس، ظل المدير ورجال الشرطة، ورجال الحرس، ركعاً أمام الجسد في صمت رهيب، وأخذت الفتاة الصغيرة بناء على كلمة من أبيها تقول في صوت حلو، رقيق، صوت الطفولة:

(يا أبانا الذي في السماوات، نقدس أسمك. .)

محمد سليمان علي المهندس