مجلة الرسالة/العدد 878/الشعر المصري في مائة عام

مجلة الرسالة/العدد 878/الشعر المصري في مائة عام

مجلة الرسالة - العدد 878
الشعر المصري في مائة عام
ملاحظات: بتاريخ: 01 - 05 - 1950



علي أبو النصر

. . . - 1880

للأستاذ محمد سيد كيلاني

بقية ما نشر في العدد الماضي

ومدح الخديوي توفيق بقصيدة مطلعها

روض الأماني تغنينا سواجعه ... فكل راج لها تصغي مسامعه

وكيف يرتاب من لاح اليقين له ... في جبهة الدهر أو من يخادعه

لم يبدأ الشاعر هذا المدح بالغزل كعادته. وإنما بدأه بذكر الأماني والآمال التي كانت تدور بخلد الناس حينما تولى الخديوي الجديد. والبيت الأول جيد المعنى والعبارة. أما البيت الثاني ففيه رد على اليائسين من الإصلاح ومعناه جيد. وقال:

وهل على من سعى يوما إلى غرض ... لوم إذا منحت منه موانعه

يقول إن من شمر العزم لتحقيق بعض الأهداف وفشل في ذلك فلا لوم عليه ولا تثريب. وهو بهذا يرد على المرتابين. والبيت جيد المعنى والتركيب. وفيه حجة مفحمة. وقال:

نحن الألى سلقتنا ألسن نطقت ... في عتبنا بملام عم شائعه

قالت لقد عصفت فيكم رياح هوى ... أمالكم عن سماع النصح ذائعه

تبنون من غير أس في تصرفكم ... ومحكم الأمر فاتتكم مواضعه

أضغاث أحلامكم كادت تؤولها ... آمالكم بحديث ضل رافعه

حيث الخواطر والأفكار خامرها ... من الحوادث ما عمت فظائعه

وجندت جندها الأيام عادية ... وجردت سيف غدر صال قاطعه

هذه القصيدة هي من أجود ما نظم أبو النصر. فلم يكن الرجل فيها متكلفاً ولا متصنعاً، ولا كاذباً ولا متملقاً. ولا مرائياً ولا منافقاً. وإنما كان وطنياً مخلصاً يعبر عن شعور داخلي كامن في نفسه ويترجم عن إحساس دفين بين جوانحة. وقد نسى الشاعر نفسه وتجاهل مصالحه الخالصة والنعم الكثيرة التي أغدقت عليه في أيام إسماعيل، ونظر إلى الأمو نظرة المشفق على ما فيه خير الأمة، المتألم لما أصاب البلاد من الكوارث والخطوب. وقد أطلق للسانه العنان فنطق في غير خوف ولا وجل، وانتقد في جرأة عجيبة. والأبيات جيدة المعاني والتراكيب.

وقال:

وكل من رام تدبيرا ولاح له ... جند الجرائد هالته طلائعه

هذا البيت مأخوذ من الواقع. وربما كان فيه إشارة إلى الصحف الأوربية التي أكثرت من مهاجمة الخديوي إسماعيل في أواخر أيامه. والمعنى جيد غير أنه كرر صورة واحدة في بيتين وهي صورة الجيوش في قوله (جندت جندها الأيام) وفي قوله (جند الحرائد) كما أنه كرر كلمة (جند) في بيتين متتاليين. وهذا غير جيد. وقال:

وما أجبتم سؤال المحدقين بكم ... كأنما القطر لا تغنى وقائعه

كم نزهتكم رباه في مراتعها ... فأصبحت وهي للراثي بلاقعه

أكرمتم الغرباء النازلين بكم ... لكن فلاحكم ضاقت مزراعه

هذه أبيات جميلة لأنها صادرة عن شعور فياض بالحزن على ما أصاب البلاد. وفيها موازنة بين الرخاه الذي كان في زمن سعيد وأوائل عهد إسماعيل وبين الضنك والبؤس الذي خيم على البلاد في أواخر حكم إسماعيل. وفيها إشارة إلى الضرائب الباهظة التي أثقل بها كاهل الفلاح فاضطرته إلى الاستدانه من المرابين أو إلى الفرار وترك الأرض قفرا لا زرع فيها ولا ضرع. وفي البيت الأخير بكاء شديد على ما أصاب الفلاح المسكين. وقد أجاد الشاعر في المقابلة بين الأجانب الذين تمتعوا بكل خيرات البلاد وبين الفلاحين الذين كانوا محرومين من ضروريات الحياة.

والأبيات الثلاثة جيده المعنى والأسلوب. وقد أسبغ عليها الحزن روعة وأكسبها جلالا. ومن قرأ البيت الأخير لا يسعه إلا أن ينحني إكبارا لأبى النصر الذي كان أول شاعر في العصر الحديث يعبر عن آلام الفلاح ويتعرض لذكر ما يعانيه من ضيق وفقر.

وكان أبو النصر كثير الاختلاط بالفلاحين فرأى من آلامهم ومتاعبهم ما ظهر أثره في هذه القصيدة فوقف فيها كما نرى موقف المدافع عن هؤلاء القوم، المفاضل عنهم، رافعا عقيرته بطلب الإصلاح. وقال: فمن لكم أن تروا عدلا أخاهمم ... يسركم بقدوم العدل طالعه

وهذا البيت تمهيد للانتقال من وصف الأحوال المحزنة التي أشرنا إليها إلى التنويه بالفرح المرتقب على يدي توفيق. وهذا التخلص جيد إلا أن أسلوب البيت ضعيف.

ثم قال:

فقلت مهلاً فكم من أزمة فرجت ... وأعقب الليل صبح ضاء لامعه

وإنما اليسر بعد العسر منتظر ... وأحسن الصبر ما ترجى منافعه

دعوا الأراجيف فلأوهام ليس ترى ... إلا خيال سراب غاض ناقعه

ولا يغرنكم منا الفتور فقد ... يسابق الركب في الفيفاء طالعه

في هذه الأبيات يرد على المرتابين في الإصلاح واليائسين من الفرج. وقد حاول أن يقنعهم بأن الفرج آت لا محالة. وقد أجاد إذ سلك طريق الحوار لعرض آرائه وبسط آماله وأمانيه.

ففي الأبيات الأولى أجرى الحديث على ألسنة المرتابين في الإصلاح، وعظم من شأن ما كانت تئن منه البلاد. وفي الأبيات الأخيرة أجرى الحديث على لسانه فأعرب عن رجائه في اليسر بعد العسر، وفي الفرج بعد الشدة. ثم انتقل من هذا إلى مدح الخديوي وخاطبه بهذه الأبيات:

نرجوه إنجاز إصلاح الشؤون عسى ... يصفو به الملك دانيه وشاسعه

فإن آمالنا أمته جارمة ... بأنها لا ترى شهما يضارعه

فكن مجيبا أبا العباس دعوتها ... فباب عطفك يلقى البشر قارعه

ووال فضلك يا خير الولاة لمن ... وإلى لأمرك يشقى من يراجعه

واستنتج الرأي إصلاحا فقد حجبت ... شمس الهدى بسحاب فاض هامعه

وطهر الملك من عات ومتهم ... تقوده للقضا جهلا مطامعه

هكذا وقف أبو النصر من الخديوي توفيق موقف الناصح الأمين والمرشد المخلص. ووقف كذلك موقف الوطني الغيور على مصلحة أمته فطالب برفع المظالم وتطهير الأداة الحكومية من اللصوص والمرتشين. وهذه الأبيات من أصدق الشعر الذي قيل في ذلك الوقت. ففيها تعبير عن رغبة شديدة كمنت في النفوس، وتطلعت إلى تحقيقها القلوب. وكان أبو النصر ممن ترجموا عن هذه الرغبات الكامنة ونطق بما ترجوه الأمة من الإصلاح ورفع المظالم.

وختم الشاعر قصيدته الرائعة بقوله:

فإن رعيت وراعيت الحقوق فما ... أولاك بالمدح يتلو الحمد بارعه

وفي هذا البيت تظهر جرأة الشاعر في مخاطبة سيد البلاد.

فهو يقول له إنك لن تكون أهلا للمدح والثناء إلا إذا قمت بما تتطلبه البلاد من الإصلاح ونشر العدل. ولا ريب في أن الشاعر قد وقف وأجاد حينما ختم قصيدته بهذا البيت المؤثر. وهذه القصيدة وإن قيل إنها نظمت في مدح الخديوي الجديد إلا أن ظاهرة المدح فيها لا تكاد تذكر. وطغت عليها ظاهرة الإلحاح في طلب الإصلاح. وهي أروع ما نظم أبو النصر، بل من؛ أروع ما نظم في ذلك الدور على الإطلاق.

وهكذا اشترك أبو النصر في التمهيد للحركة العرابية التي ظهرت بعد وفاته.

وللشاعر طريقة خاصة في الرثاء. فهو يبدأ بالتحدث عن الموت فيذكر أنه غاية كل حي، وأنه السبيل الذي يسلكه كل مخلوق. ويشير إلى إستحالة الخلود. ثم يتعرض لذكر الأصاغر والأكابر الذين ماتوا. ثم ينوه بالخطوب التي تصيب الناس بفقد العظماء. ويتلخص من ذلك إلى القول بأن أجل خطب في عصره هو وفاة فلان. ثم يشرع في التنويه بمناقب الفقيد. فلما رثي السيد مصطفى العروسي أورد الديباجة التي أشرنا إليها ثم تخلص منها بقوله:

وأجل خطب غصت الدنيا به ... في عصرنا فقد العروسي مصطفى

ورثى أحد العلماء فسلك الطريقة عينها وتخلص بقوله:

وأجل خطب ساء أرباب النهى ... فقد أن من تزهو به وتفاخر

وفعل مثل هذا في رثائه لعالم آخر وتخلص بقوله:

وأجل خطب هالنا وأهمنا ... أن غاب عنا ذو الفضائل أحمد

ونهج هذا النهج في رثائه للشيخ علي القوصي، فقال:

وأجل خطب غصت الدنيا به ... موت الإمام السيد القوصي علي

وهو ابن عبد الحق من حاز العلا ... شرفا وعلما وهو أستاذ ولي

فالرثاء عند أبى النصر صورة معادة وتكرار لبعض المعاني في عبارات تكاد تكون متشابهة. وليس في هذه المراثي ما يستحق أن نقف أمامه إذ أنها متكلفة مصطنعة. فكلما رثى شخصاً ادعى أن موته كان أجل خطب أصيبت به الدنيا. ولذلك لن نخسر شيئاً إذا تركنا هذا الباب من شعره.

ولأبى النصر قصائد قليلة يظهر فيها صدق الشعور والتهاب الإحساس وانتقاد العاطفة. ومثال ذلك قوله وهو بالأستانة يتشوق إلى مصر:

أبدا تشوقني لمصر ظلالها ... ويطوف بي مهما رحلت خيالها

ولنيلها أصبو وعذري واضح ... عذبت مناهلها وراق زلالها

هي منتهى أملي وأقصى بغيتي ... هي قبلتي والواجب استقبالها

ولطالما سرحت فيها ناظري ... وحلت إلى سهولها وجبالها

وجمعت بين رياضها وحياضها ... وسرت إلى جنوبها وشمالها

أرض المستفيد عوارفا ... تسدى النوال يمينها وشمالها

بلد بها وطني فلا لأبغي بها ... بدلا ولو بعدت وعز وصالها

لكن رأيت عزيزها طلب السرى ... منها إلى بلد يروق جمالها

ونظرت في شأن البدور وإنها ... لولا تنقلها لفات كمالها

وكذا اللآلي لو ثوت في كنزها ... مالاح في تاج العروس هلالها

فرغبت في الترحال وهي بخاطري ... مطبوعة منظومة أشكالها

ودعتها وفمي يقبل ثغرها ... ومدامعي يحكي الحيا استرسالها

هذه أبيات نقرأها فنعجب بها ونقف أمامها متأثرين بما فيها من روعة وجمال. فلم يكن الشاعر متكلفا ولا صانعا للشعر ولا ناظما جل همه البحث عن المحسنات اللفظية. وإنما كان ناطقا بما في أعماق نفسه وفرارة فؤاده، معيراً عن شوقه لبلاده، مترجما عن مبلغ تعلقه بوطنه تعلقا جمله يتخذه قبلة يولي وجهه إليها أينما سار. ولم تلهه عن بلاده مظاهر الجمال والمروعه التي يشاهدها كل من رحل إلى الأستانة؛ بل إن شوقه لبلاده وما فيها من رياض وحياض وسهول وجبال ونسيم عليل قد سيطر على ذهنه وطغى على كل شئ أمامه فلم يعد يرى غير مصر إليها يصبو ويحن، فهي كما قال منتهى أمله وأقصى بغيته. وفي كل بيت من هذه الأبيات تلمس قوة في التعبير. ومثال ذلك قوله: - أبدا - تشوقي لمصر ظلالها، ويطوف بي - مهما - رحلت خيالها، هي - منتهى - أملي، - وأقصى - غايتي، هي - قبلتي -، - فلا أبغي بها بدلا ولو بعدت -. وأنظر إلى البيت الأخير وهو:

ودعتها وفمي يقبل ثغرها ... ومدامعي يحكي الحيا استرسالها

فإنك لاشك متأثر بما فيه من روعة، تتخيل الشاعر وقد هوى على أرض الإسكندرية يقبلها ويبكي بكاء شديداً لهذا الفراق فتعطف عليه وتبكي لبكائه.

وكان أبو النصر مغرما ببعض أنواع البديع يحشدها في قصائده حشداً، ومثال ذلك قوله:

لي في ربا الشوق انهام وانجاد ... إلى الأحبة إن ضنوا وإن جادوا

وفيه طباق بين (انهام) و (انجاد) وبين (ضنوا) و (جادوا) وفيه جناس بين (انحاد) و (جادوا).

ومن تلاعبه بالألفاظ قوله وهو بحضرة شيخ الإسلام في تركيا:

وكما ترى مصر السعيد جنة ... ونحسبها دون البلاد هي العليا

فلما رأت دار الخلافة عيننا ... علمنا يقينا أنها لهي الدنيا

ففي كلمة (الدنيا) تورية لطيفة تدل على البراعة والاقتدار في الصنعة.

وللرجل شعر ينحط في أسلوبه إلى العامية. ومثال ذلك قوله.

سده واجب أكيد وإني ... أبتغي في مسافة الشهر سده

وقوله:

مني عليكم كل يوم تحية ... وسائراً أحبابي الكرام ذِي المجد

كذا جملة الأخوان شرقا ومغرباً ... متى سألوا عني ولو أخلفوا ودي

وهذا كله من تعابير الدهماء.

وحاول صاحبنا أن ينظم في باب الحكم. وله قصيدة قلد فيها صالح بن عبد القدوس فأخفق إخفاقاً تاما. ومن هذه القصيدة قوله:

حسن الخليفة للخليفة يوجب ... حسن الرضا عنهم ونعم الموجب

والعلم يزفع قدر من عملوا به ... والعاملون بغير علو كذبوا

والمدعي ما ليس فيه جهالة ... لاشك عند الامتحان يكذب

وهكذا كلام خلو من المعنى. وفضلا عن ذلك فإن عبارة المبيت الأول في منتهى الضعف وقد كرر القافية في قوله (كذبوا) و (يكذب) وهما من فعل واحد.

وحاول أن ينظم في باب الحماسة فجاء شعره متكلفاً مكذوبا.

ومثال ذلك قوله:

بليت بلا الهبا إن لم أصابر ... ولو يلقى على ظهري ثبير

فكم جبت المفاوز للمعالي ... على قدمي وقد ند العبير

ووسدت الصفا شرقا وغربا ... وعافتنى النمارق والسرير

وهذا افتراء عظيم. وليس في تاريخ الرجل ما يدل على أنه قطع مغازة واحدة أو ركب بعيراً.

ومما عبته عليه قوله في الخديوي إسماعيل

وإذا تشرف من يراك النعمة تهدي إليه سوى رضاك فقد كفر قفيه تكلف ومغالاة تخرج به إلى حد الكذب الصريح.

ولاشك في أن الرجل كان ضئيل الحظ من الاطلاع على آثار الفحول. ومعظم شعره في المدح. وحسبنا أن نقف في حديثنا عنه عند هذا الحد.

محمد سيد كيلاني