مجلة الرسالة/العدد 878/القصص

مجلة الرسالة/العدد 878/القصص

ملاحظات: بتاريخ: 01 - 05 - 1950



دموع من الماضي

للأستاذ أحمد شفيق حلمي

وهرعت إليك يا سيدي العمدة، لأنفض بين يديك جل أمري، من همومي وأتراحي. . . وأنا حطيم القلب كسير الخاطر. وأنت تعرف كيف يقتل القلب الحزن المضيء والبكاء الأسيف! وكيف يعصر الروح أنين الثكالى والنواح الحزين!

(فرج الله) ولدي الوحيد يا سيدي العمدة. (فرج الله) ربيعي في الخريف العابس! أظنك تعرفه جيداً! لقد حدثتك عنه ودموع الفرح تتراقص في عيني. . . بل أنت نفسك قد ساهمت في وجوده! لقد ولد بمالك المبارك، فأرسلت للقابلة أن تأتي، وزوجتي (فطومة) تعاني آلام المخاض، وتتلوى كالثعبان! أرسلت في طلبها من أجلي أنا الأجير المسكين. فاكتحلت عينا طفلي بالنور على يديها المباركتين الصالحتين. . . واندفعت وقتذاك نحوها بفرح ألح عليها أن تأخذ بطة سمينة، وثلاثة أقداح من الذرة، وهي كل ما أملكه حينذاك! كدت أذوب خجلاً وأنا أتقدم إليها بالهدية المتواضعة. ولكن ما العمل وضنك العيش بدفع بنا إلى الفاقة!؟

وأظنك تذكر ذلك الفرح العظيم الذي أقمناه، وقد أتم (فرج الله) سبعة أيام من عمره. . جاءت المولدة في الصباح، ومعها من البخور أصناف شتى من المسك والكافور، وبعض أنواع النباتات الخضر. وأقبلت نحو فطومة، وقبلتها في وجهها، ثم جعلت تتمتم بدعاء خاص. . . وهي تهز شيئاً تحمله فوق رأسها، ثم أنهضت فطومة، فأطلق البخور. . . ولفت حوله سبع مرات والأطفال تتصايح في مرح، وراحت المولدة تطوف في أرجاء الدار، والطفل بين راحتيها، والنسوة من حولها يلقين الملح على الرءوس، ويهللن بالأفراح!

وتقدمت أنا وألبست الطفل حجاباً يحفظه من الأرواح الشريرة، وأخبرتني بعض النسوة أن أحمل معي ليلة الجمعة الميمونة ملابس الطفل إلى ضريح الشيخ الأتربي، وهناك أغمسها في الماء المبارك الذي غسل به المقام الطاهر كي يطيل الله في عمره، ولكني في غمرة الفرح بطفلي نسيت أن أفعل وأسفاه.

- 2 -

وكانت فرحة لم تتم، وبشر ذاب في موجات الأسى والحزن.

إني أذكر يا سيدي العمدة، ما قالت القابلة وقتذاك. . .؟ فانتزعنا فرج الله من بين أحضان أمه الحبيبة، وهي من الأسى ترسل الدموع سخينة حارة من أجل فرج الله، وقد ضرب بينها وبينه بحجاب، فهي لا تراه وهو لا ينعم بها. وما العمل وقد فرق المرض اللعين بين أم ووليدها!

وطفق الصغير ببكي في لوعة، وأنينه اللهيف إلى أحضان أمه الحبيبة لا تنقطع أسبابه أبداً. . لا تسألني وهو الوليد منذ ليال كيف يبكي؟ كيف يفهم أن هذه المرأة هي أمه؟ بربك لا تعجب! فهذه صلة الأرحام، وحكمة عالم الغيوب!

كان فمه الدقيق كفم الثعلب ينفرج في بطء، ويداه اللدنتان كريان البرسيم تضربان الهواء بعنف، وقدماه العاريتان تحاولان الخلاص من الغطاء السميك، وقد أحكم حول جسده خوف الزمهرير. .

كان يبكي من أجل الرضاع، من أجل ثدي أمه الرءوم، وقد انتزع منع انتزاعاً! فعلت المستحيل لأسكن من بكائه الدائم، فطرت إلى الغيط جزعاً ملهوفاً، وعدت فرحاً بقدر مملوء باللبن والحليب. وتقدمت نحوه بقلب واجف، وخطى خفيفة، ولساني يلوك الدعاء لولي بلدنا الصالح الشيخ الأتربي. إني أخشى أن يصرخ. إني أخشى من كل شئ أن يمسه بسوء، وحملته بحنان بين راحتي، وتحسست الحجاب الملتف حول عنقه الصغير، وأنا أبتهل للأولياء الصالحين ألا يبكي فيمزقني ألماً وحسرة. واحتضنته بناظري متوسلاً مشفقاً، واقتربت أصابعي بالزجاجة من فمه الصغير. لم يبك فملأني الفرح، ولبستني الشجاعة، وانسابت قطرات اللبن في فمه الصغير. . . آه يا قلبي! لقد صرخ، وضرب بيديه الهواء بعنف، فانفلتت الزجاجة من بين أصابعي، وسال اللبن على الحصير القذر، فوسدت ولدي الفراش، وتركته يائساً وأنا ملتاع النفس حزين!

- 3 -

خرجت إلى الطريق، وقلبي أشبه بقلب كل أب، رقيق كالغصن الأخضر، صاف كعين الديك، حنانه يحاكي حنان الأم! خرجت أتعثر في الحارات، أضرب أخماساً في أسداس، وأنا أسير تحت كابوس مفزع ثقيل الوطأة. . . رأسي أشبه بساقية تصر في نواح كئيب، قدماي من فرط الضنى تنوءان بحملي. . .

وجعلت أخبط كالأعمى في مماشي الحقول، وقد نبت فيها السريس والجلوين. رأيت جماعة من الفلاحين في ظلال وارفة تنبسط تحت شجرة جميز ضخمة، والبشر باد على محياهم، والسلام ران على قلوبهم. . . رأيتهم يأكلون مشاً وبصلا وحزمة جلوين! ولمحت إلى جانبهم ثوراً وجاموسة يلتهمان عيدان ذرة. لشد ما أتلهف اليوم إلى ذلك السلام العجيب، وقد لفع القرية بوشاح المحبة والأمن الخير. . . وأنفاس الريف الهادئة تنفث في سكانها الحياة! الشمس ساطعة، والحقول الخضر منبسطة أمامي على مدى الطرق. . .

والديكة تنبش الأرض وتصيح. . . والأوز يعوم في القنوات المعشوشبة، وأبو قردان يحط في أسرابه البيضاء على هام النخيل، يرقب عن كثب ثوراً يحرث الأرض، وصاحبه يحثه على العمل وهو صبور يغني. . . يا لله! الكل فرح راض بما قسمت له يا رب، أما أنا الحزين المهتاج فقد كدت أسقط في جدول ينساب في حقل باشا عظيم!

وأخيراً وصلت إلى امرأة عجوز صالحة، ونفضت بين يديها ما ناء يحمله قلبي. قالت لي: لا تحزن يا بني، وإني لأعجب كيف يعصر اليأس قلبك، وبركة الشيخ الأتربي تعم القرية، وتفيض على شاطئيها)!!

ثم استطردت تقول: أتعرف أم عمروس جارتنا الصالحة المؤمنة؟ اذهب إليها فهي طيبة القلب، ويداها مملوءتان بالبركة، علها تعود معك فتشفى طفلك السقيم، وخذ معك لها من (الدوار) فطيراً وبلحاً). . .

- 4 -

وبقلب طيب خاو إلا من رحمة الله، اتخذت طريقي إلى مقام الشيخ الأتربي. وهناك توضأت من المبضأ النظيفة، وصليت لله ثم تلوت بعض الأوراد، ولم أنس أن أقبل قضبان الضريح، وأن أطوف حوله سبع مرات، وأنا أهمس بكلمات من ذوب قلبي ثم خرجت من المقام، وأنا أحس بالريف الحبيب! حقوله الخضر فسيحة كالأمل. . . يمرح فيه المساكين! هواؤه المنعش، ندى كحبات الطل، يهمس للزهور في غمرة الخريف! الدنيا كلها ترقص فرحة طروبة

ووصلت إلى كوخ مسقوف بالبوص تسكنه (أم عمروش) المرأة الورعة المتواضعة. أخبرتها بما حدث، ثم ناولتها فطيراً مندى باللبن الرائب، وتوسلت إليها أن تعود معي إلى الطفل المسكين، فسألت (كم أجري؟ وأين مسكنك؟) فقلت: أما المسكن فهو قريب من هنا، وأما النقود فأنا مفلس منها!! أرجو منك يا أم عمروس أن تنقذي ولدي، استحلفك بيوم الحصاد وهو قريب، أن تعودي معي، وهنا قد يأتي الفرح فأعطيك ما سوف أستدين!

وطالت المساومة، واعتدم الجدال، وهي لا تلين ولا تستجيب لرجائي. فهممت أن أرجع يائساً أمري لخالقي حلال المشكلات!

ولما ابتعدت عنها نادت بصوت مرتفع: انتظر يا عم مخلوف سأذهب معك، والله يفك كربتي كما أن أفك كربة الناس! وطرنا إلى البيت أنا فرحان مطمئن، وهي لاهثة تحث الخطى ورائي

- 5 -

طفلي الحبيب يطعم بعد جوع، ويسمن بعد هزال!؟ لك الله يا طفلي، وقد نادت أيامك السبع بالأتراح. وأنت تخطو وتيداً على أبواب دنياك! وما ذنبك أيها الحبيب الغالي والدنيا شرور وآثام!؟ أمك وأبوك يعضهما الفقر ويعصرهما الحرمان.

أبوك يا (فرج الله) فلاح مسكين يروي الحقل بعرقه ويحصد الهشيم آخر السنة! صاحب الحقل يلح في طلب الأجر، ومالك الماشية يقصدنا مع الهلال العربي كأنهما على ميعاد!. والدائنون النهمون يزمجرون في غضب، ويتوعدون بحقد مرير وليس للفرار منهم من سبيل! كم يبقى له بعد ذلك إلا الحزن يضنيه. والأسى يعصره. . . وهموم العيش ترمي به في أحضان الحرمان!؟

ولكن (فرج الله) سيجعل ظلامي فجراً باسماً. . سوف يأتي الرغد يحث الخطى خلف صفحته المضيئة. . تكثر الآمواه في الترعة، ويزدهر الحقل، ونجى الثمر فيكون خيراً عظيماً.

. . . وأفقت يا سيدي العمدة على عتبة داري، والنحيب المحرق يطرق مسمعي بقسوة، وزوجتي (فطومة) تصرخ وتصيح: (ولدي! ولدي)! والنادبات من حولها يلطمن الخدود، ويضربن على الصدور، ويتمايلن كالمجنونات!

ورفعت رأسي الأشيب لأشهد ما جرى، ثم أطرقت إلى الأرض، وتحدرت على وجهي الشاحب دموع سخينة. .

وساد المكان صمت كئيب ثم استرطد يقول:

(أعرفت ماذا جرى أيها العمدة؟)

ثم أشرقت عيناه بالدموع. . وهو يتثبت بخيط رفيع من الماضي يقص منه مأساة دنياه:

(وهناك في الحقل لمحني الناس أخبط في طريقي، إلى أين؟ لست أدري! وعلى الأعشاب الخضر في مماشي الحقول كنت أحث الخطى كأنما تقول لي أنفاس خفية! إلى هناك. . .؟ وبعد هنيهات تسلك قدماي إلى مقام الشيخ الأتربي، وغمر الكون حين ذاك تسابيح عطرة، تنساب مع سكون الريف إلى أعماق الناس! تدعو لمبدع السكون بالصلاة.

أحمد شفيق حلمي