مجلة الرسالة/العدد 878/ذكرى أبى الأسود

مجلة الرسالة/العدد 878/ذكرى أبى الأسود

ملاحظات: بتاريخ: 01 - 05 - 1950



للأستاذ حامد حفني داود

إن ذكرى وفاة أبى الأسود الدؤلي تبعث إلى الذاكرة فكرة خطيرة هي تدوبن (علم النحو) وهو أول ما دون من علوم العربية. ولا أكون مبالغاً إن قلت أول ما دون العلوم قاطبة في الإسلام.

وهي بهذا القدر ذكرى عزيزة علينا تحرك النفس وتجدد الأمل إلى دراسة (تاريخ علوم اللغة) التي طالما نادينا بتحقيق دراستها، ولاسيما وأن المستشرقين أنفسهم - بعد أن رسموا بعض المناهج في دراسة - (تاريخ الآداب العربية) عجزوا عن تأريخ علوم اللغة، وفي مقدمتها تأريخ علم النحو. ولعل ذلك راجع إلى ما بين هذا العلم ونفسية العربي الخالص من صلبة قوية فلا يتم تأريخه بدون تحقيقها. أريد أن أقول: أنه لا يستطيع تأريخ هذا العلم العربي عارف بأسرار اللغة وقواعدها المتشعبة دارس لها دراسة الممحص المدقق، ملم بكل ما وصل إلى أيدينا من تراث الأقدمين وذلك ما دفعني إلى أحياء ذكرى أبي الأسود علينا من ذكراه نستلهم درات تاريخ العلوم العربية

في سنة 69هـ منذ ألف وثلاثمائة سنة توفى أبو الأسود الدؤلي وقد كان علما من أعلام العربية ورجلا من رجالاتها السابقين الذين وضعوا الأسس ودونوا المسائل. وقد كان تلميذاً للأمام علي بن أبي طالب، وعنه تلقى كثيرا من المسائل الدينية أو العربية قبل أن تصبح علوماً مبوبة على النحو المصطلح عليه عندنا.

وبعد وفاة الإمام علي سنة 40هـ مكث أبو الأسود في العراق وكان من أوائل المتصدرين لدراسة علوم العربية والبحث في مسائلها. ولكنه اشتهر بوضع (علم النحو) وإليه نسب وضعه.

وحول أبي الأسود دارت خلافات كثيرة من حيث وضع علم النحو وطريقة وضعة.

فقد شك بعض العلماء في نسبة وضع النحو إليه. فمن قائل أنه أول واضع له، ومن قائل إن واضعه نصر بن عاصم المتوفى سنة 89 هـ، ومن قائل أنه الخليل بن أحمد المتوفى سنة 170 هـ. وذهب علماء الشيعة إلى الإمام علي وهو الواضع لعلم النحو.

وتخبط بعض المحدثين في تعيين الواضع الأول متأثراً بما ذكره ريكندورف في دائرة المعارف الإسلامية حيث نفى ذلك بقوله (وليس حقاً ما يقال أنه واضع أصول النحو العربي) وظن هؤلاء أن واضعه الخليل بن أحمد. وهو قول مردود بالأدلة العقلية والنقلية.

الدليل الفعلي: أن المنهج العلمي ينص على (أن الأدلة العلمية لا توصف بالبطلان مالم تقم الأدلة القطعية على بطلانها.) فتحقيق المسائل العلمية في نظر المنهج العلمي هو البناء لا الهدم. بينما يأخذ أمثال هؤلاء المتخبطين بالقوانين الهدامة التي أبتدعها فرنسيس بيكون واحتذاها المستشرقون من بعده. فأنت ترى أن شعار هؤلاء بطلان كل شيء ما لم يقم الدليل التجريبي على صحة المبطل بينما شعار المنهج العلمي الذي وضعنا أسسه التصديق بالقضايا العلمية المروية عن القدماء ما لم يقم الدليل المادي على بطلانها. وشتان ما بين المذهبين. فالفرق بينهما - كما ترى - كالفرق بين منيبني ومن يهدم.

والدليل النقلي: تواتر الرواية القديمة على نسبة الوضع إلى أبى الأسود وليس هناك أحد من القدماء والمتأخرين من أنكرها. وليس بعد قصة أبى الأسود مع علي، وقصته مع زياد بن أبيه، وحديث أبنه حرب من دليل نقلي. وقد قال الجاحظ المتوفى سنة 255 هـ (أبو الأسود معدود في طبقات من الناس، وهو في كلها مقدم مأثور عنه الفضل في جميعها، كان معدودا في التابعين والفقهاء والشعراء والمحدثين والأشراف والفرسان والأمراء والدهاة والنحويين. . .)

ولم يبق هناك من خلاف بين القدماء إلا فيما إذا كان أبو الأسود تلقى هذه الأصول من الإمام علي أم اعتقد فيها على دراسته الخاصة - لدوافع مختلفة سنتحدث عنها في فرصة أخرى - ولعل ذلك لا ينفي أن يكون أبو الأسود واضع علم النحو بإرشاد الإمام دفع إليه ورقة فيها أصول ذلك العلم ثم قال له: انح هذا النحو فسمى ما وضعه نحواً.

وإلى مثل هذا ذهب الشيخ خالد الأزهري المتوفى سنة 905 هـ (وقد تضافرت الروايات على أن أول من وضع علم النحو أبو الأسود وأنه أخذه أولا من علي بن أبي طالب رضي الله عنه)

وقال الشيخ عبد القادر البغدادي المتوفى سنة 1093 هـ (وهو واضع علم النحو بتعليم علي رضي الله عنه)

فكأن أبا الأسود وضع هذا العلم مستنيرا بالأصول التي دفعها إليه الإمام. ومن هنا ترى أن الخلاف بين آراء الشيعة وآراء غيرهم شكلي محض لا يمس الجوهر. فنسبة النحو إلى علي نسبة الموجه والمرشد ونسبته إلى أبى الأسود نسبة المدون والواضع.

والخلاف الثاني: ما هي الأصول الأولى التي نسج أبو السعود على غرارها وما هي المسائل التي عالجها في كتابه الأول، وما طريقة ذلك؟

ظن كثير من العلماء أن أبا الأسود كان يجيد السريانية، وكان يخالط السريان والكلدان في أرض العراق، وقد كان للسريان نحو قريب الشبه من نحونا وقواعد تشبه قواعد العربية، وكلاهما من اللغات السامية. هذه ظنون جالت بأدمغة المفكرين ممن حاولوا التفكير في تاريخ علوم اللغة. فقالوا: إن أبا الأسود درس اللغة السريانية واستنبط قواعدها وطبقها على اللغة العربية.

ويدعم هذا الرأي عذرهم أن قواعد اللغة السريانية وضعت في القرن الخامس حين وضع يعقوب الرهاوي المتوفى سنة 460م كتابا في قواعد السريانية، بينما وضعت قواعد اللغة العربية في القرن السابع. وإذا كان أبو الأسود قد توفى سنة 689 هـ تقريباً عرفنا أن محاولة تدوين قواعد العربية كاتب بعد أكثر من قرنين من المحاولة الأولى التي أجريت على السريانية.

والراجح في نظر المنهج العلمي أن أبا الأسود لم يتأثر بالسريانية ولم ينقل شيئاً من قواعدها إلى العربية؛ وأن التشابه بين اللغتين مردود إلى ما بين طبيعية العربية وطبيعة السريانية من صلة وانتمائهما إلى أصل واحد هو اللغة السامية. ويعزز هذا الرأي الذي ذهبت إليه نماء النحو في اللغة العربية وجموده وانكماشه في اللغة السريانية وغيرها من الفصائل السامية الأخرى. كما أنه ليس هناك من دليل مادي يؤيد دعوة المخالفين وهي دعوة ظنية لا يعتمد بها المنهج العلمي.

فنحن لا ننكر نسبة وضع النحو إلى أبى الأسود لأنه ليس هناك من دليل مادي يرد هذا النقل، ونرفض كل الرفض تأثره بالسريانية لأنه ليس هناك دليل مادي يؤيد هذا الظن.

هذه ذكرى أبى الأسود - وقد مضى على وفاته ثلاثة عشر قرناً. وإني لأرجو أن تثير في نفوس المفكرين الحمية إلى دراسة علوم اللغة دراسة تاريخية تفصيلية. وإني لأرجو أن أعيد هذه المحاولة في (تاريخ النحو) وقد بدأت مثيلتها بالأمس القريب في (تاريخ البديع).

حامد حقي داود الجرجاوي

دبلوم معهد الدراسات العليا