مجلة الرسالة/العدد 878/سطور زرق

مجلة الرسالة/العدد 878/سطور زرق

ملاحظات: بتاريخ: 01 - 05 - 1950



للأستاذ راجي الراعي

وقفت أمام البحر أسأل عن رعشته. . لماذا يرتعش البحر؟

أيرى نفسه على رحابته وعظمته سجيناً في مكان رسم له في الأرض لا يستطيع أن يفلت من قضبانه ليهجم على اليابسة عدوته الأزلية فيرتعش رعشة الأسد السجين يقف الحديد بينه وبين أطماعه؛ رعشة القوى الشاعر بقوته ولكنه لا يمارسها؟

أم هو يرى جريمة في بقايا الأبطال من غرقاه فير تعش رعشة الخاطئ الذي حالف الموت فأعطاه مكانا يلقى فيه بعض الخلائق التي حصدتها مناجله وضاقت بها الأضرحة؟

أم هو يضمن بدوره المستقرة في قلبه ويخشى عليها من حيتانه فيرتعش رعشة الغنى أمام الأيدي الجريئة التي تمتد حول خزائنه؟ أم هو يرى يومه الأخير الذي يسدل فيه على روايته ستارها الأزرق ويعود إلى اليابسة فيرتعش رعشة الحي لتشبث بيومه الخائف من غذه؟ لماذا يرتعش البحر؟

أهو شاعر عبقري روحاني نوراني خلق ليعيش في عالمه بين أفكاره وأحلامه وعواطفه بعيداً عن الإنسان والإنسانية قريباً من نفسه ومن خالقه، وليكون جزيرة بارزة مستقلة عن أبناء التراب في بحر الوجود، يرى نفسه ملكاً لسواه، وساحة عامة يطأها العابرون، وصدراً مفتوح الرئتين القلب والضلوع تشقه السفن والدارعات والطرادات والنسافات على مختلف أسمائها وألوانها، وتنفث فيه دخانها وتصيح صيحاتها وتلقى مراسيها فيرتعش رعشة العبقرية التي أقامت لنفسها الهياكل العاجية فاستبيح حماها واسود عاجها، رعشة الشاعرية التي سدلت الستار على آلهتها فمزقتها الأيدي القاسية الأثيمة؟

أم هو يرى في مائة تلك الدموع التي التقطها من العيون الباكية، وأنه من أجل ذلك يحسم اليأس، وأن كل كئيب يصب فيه ثمالة كأسه، وأنه الثمالات في كأس واحدة، والدموع في عين واحدة، فترتعش فيه ألوهية الألم التي اتخذته لها معبداً؟

أم هو يحدق في إلهه (نبتون) ويؤمن بأنه إله الآلهة فيرتعش رعشة العبادة والإيمان؟ أم هو بين موجته المجنونة وغايته المجهولة رجل أضاع عقله فارتعش رعشة المجنون؟

أم هو يشرب خمرة الزبد البيضاء فيرتعش رعشة الثمل؟ أم هو المرأة ذات العينين الزرقاويين يراها (كيوبيد) إله الحب منتهى حبه وإطار خياله، ويمسح بثوبها الأزرق دم كل سهم من سهامه التي رمى بها العشاق فترتعش الرعشة الكبرى، رعشة الرعشات؟

لا أدري لماذا يرتعش البحر ولا هو يدري. هو البحر ومع ذلك لا يعرف نفسه، ولعله لا يعرفها لأنه البحر. .

وأرهفت أذني للموجه الزرقاء فسمعت أصواتاً تقول لي: أنظر كيف تشق عبابي السفينة، ويلعب بأحشائي الغواص، وكن مثلي رحب الصدر صبوراً - صارع صخورك كمرجاتي وكن وثاباً، وإذا استرحت فلتكن راحتك تأهباً لوثيقة الغد - أنا مع عظمتي أسير تقيده الشواطئ فاذكر دائماً أنك مهما علوت وشمخت وحملت الصوالجة وركبت العروش لا تستطيع أن تكون حراً؛ وأن الحياة جهاد للتملص من ربقة الشاطئ الذي يقف في طريق النفس الهائجة فيمنعها من أن تتجلى بكل ما فيها من أنوار ونيران لتحقق أحلامها وتسكب خمورها - أنا وادع ثائر عاقل مجنون، فكن مثلي حكيماً وفرق بين سيفك ونداك. .

وسمعت صوتاً صارخاً يقول: أيها المشرف على عالمنا المتفرس في حياتنا البحرية، أنظر إلي أنا السمكة الصغيرة تبتلعني السمكة الكبيرة لأنها القوة ولأنني الضعف! وإليك أشكوها أيها الإنسان؛ فهل لك أن تحول بطشها عني وتضع في قلبها شيئا من الرحمة والحنان؟ فقلت لها: أيتها المستجيرة بي، بنا على الشاطئ مابك في الماء، نحن أسماك الأرض يأكل كبيرنا صغيرنا، ويقتل قوينا ضعيفنا فسيف القوة مصلط في البر والبحر؛ وكأن الأقوياء فيهما يؤلفون عصبة واحدة ويتنادون؛ فكلما ربح الظلم فريسة في بطن الماء ربح أخرى على سطح الأرض. الظلم يا سمكتي الصغيرة قديم، والظلم في كل مكان. فلا تستجيري بأبناء الأرض، ولا تحسبي انك إذا خرجت من الماء أفلت من قبضة الأقوياء. .

ودرت حول البحر أسأله: هل هناك ما يشبهك في الأرض؟

فقال: تشبهني الصحارى ولكنها بحور جامدة، والليالي ولكنها بحور سود. .

وسألته: كيف أنت والأفق؟ فقال: شقيقان لفظتنا أحشاء امرأة هي الطبيعة؛ والصلات التي تجمعنا عديدة. فلوننا واحد هو الزرقة، وجيوشنا لا تعد ولاتحصى؛ فللافق نجومه ولي موجاتي، وكلانا رمز العظمة واللانهاية؛ ولكل منا وجهة الغضوب. فللأفق صاعقته التي يعطس بها أنفه، ولي بركاتي الثائرة، وفي قلبينا تستقر الدرر. .

وسألته: كيف أنت والصياد؟ فقال بلهجة الفائز: أنني آخذ أكثر مما أعطى. إن غرقاي الذين أغنمهم أوفر عدداً من الأسماك التي يغنمونها مني. . .

وسألته: هل أنت عصامي أيها البحر؟ فحنى رأسه وقال: أن عيبي الوحيد هو أنني استعير مجدي وقوتي من سواى؛ فلولا تلك الينابيع والأنهار والجداول لم أكن. أنها تموت في لأحياء، وتصب في كنوزها لأصبح ثرياً. . أنها تعطيني جنينها لأتجبر؛ وتضع في صدري الملايين من القلوب ليظل نابضاً إلى الأبد. . أنا كالقمر يستمد نوره من الشمس ولولاها لم يكن القمر. أنا البحر ولكني رجل مدين لا يستطيع أن ينطح السحاب بأنفه الجبار.

نقص

وسألته: هل للشعر مكان فيك؟ فأجاب: شاعريتي في رعشتي، وصور خيالي المتوالية المتعاقبة في هذه الموجات. . .

وسألته عن البراكين فأجاب: عندما أغضب الغضبة الكبرى وتعجز الموجة عن أن تسعها، أطلق بركاني، ومن عجائبي أنني أخرج النار من مائي. . .

وسألته: كيف أنت والجبل؟ فقال: الجبل ضيق وأنا فسيح. الجبل مقطب الجبين وأنا طلق المحيا صخرة وأنا رعشة. الجبل عقل صارم وإرادة باطشة، وأنا قلب خفاق وشعور صارخ، وإذا كان للجبل عقبانه على قمته، فلي كنوزي في أعماقي.

وسألته عن الغزاة الفاتحين فقال: إن لهم بحورهم ولكنها من دماء. .

وعن الفلاسفة فقال: أنا في كل كرة من كرات شكهم ويقينهم. انهم يموتون صرعى بين أمواجهم التي تغمر كيانهم. .

وعن المنتحرين فقال: انهم يؤثرون موجتي الهائجة على التراب البليد الصامت. .

وسألته: كيف أنت والخيانات؟ فقال: إني أعرفها. فكم من عقيدة طرحها في صاحبها ولم يسأل عن غده.

وسألتهم: من هم أعداؤك الألداء؟ فقال: القناعة والتشاؤم والبخل والعقم. .

وسألته عن الأمجاد فقال: إنها موجات في بحر الخلود. .

وسألت وسألت حتى خشيت أن يستهويني البحر. وقبل أن تركت الشاطئ وعدت إلى صلابة الأرض سجدت أمام (نبتون) وصليت صلاتي الزرقاء فقلت: يا رب السماء! ضع من قلبك في قلبي فتتسع دائرته ويغزر دمه. وأضرب بموجاتك الصخور القائمة في طريق خيالي وأحلامي. .

غدا إرادتي لأحطم كآبتي وضعفي، وارفعني إلى مستواك لأبسط كتابي في العالمين. .

افتح عيني لتسعك وأذني لتسمعك. . جملني بالعظمة والصبر، واجعل صدري رحباً ليسع الناس ولؤمهم والأفدار وظلمها. .

أغرق في الوجه القبيح من إنسانيتي وابق لي وجهها الجميل وزده جمالاً. .

أغرق صحرائي واجعلني بحرا وخذني أنت لا سواك في يومي الأخير، وأرحني من وطأة ذلك ألحجر البادر الثقيل اللثيم أيها الكريم الرحيم. .

راجي الراعي