مجلة الرسالة/العدد 88/القصص
مجلة الرسالة/العدد 88/القصص
من أساطير الأغريق
أرفيوس الموسيقى أو رحلة إلى الدار الآخرة
بقلم الأستاذ ديني خشبة
أرفيوس! لسان الطبيعة، ونجيُّ الآلهة، ووحي السماء إلى جي، وصاحب القيثارة ذات الرنين. . . . والأنين
كان يعزف، فتشيع الحياة في الصخر، ويقف أبوللو العظيم في مركبته الذهبية، مًطلا برأسه من عليين، يسمع ويطرب وكذلك كانت تصنع ديانا، فلطالما كانت تنزل من مركبتها الفضية في أعلى أجواز السماء، لتلبث هنيهة بباب أرفيوس، تتزود لرحلتها الليلية المرهقة، من مشرق الدنيا إلى مغربها
والأشجار! إن لها لجذوراً متغلغلة في أطباق الأرض، ومع ذلك فقد كانت حين تسمع أرفيوس، تنزع اليه، وتسير وراءه خبباً! وكم شهد الناس حول بيته غاية من الدوح العظيم، والأيك الذاهب، سعت إليه تلتذ من موسيقاه، ثم هي تنصرف في المساء فتنغرس في أصولها، وقد ازدادت نضارة وازدهاراً!
ومع ذاك، فقد كان ذا غُرَّة مشرقة، وابتسامة حلوة ما تكاد تفارق ثغره الصغير الجميل. وكان جم الحياء؛ لم ينهر مرة أحد رواده، أو المترددين عليه؛ بل كان يلقي الجميع ببشاشة الأخوة، وهشاشة الود
وكانت له زوجة أجمل من روعة الفجر، وأفتن من وشي الأصيل، وأندى على قلبه من أنفاس الصباح
اسمها يوريديس. . . مصدر إلهامه، ومعين عبقريته، وجمال لحنه، وأغنية حبه، وأنشودة هواه. سئل مرة: ماذا تملك من الدنيا يا أرفيوس؟
فأجاب: (قيثارتي. . ويوريديس!)
وكانت يوريديس تجمع الأزهار البرية في ربرب من أترابها، لتصنع منها باقة مفوّفة تقدمها لأرفيوس، وكانت كلما راقتها سوسنة أو وقعت في نفسها زنبقة، طبعت عليها قبلة ندية وضمتها إلى الباقة، وهي تقول: وأنت أيضاً لحبيبي أرفيوس. . .
وبينا هي كذلك إذا أفعى هائلة تنسل من بين الأشجار، فتلدغ قدمها الصغيرة المعبودة المطمئنة في الحشيش الأخضر؛ فتصرخ المسكينة صرخة داوية، ثم تنطرح إلى الأرض، وتتناثر الورود والرياحين التي جمعته حولها، كأنها تنضد سرير موتها
وتجتمع صديقاتها مذعورات، فتعولن وتبكين، وتحملنها إلى أرفيوس الذي يستطار من هول الكارثة، وينخلع فؤاده من فداحة المصاب، ويحاول المستحيل لإنقاذ أعز الناس عليه؛ ولكن. . هيهات! لقد ماتت، واحتلكت الدنيا في عيني أرفيوس التعس، وأجدبت قيثارته من ألحان المرح، واستروحت إلى البكاء والأنين. فيا رحمتا لمن ينصت إليها ويصغي لها! زفرات حارة تصعدها أوتارها، وأنات مؤلمة ينبثق منها الدم تنبعث من أنغامها!
وأرفيوس، مع ذلك منزوٍ عن العالم، عزوف عن الناس، مستغرق في وحدته القاسية، يفكر في يوريديس
وصم ألا يفقدها كما يفقد الناس أحباءهم. بل لابد من رحلة طويلة إلى الدار الآخرة. . إلى هيدز. . حيث إله الموتى بلوتو، فيضرع إليه أن برد عليه زوجته التي لا حياة له إلا بها
فكرة غريبة، وتصميم عجيب؛ رجل من دار الفناء، له جسم، وفيه نفس تتردد من أخمصيه إلى ذؤابة رأسه، كيف ينفذ إلى دار الموتى وعالم الأرواح، ومملكة الظلال والأشباح؟!
لكنه أمل ملأ قلبه على كل حال، وهاهو ذا يحمل قيثارته، ويبدأ رحلته ولا يدري إلى أين؟
ضرب في الآفاق على غير هدى، وذرع الأرجاء في ضلال وحيرة، حتى رثت له الآلهة، فرشدته، وأنارت له سبيله؛ فاهتدى إلى ضفاف ستيكس ذي الزبد، حيث وقف شارون النوتي الجبار، الذي يحمل أرواح الموتى في زورقة، يعبر بها أنهار الجحيم للقاء بلوتو العظيم
وصاح شارون صيحة راجفة حينما لمح أرفيوس، وزمجر قائلاً: (يا ابن العدم، يا سليل الفناء، يا من لم تفض روحه بعد، ما جاء بك إلى هنا، وما تزال تتعثر في برد حياتك الرث، وتتكفأ في قيد دنياك الوبيلة؟ عد من حيث أتيت، وإلا فوحق بلوتو المتعال لأسحقن عظامك، ولأقذفن بك إلى ستيكس، فيطويك اليم وتشويك الحمم. . . عد. . . عد. . . عد أقول لك. . . ويْ. . ويكأنك لا تسمع!!) ولكن أرفيوس يثبت غير هياب، ويتناول قيثارته غير وجل، ثم يعزف لحناُ من ألحانه الباكية فيزلزل به أركان شارون!
شارون! هذا الفظ، غليظ القلب، أقسى حراس جهنم، يذوب رقة ويمتلئ حناناً ورحمة لما رأى وسمع، فيهرول إلى أرفيوس مستميحاً معتذراً عما بدر منه من سوء اللقاء، وعبارات البذاء، ويسأله في لين ورفق عن حاجته فيجيب: (لا شيء إلا لقاء بلوتو!)
فيسأله شارون: (وكيف، وهذا بدنك لا يحتمل زفير الجحيم؟)
فيجيب أرفيوس: (لا عليك، ما دامت هذه - ويشير إلى القيثارة - بيميني)
فيقول شارون: (يا صاحبي أنت لا تعرف هول ما تريد أن تقتحم، وإني مخلص لك أمين؛ إنك غض الأهاب، موفور الشباب، وإن جهنم لا تبقى ولا تذر، وإنها أبداً ترمي بشرر كالقصر، وإني أمحضك نصحاً علمتني موسيقاك كيف أمحضك إياه، وأستنقذك به من عذاب مقيم. . . ألا فلتفكر فيما أقدمت عليه، فان من دونه مهالك، وإن من دونه نكالاً وأهوالاً. . .)
وتبسم أرفيوس بسمة حزينة، كانت رداً صامتاً على ما حذر شارون، ثم أعد قيثارته وانطلق يتغنى:
حملتُ جهنماً في بعضِ قلبي ... وفي بعضٍ جراحاتٍ فنونا
فان حذرتني نارا، فإني ... أحذر نارك الدمع الهتونا
سأطفئها به حتى تراها ... تُذرف مثله صبباً سخيناً
تخوفني لظاك وفي فؤادي ... لظي من جُننت بها جنونا
إذاً ما الحب إن لم يكتنفه ... غرام لا يؤود العاشقينا؟
لقد ذُقْتُ البِلى في دار عيشي ... أفي دار البِلى أخشى المنونا؟
وما يكاد يفرغ من هذه الزفرة الحارة، حتى تتحدر الدموع من عيني شارون، ويتقدم إليه معتذراً، فيحمله في الزورق، ويخوض به عباب تيكس، وما يكاد يفعل حتى يرى أرفيوس إلى تغيظ الموج وتلاطمه، فيسأل شارون عما يهيج النهر برغم سكون الريح، فيقول: (إنك، وأنت من أنت، من فوقه، سبب هياجه واصطخابه؛ ولو خُلي بينك وبينه لما أنجاك منه شيء حتى تكون في أعماقه!!) ولكن أرفيوس يبتسم ابتسامته الحزينة، ويتناول قيثارته فيوقع إحدى أناته المشجية، فيهدأ ستيكس الصاخب، وتصفو صفحته بين دهشة شارون وشدة تعجبه!
وتطول الرحلة، ويعبران (أشيرون) نهر العدم؛ و (لِيث) نهر النسيان، و (كوكيتوس) نهر الآلام، و (فليجتون) نهر الحمم واللهب، ويصلان آخر الأمر إلى (هيدز) - دار الموتى - ومملكة بلوتو، بعد عقبات وأهوال تغلبت عليها جميعاً قيثارة أرفيوس، بألحانها الرقيقة، وأنغامها الباكية
وتبدأ من هذا الشاطئالأخير رحلة شاقة في ظلام دامس وحلك شديد، في مسالك ملتوية، وشعاب متداخلة، لا تجدي معها موسيقى أرفيوس فتيلا؛ وهنا يبدو له أن يقصر هذا السفر الطويل بالسؤال عن يوريديس، كيف حملها شيرون في زورقه، وكيف عبر بها في هذه الفجاج إلى المقر الأخير، وهل كانت تبكي؟ أم كانت راضية بالقضاء الذي فصلها من أحب القلوب وأقصاها عن أعز الناس؟ وهل حدثته عن الشاب أرفيوس؟ أم كانت في شغل عن كل شيء بما هي فيه؟ وهل كل روح من أرواح الموتى تستغرق كل هذا الزمن في عبور أنهار هيدز وفيافيها؟ وهل تألمت يوريديس حين كانت تعبرها؟. . .
وكان شارون يجيب عن هذه الأسئلة المتتابعة إجابة مستفيضة حتى وصلا إلى بوابة كبيرة الحجم، تصل إلى قصر بلوتو!
ولكن كلباً ضارباً بادي النواجذ بارز الأنياب كان رابضاً عندها؛ فلما لمح أرفيوس، وهو من غير الأموات، هاج وماج، وتوثب يريد البطش بهذا اللاجئ الممنوع!
وتنبه أرفيوس، فحرك أوتار القيثارة، وتغنى على أوتارها ألحانه وآلامه؛ فثاب الكلب وهدأ، وبعد أن أقعى قليلاً، تقدم إلى الضيف الحبيب يلحس قدميه، ويتمسح به. . . ويا للموسيقى!
ثم هذا عرش بلوتو؛ وإلى جانبه زوجته الربيع، برسيفون كسيرة القلب مهيضة الجناح، تعلو أساريرها عبوسة قاتمة، وتجثم على قلبها لوعة دائمة. يا لبرسيفون! ويا لهذا المنفى السحيق!
ولشد ما دهش بلوتو حين بصر بهذا المخلوق الذي استطاع أن ينفذ إلى هيدز، وفيه رمق من حياة؛ بقضه وقضيضه، وعجزه وبجره!! وقبل أن ينبس بلوتو، جثا أرفيوس لدى قاعدة العرش، وطبع على الأرض قبلة كلها احترام ووقار، ثم تناول قيثارته، وطفق يتغنى بقصته المشجية، يرسلها خلال أنغامه الحزينة، وملء ألحانه اليتيمة. . . حتى أتمها
وكانت الموسيقى ممتزجة بالغناء الحلو والشعر السامي، قد تغلغلت في السويداء من قلبي الزوجين؛ وكانت الرنات، ممتزجة بالأنات؛ والهديل، ليس مثله هديل، قد أحدث أثره في نفسيهما، حتى أن دمعة مترقرقة شوهدت تنسكب على خد برسيفون!
وفي الحق، لقد هاجت قصة يوريديس شجون برسيفون، لما لحظت فيها من الوشائج بينها وبين قصة حياتها التعسة، في هذا الملك البغيض!
وانزعج بلوتو لمجرد وسواس لج في صدره، لما شاهد من تأثر زوجته، وانسكاب هذه العبرة الحزينة على خدها الشاحب؛ حتى لقد خيل إليه أن شياطين الحب قد قفزت من فم أرفيوس الخبيث، ومن موسيقاه الشاجنة، إلى قلبها الغض الصغير!
وقال بلوتو: (إنهض أيها الشاب، فوحق أورينوس لقد كدت تكون من الهالكين، لولا قصتك الباكية، وموسيقاك المبللة بالدموع. والآن، ماذا جاء بك هنا؟ وما الذي تطلب أن ينتهي إليك من إحسان بلوتو؟)
فركع أرفيوس ركعة التذلل والضراعة، ثم قال: (مولاي! يوريديس يا مولاي؟ تأمر فتعود أدراجها معي إلى الحياة الدنيا!)
فأجاب بلوتو: (طلبت المحال أيها العبد؛ ولكن بلوتو الكريم، لن يرد رجية بائس مثلك. لك ما سألت، وستعود يوريديس معك، ولكن على شريطة واحدة! ألا تراها حتى تخرج من هيدز. إنها ستتبعك، فلا تلتفت وراءك أو تغادر دار الموتى!)
وركع أرفيوس ركعة الشكر، ثم قال: (سأنفذ مشيئة مولاي.)
وأمر بلوتو فأحضرت روح يوريديس، وبدأت الرحلة إلى الدار الأولى، في ظلمات بعضها فوق بعض، والحبيبان يدلجان خبباً
وكان قلب أرفيوس يدق. . . . يدق
وإنهما ليكادان يبلغان العُدوة الأخيرة من نهر ستيكس، حتى يوجس أرفيوس خفية، ويظن - وباشر ما يظن - أن يوريديس قد ضلت سبيلها من ورائه، فينسي شرط بلوتو، ويلتفت فجأة خلفه، ليرى أنها ما تنفك تتبعه. ولكن يا للهول!
لقد رأى يوريديس باسطة ذراعيها إليه، كم يتلمس طريقه في الظلام؛ وحين تراه يلتفت إليها، فيخل بالشرط الذي عاهد ربها على تنفيذه، تنثني من لدنه راجعة أدراجها إلى هيدز. . . .
متمتمة في صوت ضعيف خافت: (وداعاً يا أرفيوس)! يا حبيبي أرفيوس. . . وداعاً. . .) فيصرخ المسكين صرخة يكون معها في هذه الحياة الدنيا، حياة الشقاء والآلام!!
ويظل على شاطئستيكس سبعة أيام مفجعاً محزوناً. . .
يحاول عبثاً أن يعود إلى هيدز. . ولكن. . . هيهات!
ويدخل الدنيا محطم القلب، خفق الأحشاء، موهون القوى. . لا يطيب له عيش، ولا يسيغ لذة من لذائذها. ويتخذ مأواه في شعاف جبل تزمزم الرياح في جنباته، وتزمجر الوحوش في غيرانه، وتدوي البواشق في قننه، ويكون كل أولئك خير صحابه، ويا ما أعز الرفاق!
وتلقاه نسوة من اعتدن التخلف إليه في أيامه المواضي؛ فيحتلن عليه ليعزف لهن من ألحانه؛ ولكنه يعزف عنهم ويشيح؛ ثم يفر منهن، فيقتفين أثره؛ فيمعن في الفرار، فيتضايقن، ويصمينه بسهامهن؛ ثم يرجمنه بالحصى المسوّم؛ والحجارة الثقال؛ حتى يموت!
ويسمعنه إذ هو يجود بروحه يقول: (يوريديس. . . يوريديس!)
فتردد الأصداء نداءه الحزين: (يوريديس. . يوريديس!)
وما تزال الأشجار والأطيار تهتف إلى اليوم هتاف موسيقارها المغبون: (يوريديس. . . يوريديس!)
وانطلقت روحه البريئة تعبر بدورها ستيكس، وأشيرون، وليث، وكوكيتوس، وفليجتون. . . فيتلقاه شارون الجبار باسما هاشاً محيياً. . . ويجلسان معاً في الزروق، يقصان ذكريات الماضي. . . القريب! ويتلقاه الكلب عند البوابة، فيهرول إليه، ويتمسح به، وفاء وذكرى! ويتلقاه بلوتو كذلك، فيهنئه بالعود. . . إذا كان العود أحمد!!
أما يوريديس. . . . .!
دريني خشبة