مجلة الرسالة/العدد 88/صفحات من الدبلوماسية الأسلامية
مجلة الرسالة/العدد 88/صفحات من الدبلوماسية الأسلامية
السفارات الخلافية والسلطانية وعلائق الإسلام والنصرانية
للأستاذ محمد عبد الله عنان
منذ نحو عام عرضت في الرسالة إلى موضوع السفارات النبوية؛ وتبادل السفارات بين الشرق والغرب في العثور الوسطى، سواء من الإسلام إلى الأمم النصرانية، أو من هذه إلى الدول الإسلامية، من الموضوعات الهامة التي تشوق بتفاصيلها وما تلقيه من ضوء على علائق الشرق والغرب في عصور لم يكن الإسلام فيها سيد المشرق فقط، بل كان يساهم أيضاً بنصيب قوي في سيادة الغرب ذاته. وقد كان لهذه السفارات رسوم وقواعد تتفق مع صولة الإسلام وتلائم روح العصر، وكان لها في بعض الأحيان أثر كبير في توجيه سياسة الإسلام نحو النصرانية، أو سياسة النصرانية نحو الإسلام. وقد كانت ريح هذه السفارات تتجه بالأخص من الغرب إلى الشرق في عصور القوة والمجد. ذلك لأنها كانت في الغالب ترمي إلى التماس السلام والمهادنة أو تحقيق بعض المنح والمغانم من الإسلام القوي الظافر، ولكنها كانت في عصور الضعف والاضمحلال تتجه بالأخص من أمم المشرق إلى أمم المغرب التي تتبوأ مقام الزعامة والنفوذ، وتعمل لتوطيد سيادتها بالضرب والتفريق بين الدول الإسلامية المتنازعة، كما كانت تفعل الدولة البيزنطية منذ انحلال الخلافة العباسية وتمزق سيادتها بين مختلف الدول والامارت التي قامت على أنقاضها، وكما كانت تفعل إسبانيا النصرانية منذ انهارت الخلافة الأموية القوية، وانقسمت الأندلس إلى إمارات الطوائف، على أن هذه القاعدة لم تكن عامة، وإنما كانت ظاهرة ملحوظة فقط، فكثيراً ما كانت تعقد المعاهدات وتتبادل السفارات بين الدول الإسلامية القوية والدول النصرانية القوية تنظيما للعلائق والمصالح المشتركة بينهما
وسنحاول أن نعرض في هذا الفصل إلى طائفة من هذه السفارات الشهيرة التي ترد أخبارها أشتاتاً في تواريخ الشرق والغرب، وسنرى فيها من أوجه التماثل أحياناً، ومن أوجه التباين أحياناً أخرى، ما يفسر لنا بعض العوامل التي كانت في تلك العصور محور العلائق الدبلوماسية بين أمم الإسلام وأمم النصرانية، ومبعث التجاذب السياسي بينهما
كانت الدولة الأموية دولة الفتح والانشاء، فلم يتسع وقتها لتنظيم العلائق السلمية؛ وكانت تقف طوال عهدها من جارتها الكبرى - الدولة الرومانية الشرقية - موقف الخصومة والتربص، فلا نقف في هذا العصر على كثير من أخبار السفارات المتبادلة بين الدولتين؛ ولكنا نجد بعد حوادث حصار قسطنطينية الأول وإخفاق الخلافة الأموية في مشروعها لاقتحام الدولة الشرقية (58هـ - 678م) سفراء الإمبراطور قسطنطين الرابع يستقبلون في دمشق بحفاوة ليعقدوا مع الخليفة الأموي (معاوية) معاهدة الصلح التي ارتضى بها معاوية أن يؤدي إلى الدولة الشرقية جزية سنوية متنوعة كانت على ضآلتها عنوان المهادنة والمسالمة من جانب الخلافة. وفي خلافة سليمان بن عبد الملك تردد على دمشق رسل الدولة الشرقية ليقفوا على أمر الأهبة الهائلة التي تتخذها الخلافة للسير إلى قسطنطينية ومحاولة اقتحامها كرة أخرى، وعاد سفير الدولة الشرقية إلى بلاك قسطنطينية يحمل عن أهبة الخلافة أروع الأخبار والروايات
ولما قامت الدولة العباسية وتوطدت أركانها، وقامت في نفس الوقت دولة أموية جديدة في الأندلس، كانت بغداد في المشرق، وقرطبة في المغرب، كلتاهما قطباً للتجاذب السياسي بين الإسلام والنصرانية. وكانت مملكة الفرنج القوية قد قامت يومئذ في الطرف الآخر من أوربا لتتزعم أمم الغرب إلى جانب الدولة الرومانية الشرقية؛ فكان ذلك عاملاً جديداً في إذكاء التجاذب السياسي بين الشرق والغرب؛ ومنذ خلافة المنصور ثاني خلفاء الدولة العباسية نرى مملكة الفرنج تحاول أن تأخذ بنصيبها في عقد الصلات السياسية مع زعيمة الإسلام في المشرق، وفي إقامة التوازن السياسي في العالم الجديد، ونرى ملك الفرنج ببين يبعث رسله إلى عاصمة الإسلام الجديدة (بغداد) في سفارة إلى المنصور. ويضع مؤرخو الفرنج تاريخ هذه السفارة في سنة 765م (148هـ)، وتقول لنا الرواية إن السفراء الفرنجيين لبثوا مدى حين في بغداد وعادوا بعد ثلاثة أعوام إلى فرنسا يصحبهم رسل أو سفراء من قبل الخليفة إلى ملك الفرنج، ونزلوا بثغر مرسيليا؛ فاستقبل ملك الفرنج سفراء الخليفة أحسن استقبال، ودعاهم إلى تمضية الشتاء في مدينة متز التي كانت يومئذ منزل البلاط الفرنجي، ثم دعاهم للتنزه والإقامة مدى حين في قصر (سلس) على ضفاف اللوار؛ ثم عادوا بعد ذلك إلى بغداد بطريق مرسيليا أيضاً مثقلين بالتحف والهدايا. واستمرت هذه الصلاة السياسية بين الخلافة العباسية ومملكة الفرنج عصراً؛ وزادت أواصرها في عصر الرشيد قوة وتوثقاً. وهنا نعطف بإيجاز على ذكر تلك السفارات الشهيرة التي تبادلها الرشيد، وكارل الأكبر أو شارلمان إمبراطور الفرنج ولد ببين، والتي تنفرد بذكرها الروايات الفرنجية أيضاً؛ فإن هذه الروايات تقول لنا إن شارلمان جرياً على سياسة أبيه، أرسل إلى الرشيد سفارة على رأسها يهودي يدعى إسحاق ليؤكد بينهما الصلات الودية، وليسعى لدى الخليفة في نيل بعض الامتيازات الخاصة بالنصارى والأماكن النصرانية المقدسة، فأكرم الرشيد وفادة السفراء الفرنج وردهم إلى شارلمان بهدية فخمة منها فيل وخيمة عربية وساعة مائية وحرائر وعطور شرقية وغيرها، وبعث إلى ملك الفرنج سفراءه بتحياته وتأكيد صداقته. وقد سر شارلمان بنتائج سفارته الاولى، فأوفد إلى الرشيد سفارة أخرى على رأسها مبعوثه إسحاق أيضاً؛ وتبالغ الرواية الفرنجية في نتائج هذه المراسلات بين الرشيد وشارلمان، فتقول إن الرشيد أرسل إلى ملك الفرنج مفاتيح الأماكن النصرانية المقدسة، ومنحه حق رعايتها وحمايتها. وقد وقعت هذه السفارات على ما يظهر في أوائل عهد الرشيد بين سنتي 786 و790 (171 - 176هـ)؛ ولكن الرواية الفرنجية تؤرخ سفارة الخليفة إلى شارلمان بسنة 800هـ، ولعلها رد الرشيد على السفارة الفرنجية الثانية. ويختلف البحث الحديث في أمر هذه السفارات والمكاتبات بين الرشيد وشارلمان، فيؤيد البعض صحتها وينكرها البعض الآخر، أما نحن فنرجح صحتها
وتستطرد الرواية الفرنجية؛ فتذكر أن هذه العلاقات الودية بين بغداد ومملكة الفرنج، استمرت بعد وفاة الرشيد وشارلمان؛ وأن المأمون ولد الرشيد بعث إلى (لويس) ولد شارلمان وملك الفرنج من بعده سفارة أخرى لتأكيد المودة والصداقة بينهم؛ وتشير الرواية الفرنجية في ذلك الصدد إلى ما كان لنفوذ الرشيد قبل وفاته من التأثير في سياسة خوارج البحر المسلمين وإحجامهم عن مهاجمة الشواطئ الفرنجية والرومانية، وإلى ما كتبه الباباليون الثالث إلى شارلمان بعد وفاة الرشيد من أنه إذا كان خوارج البحر المسلمين لا يحترمون بعد شواطئ الإمبراطورية الفرنجية، فذلك لأن نفوذ الخليفة في نفوسهم قد ذهب بعد وفاته
ونستطيع أن نرجع هذا التقرب بين بغداد ومملكة الفرنج إلى بواعث سياسية لها قيمتها؛ ذلك أن الدولة العباسية الفتية ما كادت تقوم على أنقاض الدولة الأموية في المشرق، حتى بعثت الدولة الأموية في الأندلس من جديد على يد عبد الرحمن الأموي (الداخل)، وأخذت في الاستقرار والتوطد؛ وكان قيام هذه الدولة الجديدة في إسبانيا يثير في الخلافة العباسية ومملكة الفرنج معاً جزءاً ومخاوف جيدة؛ أما الخلافة العباسية فلأنها كانت تعتقد أنها قد سحقت الدولة الأموية نهائياً واجتثت أصولها وفروعها فلن تقوم لها قائمة بعد في المشرق أو المغرب؛ فلما استولى عبد الرحمن الأموي على الأندلس وأقام به ملك أسرته من جديد، أخذت الدولة العباسية تخشى بحق أن تنازعها هذه الدولة الخصيمة زعامة الإسلام، أو أن تبلغ من القوة مبلغاً يحملها على التفكير في مقارعتها ومناوأتها والإغارة على أملاكها الأفريقية؛ وأما مملكة الفرنج فقد كانت تخشى اجتماع كلمة الأندلس بعد تفرقها مدى حين، وهو تفرق مهد للفرنج استعادة الأراضي الإسلامية في غاليس وافتتاح ثغر أربونة آخر معقل للإسلام في فرنسا؛ وقيام الدولة الإسلامية الجديدة في الأندلس موحدة الكلمة موطدة الدعائم يعرض مملكة الفرنج إلى خطر الغزوات الإسلامية كرة أخرى؛ فكانت مملكة الفرنج ترقب قيام هذه الدولة يجزع، وتلتمس الوسائل لسحقها قبل أن تستفحل وتغدو خطراً داهماً عليها؛ ومن ثم كانت سياسة الفرنج في تشجيع جميع الزعماء الخوارج على عبد الرحمن الأموي، والعمل على إضرام نار الحرب الأهلية في الأندلس؛ وكان اقتحام شارلمان للبرنيه بتحريض الزعماء الخوارج ليحاول افتتاح شمال الأندلس؛ ومن ثم كانت هذه العلائق والمراسلات الدبلوماسية التي تبادلتها الخلافة العباسية مع مملكة الفرنج، ولم تكن بلا ريب بعيدة عن الفكرة المشتركة في التعاون على سحق الدولة الأموية الجديدة في الأندلس
وكانت ثمة فكرة مماثلة تحمل الدولة الأموية في الأندلس والدولة البيزنطية خصيمة الدولة العباسية ومناوأتها في المشرق على عقد التفاهم والصلات الودية؛ فكانت بين أمراء بني أمية وقياصرة قسطنطينية مراسلات وسفارات سياسية هامة. ففي سنة 836م (225هـ) بعث الإمبراطور تيوفيلوس إلى عبد الرحمن بن الحكم أمير الأندلس سفراءه بهدية فخمة ورسالة يدعوه فيها إلى التحالف، ويرغبه في ملك أجداده بالمشرق؛ وكانت هذه المحاولة الدبلوماسية من جانب قيصر قسطنطينية على أثر اضطرام الخصومة والحرب بين الدولة العباسية والدولة البيزنطية وبميث المأمون ثم المعتصم في أراضيها. فرد عبد الرحمن ابن الحكم على القيصر بهدية فخمة وبعث إليه سفيره يحيى بن الغزال، وهو من كبار الدولة وفحول الشعراء فاحكم بينهما الصلة والتحالف. على أن علاقة الإمبراطور بصاحب الأندلس لم تتعد المراسلة والمجاملة، لأن خلفاء عبد الرحمن الداخل حافظوا على سياسته التي رسمها من الامتناع بالجزيرة والاقتصار على توطيد ملك بني أمية فيها، حتى عمد الناصر إلى تغيير هذه السياسة والتدخل في شئون المغرب لظروف وحوادث عرضت يومئذ
ونعود إلى علائق الدولتين العباسية والبيزنطية، تاج العلائق بين الإسلام والنصرانية في تلك العصور؛ ففي أواخر القرن الثامن كان على عرش قسطنطينية امرأة وافرة الذكاء والعزم هي الإمبراطورة إيريني زوج الإمبراطور ليون الرابع، وكانت وصية على ولدها قسطنطين أثناء طفولته؛ ولكنه لما كبر وحاول أن يقبض على زمام السلطة، ناوأته وقاومته حتى ظفرت به، وزجته إلى ظلام السجن بعد أن سملت عيناه بأمرها؛ فانتهز المسلمون فرصة هذه الاضطرابات وغزوا آسيا الصغرى مراراً حتى اقتربوا من البوسفور، وقاد هارون (الرشيد) وهو يومئذ ولي عهد أبيه المهدي بنفسه معظم هذه الحملات، فاضطرت إيريني إلى التماس الصلح، وبعثت رسلها إلى هارون، وهو يعسكر بجيشه على مقربة من البوسفور، تطلب الصلح والهدنة؛ فاجابها الرشيد إلى ما طلبت وعقدت بين الفريقين معاهدة تعهدت إيريني بمقتضاها أن تدفع إلى الخلافة جزية سنوية مقدارها سبعون ألف دينار، وتبادل الرشيد والإمبراطورة بهذه المناسبة بعض الهدايا والتحف الملوكية (782م - 166هـ)، ولما تولى الرشيد الخلافة بعد أبيه، كانت إيرني قد خلعت وجلس على عرش قسطنطنطية نيكيفروس (ويسميه العرب نيقفور) كبير الخزائن؛ فما كاد يجلس على العرش حتى بادر بإعلان الخصومة على الخلافة وبطلان معاهدة الصلح، ورفض أداء الجزية والمطالبة بما أدى منها؛ وتنقل إليناالرواية الغربية صورة الإنذار الذي وجهه نيكيفروس على يد سفرائه إلى الرشيد وفيه يخاطب الرشيد بما يأتي: (من نقفور ملك الروم إلى هارون ملك العرب، أما بعد فان الملكة التي كانت قبلي أقامتك مقام الرخ وأقامت نفسها مقام البيدق، فحملت إليك من أموالها ما كنت حقيقياً بحمل أضعافه اليها، لكن ذلك لضعف النساء وحمقهن، فإذا قرأت كتابي هذا فاردد ما حصل لك من أموالها وافتد نفسك بما تقع به المصادرة لك، وإلا فالسيف بيننا)؛ وألقى سفراء الروم أمام عرش الرشيد حزمة من السيوف إشارة بإعلان الحرب، فغضب الرشيد لهذه الجرأة أيما غضب؛ وكتب بنفسه على ظهر كتاب ملك الروم؛ أما بعد فقد فهمت كتابك يا ابن الكافرة، والجواب ما تراه لا ما تسمعه والسلام)، وبادر الرشيد إلى غزوا آسيا الصغرى على رأس جيش ضخم، فاجتاحها حتى هرقلية (806م) فاضطرب نيكيفروس إلى طلب الصلح، وأرسل إلى الرشيد سفارة على رأسها أسقف سينادا، وعقدت بين الفريقين معاهدة جديدة، يتعهد فيها القيصر باصطلاح الحصون المخربة، وبأن يدفع جزية سنوية قدرها ثلاثون ألف دينار، وأن يدفع عن نفسه ثلاث قطع ذهبية من نوع خاص وثلاث أخرى عن ولده عنواناً لخضوعهما لأمير المؤمنين
(للبحث بقية)
محمد عبد الله عنان المحامي