مجلة الرسالة/العدد 88/(روز)

مجلة الرسالة/العدد 88/(روز)

ملاحظات: بتاريخ: 11 - 03 - 1935



للأستاذ إبراهيم عبد القادر المازني

كان الظلام قد خيم بعد غيوب الشمس، وذهبت معارف الأرض، وانتقل كل مجسد إلى عالم الأشباح الغامضة، وتسربت الألوان المختلفة في السواد الذي غمرها، وتحول الجو من طلاقة الاعتدال وطيبه إلى البرد، كعادته في هذه المناطق الصحراوية، فتحول أهل البيت إلى الحجرات طلباً للدفء، أو اتقاء لما يجر إليه التعرض للقر، وكان البواب النوبي يتمشى في الحديقة بعد أن خلت من المتنزهين وفي يده مسبحته الطويلة التي لا تفارقه، فهي على عنقه كالعقد إذا لم تكن حباتها بين أصابعه، وكان قد وصل إلى آخر الممر، ودار ليعود، فقال له حوضُ الأذريون

- أو هكذا خيل إليه -:

(هشش!)

فنظر مبهوتاً إلى هذا الزهر الأصفر ذي الخمل الأسود، وتعجب من نطقه، فلولا فرط الدهشة للاذ بالفرار، فقد كان من المؤمنين بالعفاريت وركوبها الناس واتخاذها أشكالاً وصوراً شتى، وتقمصها أجسام الحيوان، ولم يكن بعيداً في التصور عنده أن تطلع من أحواض الزهر

ومنعته الدهشة أن يجيب بشي. وأي جواب لمثل هذا النداء سوى الالتفات إلى مصدر الصوت؟ ولا مصدر له يعلمه سوى هذا الحوض

وعاد الصوت الخفي يقول:

(هشش!)

ولكنه لم يصدر في هذه المرة عن الحوض، بل انتقل إلى ما وراء الزرع المفرش على السور الحديدي، وكفى بهذا التحول سبباً للرعب، فما يمكن أن يجيء الصوت من الإمام مرة، ومن الخلف مرة إلا إذا كان صاحبه عفريتاً من الجن، فانطلق البواب يعدو كالنعامة إلى حيث يرجو أن يجد أنيساً يذهب عنه الخوف

وسخط العفريت لما رأى فريسته تفلت من يده، وتخلص من ألفاف الشجر المتشجنة تخلصاً لا يعود بحسن السمعة وطيب الأحدوثة على الجن قومه، ولا يشهد لهم بالبراعة والحذق، فلما صار في الممر أخذ ينفخ من الجهد وينقض التراب عن ثيابه، ويلعن البرابرة وجبنهم. ولما أوسعهم لعناً، وشفى قلبه مما يجد عليهم تحول إلى نفسه، ولم يبخل عليها بحظ وافٍ من التعنيف والتقريع على ما كلفته سخافته من الزحف وراء الشجر الأشب من تلويث الثياب والتعرض للحشرات، وأحس - حين ذكر الحشرات - كأن بعضها - جيشاً كاملاً منها - يسير على ظهره تحت ثيابه

وفي هذه اللحظة، وقبل أن يتم ما بدأه من إبداء الرأي في نفسه ويصارحها به على أكمل وجه، سمع من الشرفة صوتاً يناديه باسمه، فكان من أثر المفاجأة أن رد: (نعم) بصوت عال، ولم يكد ينطق بهذه الكلمة المفردة حتى أدركته. الندامة وعاد سخطه فعظم على نفسه، فلو استطاع أن يجردها أمامه شخصاً لقتله بلا تحرج، ولم يسعه بعد أن وشى بنفسه إلا أن يمشي إلى حيث دعُي فأجاب، وكان الله في عونه حين يدعو الفضول إلى السؤال!

وفي هذه اللحظة كانت (روز) - كلبة البيت - قد شبعت من تفتيشه والإحاطة بمداخله وخارجه، واختبار الكراسي والبحث عما عسى أن يكون تحتها، وما لعلعه مخبأ وراء الستائر، وحدثتها نفسها بالخروج إلى الحديقة لعل فيها قطعة، أو عظمة تتسلى بها، فقد كانت (روز) طالبة لهو بريء، وسيان عندها أن يكون الملهو به حيواناً مثلها أو جماداً، ولكن الباب كان مغلقاً اتقاء لتيارات الهواء، ولو لم يكن في وسع (روز) أن تفتحه بغير معونةٍ من الإنسان، فوقفت أمامه - أو لصقه - وجعلت تحك أنفها فيه منتظرة أن يدخل داخل أو يخرج خارج

وسرعان ما استجاب الله دعاءها وحقق رجاءها، فقد دفع صاحبنا الباب ودخل وهو ينفخ، ولم يكن يدري أن (روز) وراءه وأن أنفها أصابته منه ضربة قوية، أدرات رأسها وآلمتها وأخرجتها عن طورها. وكانت (روز) كلبة رقيقة الإحساس لينة العريكة، وقد ألفت أن يداعبها الناس - رجالاً ونساء وأطفالاً - واعتادت إذا مسها أذى غير مقصود، أن يسرع المسيء إلى ملاطفتها والاعتذار إليها، ولذلك أدهشها أن ترى صاحبنا يضربها بالباب ويكاد يبطط لها أنفها الجميل، ويمضي كأنما لم يحدث شيء على الرغم من الصرخة العالية التي أطلقتها من الألم، وهاجها هذا السلوك فانطلقت تجري حتى صارت أمامه ونبحته نبحتين كأنما تقول له: (لحظة من فضلك! لحظة واحدة، إذا سمحت!)

فقال صاحبنا بجفوة: (اذهبي عني - فلست أحب الكلاب!)

فقالت (روز):

(صحيح؟ أهو ذاك؟ ومن تظن نفسك أيها الحلوف القذر حتى تضرب فتاة مثلي على أنفها؟)

فبشور صاحبنا بيديه مرة أخرى ليصرفها، لكنها ألحت عليه بالنباح قائلة:

(إن أمثالك في الدنيا هم الذين يحدثون الثورات والفتن والهزاهز. وما أظن بك إلا أنك من الملاّك الجشعين الذين يظلمون الفلاحين العاملين في أرضهم، ويلقون بهم في أحضان المهيجين والبلاشفة. . . .)

فضاق صدر صاحبنا، ورفسها برجله، ولم يرفسها في الحقيقة وإنما حرك ساقه حركة الرفس، فلم تصبها رجله، فقد كان يريد المعنى لا الفعل؛ ولكن (روز) كانت كلبة حرة تكفيها الإشارة، فغضبت جداً لكرامتها، ووثبت وثبةً مكنت أسنانها الحادة من طرف السترة فغرزتها فيها وجذبتها بكل ما فيها من قوة، فانهارت الظهارة، وتكشفت عن البطانة، وكانت لا تزال فائرة النفس، فهمت بوثبة أخرى، ولكن فتاة من أهل البيت دخلت في هذه اللحظة، فصاحت بها:

(روز. . . روز. . . .!)

فالتفتت (روز) على الصوت، وأدركت بذكائها الكلبي أن لا رجاء بها بعد ذلك في مواصلة الكر والفر، فدست ذيلها بين فخذيها واختفت

وقال الفتاة لصاحبنا:

(آسفة جداً. . . . .)

فنظر صاحبنا إليها مقطبا، ثم صوب عينه إلى سترته، وتناول الطرف المهلهل بيمينه، فغلا دمه، وشعر برغبة جامحة في أن ينقص تعداد القطر المصري واحدة، غير أنه استطاع بجهد أن يكبح نفسه، فما يليق أن يكون كالكلبة حماقة، ولا سيما في حضرة سيدة وقال:

(لا بأس! لا بأس! أعني لا شيء. . . هي غلطتي، وإن كنت لا أعرف كيف أسأت إليها. . . هل اسمها روز؟) قالت الفتاة: (نعم. . . روز. . . . اسم جميل، أليس كذلك؟)

قال: (ولكن الفعل غير جميل. . . والبذلة جديدة قبحها الله. . . أعني الكلبة لا البذلة. . . معذرة. . .! على كل حال يجب أن أرحل الآن، فما أستطيع البقاء بهذه الثياب الممزقة. . . استودعك الله. . .)

وهكذا مزقت (روز) ثيابي. . . ومن أجل هذا صرتُ أكره الكلاب بأنواعها، من مجازية وحقيقية، ولا أطمئن إليها، ولا آمن من غدرها، ولي الحق. أليس كذلك؟

إبراهيم عبد القادر المازني