مجلة الرسالة/العدد 880/الكتب
مجلة الرسالة/العدد 880/الكتب
صديقي مويز
تأليف الأستاذ حسن المخزومي
للأستاذ علي محمد سرطاوي
هذا كتاب وضعه الأستاذ العالم حسن المخزومي بالفرنسية ووزع في باريس حينما كانت هيئة الأمم المتحدة تنظر القضية الفلسطينية في مرحلتها الأخيرة. وقد نقله إلى العربية وطبع في بيروت في مطابع الكشاف عام 1948.
يقول الأستاذ عبد الله مشنوق في الكلمة التي قدم بها الكتاب لقراء العربية: (هذه فصول قيمة موجزة كتبها صديقي حسن المخزومي عن الصهيونية منذ نشأتها حتى اليوم، على لسان صديقه اليهودي موييز، بأسلوب قصصي ممتع، يمتاز بوضوحه وسهولته كما يمتاز برصانته العلمية ونقده اللاذع الساخر. ضمنه خلاصة وافية عن الصهيونية وأحلامها ومزاعمها، مستنداً إلى الوثائق والمراجع التاريخية ومفنداً هذه المزاعم - على لسان اليهودي دائماً - بإنصاف واتزان يبرز فيهما للقارئ حسن المخزومي العالم الرياضي والمهندس المدفق لا يسرف ولا يغلو، ولا تتغلب فيه العاطفة على العقل).
ويقول في مكان آخر: (لقد صدر متأخراً عن موعده ربة قرن على الأقل، ولو أنه صدر في موعده الصحيح لتغير وجع التاريخ. . . ولو أن كل عربي عرف مرامي الصهيونية وأغراضها منذ ربع قرن لما أخذ العرب على حين غرة. . . ولما ظهروا بذلك المظهر الارتجالي في ميادين السياسة والقتال. .)
والكتاب لا يزيد في صفحاته على الستين في حساب الحجم، ولكنه في حساب الحقائق خلاصة مركزة لعشرات المجلدات التي تحدثت عن قصة تاريخ الإنسان في عشرات القرون. والكتاب في مجموعه لمحات عابرة في رأي صائب، واتزان عميق، وبيان مشرق، وفي إشراق الفكرة المركزة يتراءى الجهد المضني الذي يبذله الغواص في أعماق اليم وفي تبسيط المقعد من مشاكل التاريخ تبدو الطاقة المبذولة في تحويل أطنان من الأتربة والحجارة إلى ذرات صغيرة من الذهب الوهاج.
وفي الكتاب لفتات ذهنية بارعة، ومفاتيح لغرف نفسية لشعوب انطوت على أنفسها - على حد تعبير الأستاذ الفنان المعداوي -، ونتائج يكاد ينفرد بالوصول إليها، ومشاهد من صور يعبد التاريخ نفسه فيها.
وقلائل جداً، هم الذين نصدوا لكتابة التاريخ وخلق بهم الفكر النير على أجنحة الفهم العميق والإدراك المتزن إلى الآفاق التي توحد فيها حقائق الأرواح الخالدة، وقلائل جداً هم الذين لم تفح من آثارهم روائح القبور، ولم تبد وراء كلماتهم جثت الموتى وعظام الغابرين.
وثقافة الأستاذ المخزومي العلمية، وإطلاعه العميق على مصادر التاريخ في أكثر من أربع لغات أجنبية يتقنها، إلى جانب ما يتحلى به من ذوق مترف، وحسن ملهم في الأدب والفن، كل ذلك يطل عليك من وراء كلمات الكتاب النابضة بالحياة، فيخيل إليك أنك لا تقرأ كتاباً، وإنما تسمع حديثاً مبسطاً عن المشاكل المعقدة في العلم والفن، في سخرية لاذعة واتزان عميق.
تبتدئ المسرحية الصهيونية التي ذهب ضحية فصلها الأول مليون ونصف من العرب الآمنين، التي سيذهب اليهود مجتمعين في فلسطين ضحية الفصل الثاني منها حينما ترخى يد الزمن أطراف الستار، في مكانين متباعدين في الشرق والغرب.
وقف على طرف المسرح الغربي في بريطانيا لويد جورج وزملاؤه، يعاونهم بلفور وشركاؤه على الإيقاع باليهود عن طريق وعد بلفور الغاشم؛ ووقف على طرف المسرح الشرقي مكماهون ولورنس يحاولان الإيقاع بالشريف حسين عن طريق استقلال العرب. . .
وفي الوقت الذي كان فيه مكماهونيقطع الوعود المعسولة للشريف حسين، كان جورج بيكو الفرنسي، ومارك سايكس الإنجليزي قد أتما تقسيم البلاد العربية إلى مناطق نفوذ بينهما، ولم يتركا للعرب غير الصحراء - الصحراء فقط - لأنهم خرجوا منها وإليها يرجعون. . .
ويقول المؤرخ الإنجليزي هـ. ر. تامبرلي: (كانت ثقة العرب في بريطانيا العظمى من القوة بحيث لم يفلح إفشاء بعض البنود من المعاهدات السرية في إفساد العلاقات الحسنة بين الطرفين. . .) آمن إبراهيم وهو في العراق بفكرة التوحيد، وتبنى اليهود من بعده هذه الفكرة وتعالوا بها على سائر الشعوب التي تحيط بهم وانطووا على أنفسهم فكرهتهم الشعوب واكتوى إبراهيم نفسه بنار هذه الفكرة التي آمن بها فكانت وبالاً عليه واضطر أن يفر من الصحراء إلى فلسطين. كان محبوباً فأعلن كثير من الأقوام أنه جدهم كالأبدوميين، والأموريين، والإسماعيليين. أما اليهود فيبدءون من يعقوب أو إسرائيل الذي اضطرته المجاعة إلى الهجرة إلى مصر، وهناك ابتدأ الاضطهاد الأول في التاريخ لليهود. وهنا نتساءل: أكان الخطأ عند اليهودأمكان عند المصريين؟
واضطر اليهود إلى الهرب من مصر، وقد انضم إليهم من كان من غير اليهود، ولعل موسى من هؤلاء. وقد أضاف إلى عقيدة التوحيد وصايا أخلاقية عشراً لم يتبعها اليهود، بل شاكسوا الأنبياء، وأشركوا بالتوحيد؛ فقدموا القرابين لأرباب آسيا، وعبدوا عشتاروت ويعل ومولوخ والعجل الذهبي، ووضعوا أولادهم في افران مولوخ، وسلموا نساءهم للبغاء المقدس على الروابي والتلال.
لقد رأى موسى أن بقاءهم في تيه صحراء سينا، قد يقوم المعوج من أخلاقهم، ويثير رجولة الشجاعة في نفوسهم، ولكن ذلك البقاء في التيه لم يفلح إلا في إجاعتهم. . . وتسللوا إلى فلسطين أفراداً وجماعات تسللاً بطيئاً، ولم يكن صحيحاً أنهم أخذوها بالقتال لأنها كانت معمورة بجبابرة من الكنعانيين والأشمونيين والجابوسيين، كانوا أصلب منهم مراساً وأقوى عوداً، وأمتن أخلاقاً. . .
وللمرة الأولى في التاريخ أصبحت لهم مدينة، زمن داود وسليمان، ولكن الذي يلفت النظر أنهم لم يستطيعوا الإتيان بعمل فني، فاستعانوا بجيرانهم على بناء الهيكل. وإذا استثنينا المزامير خرج اليهود من حساب التراث الفني خاسرين. . .
واليهود كالنار، تأكل بعضها أن لم تجد شيئاً تأكله وحينما لم يجدوا بينهم شعوباً يدبرون لها الشر، ويبيتون لها المكر، دبروا ذلك لأنفسهم، فانقسموا إلى شماليين في السامرة، وجنوبيين في أورشليم، وقضى سرجون ملك نينوى على الشماليين عام 722 ق. م، ونبوخذ نصر على الجنوبيين عام 586 ف. م، ونفاهم إلى بابل، وبذلك أزاحت يد التاريخ عن مسرح الدنيا تمثيلية لم يصلح الممثلون لأداء أدوارها، ولم يرتح النظارة لمشاهدتها. ونتساءل مرة ثانية: أكان الخطأ عند اليهودأم عند البابليين والآشوريين؟
يبتدئ تاريخ اليهود الحقيقي بسبي بابل، وحينما فتحها كورش الكبير وقضى على أمجادها عام 539 أصدر أوامره بإعادة اليهود إلى فلسطين (وهاهو التاريخ يعيد نفسه بنزوح يهود العراق إلى فلسطين عن طريق إيران). لقد رفض عدد كبير منهم العودة رغم مساعدة كورش العظيم لهم، ورغم تبرع الذين لا يريدون العودة بنفقات الراجعين. . . والذي يلفت النظر فيها إن فلسطين لم تتأثر بنفيهم إلى بابل. كانت الحياة فيها هادئة ومزدهرة بعدهم.
وبرجوع اليهود من السبي البابلي تحققت نبوءة دانيال. وهذه النبوءة لا تعني رجوع اليهود مرة أخرى، لأنه لم يبعث إليهم نبي بعد أن شتتهم تيطوس في السنة السبعين من الميلاد.
عاد اليهود إلى فلسطين من العراق فابتدأت المتاعب لهم ولجيرانهم وللرومانيين. لقد عاشوا عيشة الضنك والفساد والشغب والفوضى، ورأت روما وهي سيدة الدنيا وجبارة التاريخ أن نضع حدا لهذا العبث والاستهتار فدلف إليهم تيطوس بجيوشه وشتتهم في العام السبعين من ميلاد المسيح. وهنا نتساءل مرة ثالثة: لقد قضت روما على قرطاجنة لأنها كانت تهدد حياتها، أما اليهود - اليهود المستضعفون - فلماذا قضت عليهم روما؟ وكان الخطأ عند اليهود أم عند الرومان؟
ظهر المسيح يبشر بكلمة الله فضيع اليهود الفرصة الذهبية التي أتاحها لهم القديس بولس في الطمأنينة ونشر عقيدة إبراهيم وشريعة موسى، وتعاليم يسوع السامية بين الشعوب بدلاً من وقفها عليهم. ضيع اليهود هذه الفرصة بدافع من تعصبهم الضيق المغرور، وكبريائهم العنصري.
وهكذا تم الفراق والتباعد بين اليهودية والمسيحية، ونشأ الكره بين الطائفتين لأن اللهلم يخلق العالم ليجعل منه عبيداً لأبناء يعقوب. وبنبذهم النصرانية عاشوا منبوذين مكروهين في العالم، واضطروا النصارى إلى مقابلتهم بالاضطهاد والعذاب بدلاً من إظهار العرفان بالجميل. . .
في هذه الفترة من الاضطهاد اضطر اليهود إلى العيش مجتمعين فنفروا من الزراعة وحرموا من الوظائف العامة والجيش، وانصرفوا بكليتهم إلى التجارة والربا الذي يحرمه دينهم عليهم، فجمعوا المال وكدسوه غير ملتفتين إلى ما يحيق بهم من عذاب واضطهاد.
وأقبلت الثورة الفرنسية تلتهم الأخضر واليابس، وتدمر معالم الحياة، وأطلت البرجوازية، وحل المال محل سائر القيم الروحية والاجتماعية والأخلاقية، فوجد اليهودي نفسه فجأة فوق قمة المجتمع الإنساني بما لديه من مال، وانفتح أمامه مستقبل لم يحلم به أبداً.
وفي هذه المرة كان بإمكان اليهود النجاة بأنفسهم والعيش هادئين، ولكن الغرور سول لهم أن يفرضوا أنفسهم على الدنيا وأن يستعبدوا العالم بأسره.
وظهر رد الفعل شديداً في أسبانيا، وذاق اليهود من الكنيسة ألواناً من العذاب فهاموا على وجوههم، ووجدوا في العالم العربي الصدر الرحب الذي لا يضيق، والتسامح الديني الذي يفرض على المسلم احترام أهل الكتاب، والقلب الرحيم الذي يضع البلسم على الجرح الدامي، وحذت البلاد النصرانية حذو أسبانيا فوقع اليهود أمام اضطهاد منظم رهيب. كان اليهود على الدوام يلقون اللوم على مضطهديهم، ولم يدر بخاطرهم أن يوجهوا بعضاً من التقريع إلى أنفسهم.
وهنا تبتدئ مرحلة جديدة أمام اليهود في التاريخ، تلك هي مرحلة التردد بين الاندماج والتكتل.
أن الاضطهاد المنظم، والمال الوافر، جعلهم يفكرون في موطن أو دولة وخرجوا من التفكير الطويل فرأوا أنفسهم أمام حلين لمشكلتهم:
الحل الأول: أن يندمجوا بسكان البلدان التي يعيشون فيها وتختفي مع الزمان العلامة الفارقة التي تميزهم عن الناس.
الحل الثاني: أن يبقوا منعزلين انتظاراً للوقت الذي يفتشون فيه عن وطن لا ينازعهم في ملكيته أحد. وفي الحيرة بين هذين الحلين بقي اليهود هائماً في الظلام يتخبط في تيار الزمن متردداً.
وإذا عدنا إلى الماضي البعيد، منذ ألفي سنة، نرى، نرى فيلسوف الإسكندرية اليهودي قيلون ينتصر لفكرة اندماج اليهود بالشعوب التي يعيشون بينها حين يقول: (لم يعد اليهود بسبب عددهم قادرين على أن يعيشوا في بلد واحد. ثم أنهم يعيشون الآن في أغنى البلدان من أوربا وآسيا فينبغي أن ينظر اليهود إلى أورشليم اليوم وغداً على أنها مقر أصله الخلقي وإنها مكان مقدس، على حين أن البلد الذي يسكنه هو وطنه الذي يعيش فيه كما عاش أبوه وجده من قبله). وقد تحققت مخاوف فيلون وأدت إلى خراب اليهود في معظم البلدان التي عاشوا فيها.
وحينما صدر وعد بلفور الذي يمنح اليهود في الظاهر وطناً روحياً، وفي الباطن دولة يهودية، احتج عقلاء اليهود عليه، ولكن احتجاجهم ذهب صرخة في واد، واعتبر المحايدون ذلك الوعد افدح ضربة وجهت إلى اليهود في التاريخ. والذي يرجع إلى المذكرات التي كتبها هربرت صموئيل أول مندوب سام على فلسطين يجد صورة واضحة المعالم فيها من أعماق قلب يهودي شديد الاتزان، بعيد النظر.
وأقبل القرن الرابع الميلادي وأصبحت المسيحية دين الدولة الرومانية، وأصر اليهودي المتعصب على القطيعة وبقى على معتقده القديم، ولم يحاول اليهود العودة إلى فلسطين بعد عام 135 م حتى لم يذهب إليها حاج واحد ولم يأتوا إلا بعد اضطهاد الأسبان لهم، وجاءوا لاجئين لا حجاجاً.
وعلى أثر اضطهاد اليهود وطردهم من إنجلترا عام 1290 وفرنسا عام 1306، وأسبانيا عام 1492، فتح ملوك ألبانيا أبواب بلادهم لهم، ولكن اليهودي العتيد بقى نفس ذلك اليهودي المطرود بكل ما فيه من تعصب لجنسه، يعيش منفصلاً عن الأمة البولونية ويمتص دماءها وأموالها، فنشأ البغض هناك وأطل الاضطهاد برأسه. ونتساءل دائماً لماذا؟ لماذا؟ لماذا يضطهد اليهودي ويبغض، الخطأ عند الناس لخطأ في طبيعته؟
وتحسنت أحوال اليهود بعد القرن الثامن عشر بسبب الهجرة إلى أمريكا، ولكن المهاجرين اليهود حملوا إلى الدنيا الجديدة معهم بذور الاضطهاد فنبتت حولهم هناك.
ونشأت فكرة الدولة اليهودية من الخوف من تكاثر عدد اليهود المنصهرين في الشعوب، ثم لإيواء اليهود المضطهدين. تلك هي التربة التي نمت فيها بذور الحركة الصهيونية.
يحدثنا التاريخ أن نابليون بونابرت في العام السابع من الثورة الفرنسية قد دعا يهود آسيا وأفريقيا للانضواء تحت لوائه لاسترجاع أورشليم.
وتجنس عام 1840 اليهودي الإيطالي موييز حاييم مونتفيورى بالجنسية الإنجليزية ومنح لقب سير وهو صاحب فكرة إقناع الإنجليز بحماية اليهود في الدولة العثمانية، ولكن إنجلترا في ذلك الوقت لم تجد مصلحتها في جانبه فلم تساعده، وحاول إيقاف هجرة اليهود إلى أمريكا وتحويلها إلى فلسطين، ولكنه لم يفلح.
وتأسست عام 1880 في الأستانة جمعية صهيونية روسية سمت نفسها (بيلو) قالت في بياناتها: (يا إسرائيل ماذا ضعت منذ ألفي سنة، لقد نمت نوماً عميقاً وحلمت برؤيا الاندماج الفارغة. إن مستقبلك في الغرب لا أمل فيه ولا رجاء - هناك مستقبلك في الشرق حيث يلمع نجمك في السماء. .)
وكان الدكتور بانسكو الروسي اليهودي من دعاة الاندماج، ولكنه غير رأيه بعد اغتيال اسكندر الثالث وعودة الاضطهاد، ورجع ينادي بالدولة اليهودية، ولكنه حذر قومه من الاتجاه شطر الأرض المقدسة. ومن أقواله: (لقد قاسينا من الويلات على هذه الأرض المقدسة ما فيه الكفاية. ولنا فيها من الذكريات الأليمة ما يصرفنا عن التفكير في سكناها والتعرض لأخطار الطرد منها كما حدث في الماضي.)
وقام في نفس الوقت البارون هيرش الألماني يدعو إلى الدولة اليهودية ولكن في بلاد الأرجنتين تحت شعار العودة إلى الزراعة، لكن هذه الفكرة ماتت بمعارضة المتطرفين ومات مشروع البارون.
ثم ظهر على المسرح مويبزهس الألماني. كان هذا شديد الإعجاب بالثورة الفرنسية فدعا إلى اتحاد فرنسي يهودي للسيطرة على الشرق الأدنى وطريق الهند ومحاربة الإنجليز، لكن قضية دريفوس الشهيرة جعلته يغير رأيه.
وفي هذه البلبلة ظهر هرنشل، وهو يهودي نمساوي. كان صحفياً ومؤلفاً مسرحياً. أصدر عام 1891 كراساً عنوانه الدولة اليهودية) أحدث ضجة كبرى.
جرب هرنشل أن يوحد المذهبين المسيحي واليهودي عن طريق تنصير اليهود ووضع حد لمسلكهم الشاذ في المجتمع البشري ولكن أصدقاءه صرفوه عن هذا الرأي لاستحالة قبول اليهودية.
وإزاء هذا الفشل خطرت له فكرة تأليف شركة يهودية للاستعمار في أرضيستطيع أن يمتلكها اليهود وأن ننظم إليها الهجرة تنظيماً كثيفاً. ومن المحقق أن أرض الميعاد لم تخطر لهرتسل على بال. لكن المتطرفين قلبوا فكرته وحملوه على تقديم مشروع على أساس الهجرة إلى فلسطين. فحاول الحصول على فلسطين من السلطان عبد الحميد، لكنه باء بالفشل وكان جواب السلطان لوسيطه: (قل للدكتور أن يعدل عن الإصرار على هذا الأمر فأنا لا أستطيعالتنازل عن شبر واحد من أرض السلطنة لأن هذه الأرض هي ملك لشعبي لا ملكاً لي وقد أهرق هذا الشعب دمه للاستيلاء عليها فليحتفظ اليهود بملايينهم، ولعلهم يتمكنون من الفوز بفلسطين بدون مقابل متى قطعت أوصال السلطنة. أما أن أقبل طوعاً بأن ننتزع منها أحد أجزائها فلا. . .
(أنني لا أستطيع أن أرضى بتشريحها وهي لا تزال على قيد الحياة. . .)
لكن هرتسل استعمل الأساليب الملتوية رغم هذا الجواب الصريح وخرج على مبادئ الهجرة الكثيفة. . . وكان في الوقت الذي يدعو فيه إلى اتحاد يهودي إسلامي للتفوق على المسيحيين، كان يفاوض إمبراطور ألمانيا ويحاول إقناعه بالفوائد التي تجنيها ألمانيا من إيجاد فلسطين، إذ لا بد أن تمهر بطابع من الثقافة الألمانية، ومع ذلك فلم يكتب له التوفيق، ففشل مع غليوم وعبد الحميد، لكنه لم ييأس وأدار وجهه إلى إنجلترا، وكانت تعاني من كثرة تدفق المهاجرين اليهود عليها، فرحبت بالفكرةلأنفيها الحيلولة بينها وبين السبل الجارف من المهاجرين - ولكن إنجلترا لم ترد إغضاب السلطان، فاقترح هرتسل جزيرة قبرص أو العريش لكن جوزيف شمبرلين وزير المستعمرات اقترح عليه (اليوغندا) لتكون موطناً يهودياً. . . ولما تألفت لجنة لدرس هذا المشروع كان هرتسل قد مات فقضى على الفكرة نهائياً ورفضها مؤتمر 1905 رفضاً باتاً.
وهنا ظهرت أقلية يهودية أسمت نفسها منظمة الأراضي وأسلوبها شراءالأرضوإقامة المستعمرات والمدارس والهجرة بأسلوب خفي تقوم الدولة اليهودية ويطرد العرب من فلسطين
وهكذا لعب اليهود بالنار التي احترقت وستحرق في لهيبها أرواح بريئة من بني الإنسان ففازو خداعاً بالجولة الأولى، واستقروا على فوهة بركان من حقد أربعين مليوناً منأمةأحسنت لليهود في أوقات المحن التي مروا بها؛ نغلي في أعماق ذلك البركان حمم رهيبة من الثأر وويل للظالم من المظلوم. . .
وهذه جولة خاطفة في رياض هذا الكتاب النفيس، طفناً بالقارئ فيها حول وروده ورياحينه، ومررنا بتلك اللفتات الذهنية البارعة. يقص المؤلف كل ذلك على لسان اليهودي موبيز صديقه الخيالي.
وهنا لك إشارات عابرة في الكتاب إلى تلك الحركات الفكرية الهدامة التي كان ولا يزال اليهود يقومون بها في عصور التاريخ، لهدم القيم الأخلاقية والمثل الإنسانية التي ترفع أعين البشر إلى النور.
وتعاليم الثلمود توجب على اليهودي كره كل من كان من غير بني جنسه. . . وأن يكون قاسياً حقوداً.
وأما قصة (برونو كولات شيوخ صهيون العلماء) فقد جلاها مترجمة لقراء الرسالة الأستاذ محمد خليفة التونسي في أعداد الرسالة الغراء اعتبارا من العدد (856)، ومنها عرف القراء اليهود عارين بعد أن نزعت عنهم تلك الوجوه المستعارة.
ونرى أن ننوه في نهاية هذا الحديث إلى المقال الرائع الذي كتبه الأستاذ عدنان الكيالي ونشر في عدد الرسالة (860) ففيه تفصيل لبعض المشاكل التي أشرنا إليها ونرى أن نقتبس القسم الأخير من المقال المذكور.
قال الأستاذ الكيالي: (وإني أعتقد أن العالم لن يصيب الراحة والهدوء ولن يسوده السلم والاستقرار ما دام اليهود عنصراً فعالاً فيه، وما دام بين الناس من لا يزالون ينخدعون بهم وينظرون إليهم نظرتهم لسائر أبناء البشر الآخرين. ولا مفر للبشر من أتباع أحد وجهين لا ثالث لهما لوضع حد لمفاسد اليهود وشرورهم، فأما أن ينبذوهم نبذاً تاماً ويقصوهم عن مراكز العمران في العالم ويحصروهم في بقاع نائية حصراً لا مجال لهم معه إلى بث سمومهم في الناس. وأما أن يصدقو النية في تغيير عقلية اليهود ومعتقداتهم بأخذ الأجيال الناشئة منهم وتربيتها تربية بعيدة كل البعد عن معتقدات آبائهم وأجدادهم بحيث يهدون إلى دين جديد كالإسلام أو المسيحية أو البوذية أو الكونفوشية أو أية عقيدة أخرى يهذبون ويوجهون توجيها جديدا يتفق مع الخلق الكريم والمثل الإنسانية العليا لتصبح نفوسهم مثل نفوس سائر البشر)
وبعد فلك يا صديقي المخزومي شكر العربية على كتابك النفيس ونرجو أن لا تحول أعمالك الهندسية الواسعة بينك وبين التفرغ لمشكلة أخرى من مشاكل الأمة العربية فندرسها درساً عميقاً فيه الرأي الصائب والتسيد والتوجيه. . .
علي محمد سرطاوي
بغداد - دار المعلمين الريفية