مجلة الرسالة/العدد 882/مذكرات بادليو عن الحرب الحبشية
مجلة الرسالة/العدد 882/مذكرات بادليو عن الحرب الحبشية
للأستاذ أحمد رمزي بك
وقع بين يدي أول أمس ملخص كتبته عام 1937 عن مذكرات المريشال بيترو بادليو القائد الإيطالي عن حرب الحبشية. وضع القائد مذكراته في كتاب عقب دخوله مدينة أديس أبابا، وقدمه إلى الزعيم موسوليني، وكان هذا كافيا أن يثير رغبتي في الإطلاع عليه بعد أن قضيت الشهور في قراءة خطب موسوليني ومقالاته. ويعترف صاحب الكتاب بأن ما كتبه لا يعد تاريخاً رسمياً للحرب لأن هذا التاريخ يتطلب مجهوداً طويلاً وجمع معلومات متفرقة، ولا ينتظر الفراغ منه قبل سنوات عديدة. ولكن الكتاب مقتصر على مجرد سرد لحوادث القتال في إثيوبيا، كما كانت تبدو لبادليو القائد العام الإيطالي، وهو ينظر للحوادث من قمة عالية، فهو يعرضها بطريقة إجمالية عامة كما يراها بنظرته الشخصية كإنسان، فيشرح الحرب وأدوارها كما كان يراها في مركز قيادته، وهو لا يتأخر أن يكشف عما كان يجول بخاطره: من إقدام وتردد، ويعرض علينا بصراحة طريقة تفكيره، وتطور هذا التفكير ثم مسايرته للحوادث. وقال إن الفكرة الأولى التي أوجدها وألزم نفسه بها هي إحراز النصر على أي وجه يكون، فكانت هذه الفكرة راسخة لديه رسوخ العقيدة التي تسلطت على لبه، وكان يستمد منها دوافع العمل والتصميم والأخذ بالقرارات الحاسمة السريعة، فلم تفارقه هذه العقيدة في أشد الأوقات والأزمات، وانتهى بها إلى قيادة القوات التي وضعت تحت إمرته بالنصر والظفر إلى النهاية.
ويقول بادليو في كتابه: (لعل أعظم ما واجه المسئولين عن قيادة الحرب الحبشية، هو ضرورة الحصول على نصر سريع حاسم بأقصى سرعة ممكنة، لأن عامل الوقت كان يعمل ضد إيطاليا) وقد كتب موسوليني في مقدمة الكتاب ما يأتي: (إن غاية كل حرب هو إحراز النصر؛ أما الحرب الحبشية فكانت تستلزم فوق هذه النتيجة الحتمية أن يكون إحراز النصر كاملاً في غير إبطاء أي بسرعة فائقة).
والمتتبع لحرب فلسطين يتفق معي في أن إحراز النصر فيها، كان يستلزم السرعة الفائقة والوصول إلى احتلال أكبر مساحة في أقصر وقت ممكن، وهذا ما لم يلتفت إلى تحقيقه المسئولون عن حملة فلسطين.
ويقول بادليو أنه تولى القيادة في 15111935 ودخل عاصمة
الحبشة في 551936 فكأنه لم يأخذ في العمليات التي قام بها
سوى 4 أشهر وأيام معدودات.
وللوصول إلى نتيجة مثل هذه حشدت إيطاليا أكبر قوة عسكرية في القارة الأفريقية إذ جمعت 300 ألف مقاتل إيطالي و 100 ألف عامل وقوة من الطائرات عمادها 400 طائرة كما جمعت أكثر من 100 ألف من الجنود الأفريقية الملونة (السمر والسود) - وكانت العمليات الحربية التي قامت بها تمثل في اتساعها وتفرعها أكبر حرب للاستعمار رأتها القارة السوداء حتى ذلك التاريخ. فإذا أضفنا وسائل الفن الحديث للقتال وسوق الجيوش وتعبئتها ونقل المؤن وإنشاء الطرق جاءت هذه الحرب بمثابة فتح جديد للحروب الأفريقية.
ولهذا فإن الدراسات التي قامت على معارك حرب الحبشة كانت ذات أهمية خاصة. ولا أتهم بالمبالغة إذا قلت أن قواد الحلفاء الذين خاضوا غمار الحرب العالمية الثانية استفادوا كثيراً من دروسها، ثم أقول أنه من دروس الحرب العالمية الثانية ومعاركها في القارة الأفريقية ما يدعو أيضاً إلى الاستفادة من ناحية الاستعداد للحرب ووضع خططها في المستقبل: لأن عمل كل فئة استفاد منه من جاء بعدها وهلم جراً. . .
ولقد تبين لي من الإطلاع على ما كتبه بادليو أن إيطاليا كانت تضع الخطط منذ سنوات طويلة للحصول على النصر في الحبشة في حالة اشتباكها بالحرب معها - ولقد أخذت أهبتها منذ سنة 1925 فبدأت تعيد النظر في أنظمة الجيش وتهيئة قواتها العسكرية بالمستعمرات.
واختارت لاتمام هذا العمل الإنشائي نخبة من ضباط الجيش الذين يعملون بهدوء وصمت: ومداومة وعناد.
وكان أول ما اهتمت به في نظامها الإنشائي العسكري تكليف وزارة الأشغال العامة بإنشاء شبكات محكمة لطرق المواصلات في إرتريا والصومال توصل إلى الحدود الحبشية.
وكان الاتصال دائما بين رئيس هيئة أركان حرب الجيش الإيطالي ووزارة الخارجية مباشرة - ولما تولى بادليو هذه الرئاسة كان يخول إليه حق الإطلاع باستمرار على دقائق العلاقات السياسية وتطورها بل يؤخذ رأيه في أهم ما يدور البحث فيه بين بلاده وإمبراطورية النجاشي.
وكان من واجبه أن يرقب بانتباه وعناية تامة كل حركة يقوم بها النجاشي لتنظيم بلاده سياسياً أو محاولته تركيز السلطة في يده، وكان من أهم ما تخشاه إيطاليا هو أن تنجح الحبشة في مشروعها الذي يرمي لإيجاد جيش منظم على الأساليب الأوربية ومزود بالأسلحة الحديثة، فينتهي النجاشي أن يوفق في الاستفادة من مزايا وصفات قومه الحربية وطبيعية ارض بلاده.
وكانت الحبشة خالية تماماً من تلك الطبقة الممتازة من الضباط الوطنيين الذين يفكرون بتفكير الأوربيين أو يعرفون طرق الحرب الحديثة وخاصيتها وما تتطلبه من فن ومقدرة، وما تستلزمه من نظرة نافذة واعية، حتى يتمكن أصحاب هذه المهنة من وضع الخطط الحربية وتنفيذها.
ويذكرني هذا بما قرأته عن كلام مصطفى كمال الزعيم التركي الذي أسند أسباب نهضة تركيا الحديثة إلى تلك النخبة من الضباط العظام الذين لولا نظرتهم الإيجابية لضاعت بلادهم كما ضاع من قبل استقلال بخاري ومراكش وتونس ومصر: فهذه النخبة من الضباط الذين يجمعون بين العلم والفن العسكري الأوربي، والجرأة المستمدة من الشعور القومي هي التي كان بوسعها إنقاذ البلاد، وهي التي اطمأنت إيطاليا من عدم وجودها ولم يكن هناك من يحل الساسة للأمور محدود، ونظرتهم قاصرة وكل هذا يبعدهم عن فهم الحقائق وضرورات العصر الحالي فكانوا يحضرون أنفسهم للهزيمة والإبادة.
ويقول بادليو أن النجاشي أخذ في السنوات الأخيرة يلجأ إلى الاستعانة ببعض الأخصائيين من الأجانب الذين لبوا دعوته وقاموا يرسمون له الخطط، فاشتد قلق السلطات الإيطالية خوفاً من أن تستعد الحبشة عسكرياً تحت إشراف هؤلاء الضباط الأوربيين - فتنشئ لها جيشاً وطنياً قد يقف عقبة في سبيل أطماع إيطاليا أو يزيد مشاكل الفتح وتكاليف الحرب القادمة. ولذلك رأت الحكومة الإيطالية أن الساعة قد أزفت لمواجهة المسألة الحبشية بالفصل فيها قبل أن يستفحل أمرها: وأن تضرب الحبشة ضربات حاسمة وبسرعة لكي تضمن تصفية هذه المملكة تصفية نهائية وبطريقة لا تمكنها من القيام مرة أخرى.
ويستمر بادليو يحدثنا عن الحبشة فلا يستهين بها وإنما يقرر أن المعلومات كانت تصل إلى إيطاليا باستمرار من أنحاء البلاد المختلفة عن كل صغيرة وكبيرة فيها وقد أدى جمع هذه المعلومات وتصفيتها بيد الخبراء إلى أن إثيوبيا بوسعها أن تجند قوة محاربة تتراوح بين 200 و250 ألف مقاتل وأن تحشدها في الجبهة الشمالية وأن تسوق قوة أخرى تتراوح بين 80 و 100 ألف مقاتل لجبهة الصومال الإيطالي وفي طاقة البلاد تكوين احتياطي من القوات المقاتلة لشد أزر الجيشين: أما ناحية التسليح فقد أتت الأخبار الموثوق بها تقرر أن القوات مزودة بأسلحة حديثة خفيفة ولكنها من عيارات وطرز مختلفة مما يسهل وقوع الأخطاء في استعمال الذخيرة: (يلاحظ أن الدول الغربية كثيراً ما تلجأ إلى هذه الوسيلة بالذات لعرقلة القوة المقاتلة لدى الأمم الشرقية وهي: ناحية تعدد أصناف الذخيرة وتعدد أنواع الأسلحة المختلفة العيارات لما يلازم هذا التنوع من أخطاء في توزيع الذخائر على الوحدات المقاتلة)
وجاءت إلى رئاسة أركان حرب الجيش الإيطالي معلومات دقيقة عن كافة أنواع الأسلحة التي شحنت في السنوات السابقة للحرب من مدافع وبندقيات رشاشة وأسلحة للمشاة، وعدد الطائرات والسيارات المدرعة وما جاء للمدفعية من مدافع ميدان ومدافع مضادة للطائرات - مما أمكن أن يعطي فكرة عن محاولة إنشاء قوة من المشاة على الأقل منظمة على الأسس الأوربية.
ولكن المطلعين على الشئون العسكرية كانوا على ثقة تامة من عجز الحبشة عجزاً تاماً وعدم قدرتها على توجيه أية حملة كاملة الأهبة والاستعداد لاكتساح إحدى المستعمرتين الإيطاليتين. وذكر بادليو تبريرا لهذا العجز سببين أساسيين. الأول مادي راجع إلى طبيعة الأراضي وخلوها من طرق المواصلات التي تسهل الحشد وتمكن من سوق الجيوش وحشدها في أماكن التجمع اللازمة لها
الثاني أنه إذا وجدت هذه المواصلات فالبلاد مفككة داخلياً وظروفها السياسية والاجتماعية لا تمكنها، من أخذ هذا العبء عليها. وأخيراً فهي خالية من كل المسائل المادية والأدبية التي تجعل تجهيز هذه الحملة موضع تفكير.
إذن فهو مطمئن إلى أنه صاحب اليد الأولى في توجيه الحرب الوجهة التي يريدها وهي بطبيعة الحال ستكون هجومية من جانبه، دفاعية من الجانب الآخر.
ولن تكون حرباً ثابتة وراء الأكمات والحصون والخنادق بل ستكون حرب حركة في أعلى مظاهرها فهي، في حاجة إلى إحكام التدبير والخطط وستحتم احتلال أماكن بعيدة والتوسع في الزحف بشكل غير معهود في السابق بل تفرض أشغال العدو وأحكام المباغتة والاستعداد لأخذ القرارات السريعة الحاسمة وما يستلزم ذلك من الجرأة والثقة في النفس حتى يضمن القائد سرعة التقدم وضمان الوصول إلى الهدف المعين في الوقت الذي تحدده القيادة العامة.
لهذا كله يشير بادوليو في القسم الأخير من كتابه إلى أن أول أمر تستلزمه حرب الحركة والاكتساح هو إيجاد قواد أكفاء ذوي شجاعة للاضطلاع بالمسئوليات الكبرى وليس من السهل العثور على هذه الفئة الممتازة في أي جيش أوربي إذا لم يدرب أفرادها من المبدأ لهذا الغرض وتعطى لهم حرية واسعة للعمل وقت التدريب. وأن يكون الاختيار منصباً أولا على الكفاءة والاستعداد الشخصي فليس كل ضابط يصلح لهذا الاختيار وليس كل قائد لديه الاستعداد الشخصي لمثل هذه الأعمال:
وقد نجح في إيجاد قوة من الضباط الأكفاء من الناحية الفنية أي في القيادة، وفي وضع الخطط للتعبئة وسوق الجيوش، وقد أشرف بنفسه على امتحان معلوماتهم، وعرف عن كثب مدى إدراكهم للأمور، ولذلك مهد لهم طرق الاشتراك في الحرب الحبشية مشيراً إلى أنها الفرصة الوحيدة التي سنحت لهم لإظهار صفاتهم العسكرية الممتازة ومقدار ما وصلوا إليه من معلومات وما أتقنوه من فن عسكري.
وأشار إلى ما لازم إيطاليا من توفيق في تموين جيشها (بكادر) أي مجموعة هائلة من ضباط الصف الذين لهم دراية خاصة ومقدرة على فهم التنظيم والعمل بوحيه وروحه وهي صفات تستلزم المران الطويل ويخلفها ويبرزها التدريب الفني والتربية العسكرية المبنية على أداء الواجب: وقال أن هذا الكادر هو عدة الجيوش المحاربة.
وهكذا استمر المريشال الإيطالي يحدثنا بأسلوبه الشيق ويقول إن الحرب الحبشية كانت تجربة ولكن قاسية دخلتها دولته وخرجت منها منتصرة بفضل العناية التي بذلت في رفع مستوى الجنود والضباط على السواء. وقال أنها كانت في وجهة نظره مواجهة المجهول والتغلب على أشياء غير منظورة، ولا مفروض وقوعها. وكان كقائد واقعا تحت تأثير الزمن كعامل فعال فكان يطلب إليه إتمام عمل معين بأقصى ما يتطلب من السرعة وفي أقصر وقت؛ وكان يضع خططه ويجهز نفسه لسوق وحدات بقصد احتلال مراكز معينة، فتصدر إليه أوامر من روما بتغيير الخطة والسير بغير إمهال لناحية أخرى، فكان يلبي هذا الأمر ولكنه يسير بوحي نفسه فلا يغير خطته الأولى متحملاً المسئولية إلى النهاية.
قال إن أكبر عوامل النجاح هو التنظيم الذي مكنه من عمل المستحيل والذي بدأ بتفريغ ونقل ملايين الأطنان من الذخائر والمؤن في بلاد لم تستعد لتلقي هذه الكميات الهائلة من العتاد، ثم سار في التغلب على الطبيعة بإنشاء المواني والأرصفة والطرق والكباري وتحريك نصف مليون رجل ودفع ملايين من الدواب وآلاف السيارات. كانت الحرب آلة محكمة الوضع، ولذلك تغلبت على العقبات وأخضعت الطبيعة. وتلمح من ثنايا كلماته: إن أرادته تغلبت في النهاية على أوامر روما وما تحمله من متناقضات وجهل بشئون الميدان، وقرر أن مثل هذه المصاعب أولى مظاهر المشاكل والمتاعب التي تواجه القائد في الحروب، والتغلب عليها أول مظهر لصفات القيادة الحاسمة الجريئة التي إذا وضعت الأقدار بين يديها مقدرات المعارك والحروب فعليها أن تستفيد منها والى النهاية.
أن الأقدار تأتي بها مرة واحدة في حياة الشعوب والقادة ولن تتكرر مرة أخرى فمن العبث التردد والوقوف والتراجع إزاءها لأنها تخضع للمثل اللاتيني القائل.
إن الحظ يبتسم دائما لأصحاب القلوب الجريئة والعزائم الصادقة
أحمد رمزي
مراقب عام مصلحة التشريع التجاري والملكية الصناعية