مجلة الرسالة/العدد 884/الأدب والفن في أسبوع

مجلة الرسالة/العدد 884/الأدب والفن في أسبوع

مجلة الرسالة - العدد 884
الأدب والفن في أسبوع
ملاحظات: بتاريخ: 12 - 06 - 1950



للأستاذ عباس خضر

حوادث الطلبة وانعدام المثل

وقعت في موسم الامتحانات الحالي حوادث من بعض الطلبة، كان بعضها دامياً وكانت كلها داعية إلى الأسى والأسف، فقد أطلق طالب بكلية الطب الرصاص على لجنة الامتحان، واعتدى طالب بكلية الآداب على أستاذ منعه من الغش، وهجم طلبة كلية التجارة على لجنة الامتحان ليختطفوا أوراق الإجابة وضبط طالب (كبير) في كلية الحقوق - وهو موظف في الدرجة الأولى بإحدى الوزارات - وهو ينقل الإجابة من كراسة كان يخفيها.

وقد كانت هذه الحوادث موضع أحاديث المجالس، كما كانت أنباوها من مواد الصحف الهامة في هذا الأسبوع، وقد ذهب المعلقون عليها مذاهب شتى، فمنهم من يمصص شفتيه أسفاً على ما وصلت إليه أخلاق الجيل الجديد، ومنهم من ينحي باللائمة على مناهج التعليم المزدحمة بما لا تساوي فائدته ما بتجشمه الطلاب في وحفظه بلا وعي، ومنهم من يذكر مضار الإفراط في تناول القهوة والشاي والأقراص المنبهة التي تنهك القوى وترهك الأعصاب.

وكل ذلك صحيح، ولكنها أعراض ظاهرة وأمور مباشرة يستطيع المتأمل أن يلمح وراءها عاماً قلقاً، فتلك الحوادث تجتمع كلها عند الرغبة في الأخذ الهين دون بذل الجهد الذي يقتضيه النجاح، وليست هذه الروح في جو الطلبة فقط، بل تجدها في مختلف الطوائف والطبقات، أنظر إلى هذا الموظف الطالب (الكبير) لم تكفه الدرجات التي نالها حتى وصل إلى الدرجة الأولى، بل (سمت همته) إلى الحصول على مؤهل عال بطريقة هينة لعله يقفز إلى وكيل وزارة مثلاً أو غير ذلك مما تداعبه به أحلامه. . .

فما مبعث هذه الظاهرة؟ ومن أين جاءت تلك الروح؟ وهل هي تنزل على نفوس الطلبة مثلاً من السماء أو تتسرب إلى نفوسهم من الجو المحيط بهم على سطح الأرض؟ ممن يتلقى الشباب مثلهم في مطلع حياتهم؟ أليس ذلك من الآباء والأساتذة والزعماء والحاكمين؟ أليست عيونهم تتفتح على الوساطات في دخول المدارس والجامعات وفي الإعفاء من المصروفات بل في النجاح في الامتحانات؟ أليسوا يسمعون عن حظوظ من سبقوهم التخرج من الوظائف والترقيات، ى لجهودهم أو كفاياتهم بل للقرابات والمصاهرات وغير ذلك من وسائل (التنطيط) في مختلف العهود؟

والأساتذة - وهم الأدنون من الطلبة - شملهم الروح العام، فأصبحوا يبتغون الوسائل عن غير طريق البحث والإنتاج والابتكار لا تظفر بتشجيع ولا تقدير. والنتيجة المحتومة التي تدعو إلى الأسف أن تعي نفوس الشباب ذلك أكثر مما تعي مواد الدراسة، فيبعث في نفوسهم القلق، وهو في الحقيقة المفسد الأصيل لأعصابهم لا القهوة ولا الشاي ولا الأقراص المنبهة.

إن الشباب يقرؤون ويسمعون ما ينشر وما يقال عن مجرى الحياة في الغرب وتقدير القيم هناك بما يبعث الطمأنينة على الحقوق والمصائر وينشر العدالة والتماسك في المجتمع، ويقرؤون في تاريخ الإسلام ويسمعون من الأساتذة عن الأبطال وأعمالهم وتضحياتهم في سبيل المجموع. ثم يقارنون بين هذا وذاك وبين ما يقع تحت أبصارهم، فتهولهم الهوة الواسعة وتصدمهم الحقائق الراهنة المؤلمة إذ نحن لسنا من أولئك ولا من هؤلاء في شيء.

الداء كله في فقد الأسوة الحسنة وانعدام المثل الطيبة التي يحتذيها الشباب.

شهادة الموسيقى

تقدم أحد الموسيقيين للشهادة في قضية أمام إحدى المحاكم الشرعية فرد القاضي شهادته، لأنه موسيقي. . . محتجاً بالنص الفقهي القائل: (الزمار والطبال وكل من يشتغل في اللهو لا يصح أن تسمع شهادته)

دهش الرجل الموسيقي، ودارت بينه وبين القاضي مناقشة، قال له فيها: إن الموسيقي فنان له اعتباره في المجتمع والدولة تعترف به وتقدره. فلما أورد له القاضي ذلك النص؛ قال الموسيقي: إذن فالمحكمة لا تقبل شهادة عبد الوهاب أو أم كلثوم. . . قال القاضي: نعم، وإنني معجب بأم كلثوم وأحب أن أسمع غناءها في قصائد شوقي، ولكن هذا كله لا يغير النص!

ونحن نرى أن موقف القاضي سليم من حيث تمسكه بحرفية النص، ولكن ما هذا النص؟ وما سنده؟ وهل يلائم حياتنا العصرية؟ أنه ولا شك من اجتهاد، الفقهاء ولابد أنهم قالوا به بعد أن نظروا في أحوال عصورهم، والأصل في ذلك ألا تقبل الشهادة إلا ممن يدل ظاهر حاله على أنه عدل، وقد رأوا أن حالة الطبالين والزمارين ومن إليهم من أهل اللهو في زمنهم لا تدل على العدالة.

والآن أين نحن من ذلك؟ إن الموسيقى والغناء والتمثيل فنون رفيعة، والموسيقيين والمغنين والممثلين لهم في المجتمع بحق مكانة ملحوظة، ومنهم أعلام ذوو أقدار كبيرة، فكيف ترفض شهادتهم لا لشيء إلا لأنهم موسيقيون أو مغنون أو ممثلون. نعم إن في بيئة المشتغلين بهذه الفنون بعض ذمي السلوك المنحرف، ولكنهم كغيرهم ممن لم ينص على عدم قبول شهادتهم، والعبرة بحال الفرد لا الطائفة.

لقد دهش ذلك الموسيقي حينما رفض القاضي قبول شهادته، بل لا بد أنه شعر بألم عميق في نفسه، لأنه وهو يشعر بقدره وسمو فنه يرى أن القضاء لا يعرفه إلى منزلة أي رجل عادي جاهل من ذوي الحرف والمهن التي لا تقبل المحكمة شهادته! فكيف يستطيع فنان محترم أن يوفق في عقله وفي شعوره بين منزلته الفنية والاجتماعية وبين تحقيره بعدم قبول شهادته في المحاكم الشرعية؟

هذا مثل لما وضع لزمن غير زماننا، وأصبح لا يوافق زماننا، ولا تمنع أصول الدين، بل تقتضي، أن نغيره إلى ما يوافقنا، بمقتضى إنزال الناس منازلهم وتحقيق الكرامة لذوي نفوس ومشاعر كريمة. وهو مثل نسوقه إلى علماء الدين، وفيهم من يحيون حياة عصرية يسمعون فيها الغناء والموسيقى ويشهدون التمثيل، ومنهم معجبون بأهل هذه الفنون، كذلك القاضي الفاضل، وقد سمعت مرة عالماً جليلاً يقول في مجلس يتحدث عن المغنين والمغنيات: نحن أم كلثوم. . إلى آخر كلامه، وهو يقصد أنه ممن يعشقون أم كلثوم في الغناء، وهؤلاء العلماء يخالفون في ذلك بحق نصوصاً فقهية تحكم بتحريم الغناء، وأذكر ما كنت قد قرأته في كتاب من كتب الفقه من (قول) لأحد الفقهاء مضمونه أن مجرد السماع حرام أما التلذذ بالنغمة فهو كفر!

ولا شك أنني أرى في مسلك علمائنا العصريين الذين يستمتعون بتلك الفنون ويعجبون بأهلها أي حرج، ولكن الذي آخذه عليهم أنهم يزاولون حياة (علمية) غير الحياة العلمية.

التكلم بالفصحى:

تناول بعض الكاتبين هذا الموضوع أخيراً على صفحات الصحف، وكان قد أثاره في (الأهرام) الأستاذ عمر عبد العال يوسف، إذ دعا إلى اتخاذ اللغة العربية السليمة لساناً للخطاب وللتعليم في المدارس، وعالج الموضوع علاجاً تربوياً منطقياً حسناً. وقد ردد الدعوة بعده آخرون، وكتب الأستاذ علي الجندي ذاهباً إلى أن اتخاذ الفصحى أداة للخطاب بين الناس غير ممكن.

وأحب أن أحصر الكلام هنا في نقطة أراها هامة في هذا الموضوع عرض لها الأستاذان الأنفان، إذ ندد الأول بالسخرية ممن يتحدث باللغة العربية الفصيحة ولا سيما المعلمون في المدارس، واتخذ الثاني هذه السخرية سبباً لما رآه من أن هذه المحاولة مخفقة، واستدل بأمثلة مأثورة عن بعض من التزموا التكلم بالفصحى كالشيخ حمزة فتح الله، فسخر منهم الناس. والواقع أن الناس كانوا محقين في هذه السخرية، لأن أولئك المتفصحين كانوا ينطقون ألفاظاً غريبة تدعو إلى الضحك والسخرية حقاً، ومن هنا جنوا على اللغة من حيث أرادوا أن يحسنوا إليها، ومن دواعي السخرية أيضاً بعض المشايخ الذين كانوا ينطقون القاف من أقصى الحلق في كلمات عامية. . . وقد تغيرت هذه الروح، بانقراض هذه الصور، وبانتشار التعليم ووسائل الاتصال بالجمهور، التي تتخذ الفصحى أداة للتعبير. فصار التحدث ببعض العبارات الفصيحة من المظاهر الدالة على الثقافة والأناقة اللسانية.

وإذا كنا نتحدث باللغات الأجنبية في بعض المواطن فإن مما يؤسف له أن الحديث الكامل باللغة العربية لا يوجد في مجلس من المجالس، حتى مجالس المثقفين والأدباء، بل إن كثيراً من هؤلاء يخطبون ويحاضرون بخليط من العامية والعربية، وأهم أسباب ذلك، التهاون، لا العجز؛ ولو أننا اهتممنا بأن نتخاطب ولو في بعض الأحيان بهذه اللغة التي تقرؤها ونكتبها لجرى عليها اللسان واستعذبها وإن تعثر في أول الأمر.

عباس خضر