مجلة الرسالة/العدد 884/القصص

مجلة الرسالة/العدد 884/القصص

ملاحظات: الخادم هي قصة قصيرة بقلم سيرغي سيميونوف. نشرت هذه الترجمة في العدد 884 من مجلة الرسالة الذي صدر بتاريخ 12 يونيو 1950



الخادم

للكاتب الروسي ص. سيمونوف

للأستاذ جمال الدين الحجازي

عاد جيرسيم إلى موسكو في زمن كانت فيه البطالة منتشرة في البلاد، وكان يأمل أن يجد عملاً، إلا أنه مكث يبحث ثلاثة أسابيع دون جدوى! وقد آلمه أن يبقى عاطلاً عن العمل وهو لا يزال في عنفوان شبابه وكامل صحته، فمكث مع بعض أقاربه القرويين مدة وجيزة عله يجد عملاً. كان جيرسيم قد قضى حداثته خادماً في أحد البيوتات، ثم اشتغل خادماً لأحد التجار إلا أن الخدمة العسكرية أجبرته على ترك عمله، ولما انتهى تدريبه عاد إلى موسكو، فآلمه أن يجد عمله منتهياً، وكانت كل ساعة تمر عليه يحس بها كيوم، إذ أن شوارع المدينة كانت قد أسأمته لكثرة تجواله فيها عبثاً، وكان يستوقف الناس في الشوارع ويسألهم عن إيجاد عمل له ولكن دون جدوى. وأخيراً شعر بأن أقاربه قد سئموا منه وشعر بأنهم يستثقلون ظله لكثرة التردد عليهم فآثر الابتعاد عنهم، مفضلاً الجوع والارتماء في الشوارع.

التقى جيرسيم في أحد الأيام بأحد الأيام أصدقائه وكان يسكن في ضواحي موسكو قرب سوكولنك ويعمل حوذياً لتاجر غني يدعى شاروف منذ مدة طويلة كان فيها مثال الرجل المخلص الأمين في عمله، فأحبه شاروف وأولاه ثقته التامة لاخلاصه وتفانيه في العمل وجعله مسئولاً عن جميع خدمة ولما وقعت عيناه على صاحبه حياه بحرارة ورجا منه أن يجد له عملاً فقد مكث مدة طويلة عاطلاً فسأل (ياجور) صديقه وهل رجعت غلى التاجر الذي كنت تعمل عنده ليعيدك إلى العمل؟

- أجل لقد رجعت إليه ولكنه كان قد أحضر شخصاً آخر بدلاً مني!

- وهكذا أنتم أيها الشباب لا تخلصون في أعمالكم وتكون عاقبتكم وخيمة وكان من الخير لكم أن تخلصوا في عملكم تكسبوا محبة رؤسائكم.

- نعم القول ما تقوله يا صديقي، ولكنك تعلم إن الإنسان ليس معصوماً من الخطأ وأنه ليس ملاكاً، فدعنا من هذا اللوم الذي لا يجدي نفعاً، وقد عهدك الصديق المحب للخير، فأرجو أن تجد لي أي عمل فأكون لك من الشاكرين! فابتسم ياجور من هذا الثناء وشكره على ذلك وطلب منه الانتظار قليلاً. . . رجع يا جور واخبر صديقه بأن سيده سيسافر إلى بلدته بعد نصف ساعة وأنه أعد الخيول لذلك وقال له:

- أترغب في أن تعمل خادماً معي عند شاروف؟

- وهل يريد السيد شاروف خادماً؟

- أجل إن خادمه السابق قد بلغ من الكبر عتيا وهو لا يقوى على أداء عمله.

أكون شاكراً لو تمكنت من إيجاد عمل لي إذ لا أستطيع أبقى طويلاً عاطلاً عن العمل.

- حسن! سأتحدث مع شاروف في هذا الموضوع فاذهب الآن عد غداً لأخبرك بما تم. فشكره على ذلك وسار في طريقه. . .

. . . أعد يا جور الخيل وارتدى ملابس الحوذية المعتادة وساق العربة إلى الخارج، وكان شاروف جالساً في العربة يسرح الطرف في مزارعه الواسعة وأمارات الغبطة مرتسمة على محياه، ولما رآه يا جور علة هذه الحالة وجد الفرصة سانحة ليحدثه عن صديقه فقال له:

- إن لي صديقاً في مقتبل العمر يا سيدي. وهو يرجو أن تجد له عملاً فقد مكث ردحاً من الزمن عاطلاً.

- حسن، ولكنك تعلم أنه لا عمل عندي.

- إن صديقي يجيد جميع الأعمال التي يقوم بها (بولكرتش) الذي أصبح مسناً لا يقوى على العمل!

- لا أستطيع ذلك فقد مكث خادمنا مدة طويلة وأفنى زهرة شبابه وهو يعمل عندنا وهو يعمل عندنا ويقوم بخدمتنا خير قيام وليس من العدل أن أطرده من عمله دون ذنب جناه.

- أنه ولا ريب قد ادخر بعض النقود التي يمكنه أن يعيش بها الأيام الباقية من حياته.

- لا. أنه لم يدخر شيئاً إذ أن راتبه لا يكفيه، وإن له زوجة تقاسمه العيش.

- أعتقد يا سيدي أنه من الخير الاستغناء عنه، إذ أنه لا يجيد عمله، وقد شوهد مرات عديدة وهو يشرب الشاي مع صحبه، تاركاً عمله، وراء ظهره. أليس من العبث أن نقدم له راتبه وهو لا يعمل شيئاً!

- لا أوافقك على ذلك أبداً - فليس من الحق ولا العدل أن نستغني عن خدمات هذا العجوز بعد أن مكث في خدمتنا خمسة عشر عاماً. إن الاستغناء عنه وهو في هذه السن جريمة لا تغتفر!

فألح ياجور على سيده بأن يجد لصديقه أي عمل كان، ولم يسع شاروف أخيراً إلا القبول وطلب منه أن يبعث إليه لمقابلته، فشكره على ذلك وأعلمه بأنه سيجده مثال الخادم النشيط.

وفي الغد عاد جيرسيم إلى صديقه كما وعده وتناولا الشاي معاً وبعد ذلك سارا إلى سيده شاروف، ولما وصلا سأل شاروف جيرسيم عن العمل الذي يجيده فأخبره بأنه يستطيع القيام بأي عمل يطلب منه، فطلب شاروف منه أن يأتي في الغد ليتسلم عمله الجديد.

فرح جيرسيم فرحاً شديداً. وأوصى ياجور صديقه بأن يقوم بعمله خير قيام حتى يكسب ثقة سيده فوعده خيراً. خرج جيرسيم ليهيئ بعض ما يحتاج إليه، ولما سار بضع خطوات وجد بيت (بولكرتش) وقد غطاه الثلج فلم يلق بالا إليه وواصل سيره، ولكنه سمع صوتاً من الداخل يقول: (وما العمل الآن يا بوالكرتش؟ وماذا سيكون مصيرنا؟ إننا فقراء لا نملك شروى نقير. لقد عملنا طويلاً وكان جزاءنا بعد هذه الأعوام الطويلة التي قضيناها غير شريف!) فأجابها زوجها بأن شاروف لا ينظر إلا لمصلحته الخاصة شأن غيره من الناس؛ وهو لا يختلف عن غيره من القوم الذين ينظرون إلى الطبقات الفقيرة نظرة ألد لعبده؛ فما دام العبد قوياً يستطيعون حلبه كالنعاج فهو بخير وإذا ما ضعف أو تقدمت به السن قليلاً شعروا بثقله عليهم وجعلوا يتحينون له الفرص للتخلص منه! فقالت زوجة، وكانت الدموع تبلل وجنتيها، إن يا جور قد سبب لنا كل هذا الضر - ولكني سأقوم بدوري في إبعاد هذا الشاب من الخدمة واتهامه بسرقة الشعير والكلأ وبيعه فنتمكن بذلك من التخلص منه ومن صديقه الذي أراد بنا سواءاً!

سمع جيرسيم كل ذلك فحزن حزناً شديداً إذ سبب لهذه العائلة الوادعة هذا الضيق وأبدلهما من بعد أمنهما وسعادتهما خوفاً وشقاء؛ فمكث مدة وجيزة شارد الذهن ثم سار حتى وجد نفسه إلا في بيت صديقه يا جور، فقال له وهو مطرق الرأس: (أشكرك يا صديقي على ما بذلته لي من خدمات ولكنني لا أستطيع أن اعمل هنا. . . أجل لا أستطيع أن أعمل وسأبحث بنفسي عن عمل آخر في غير هذا المكان!) فغضب يا جور غضباً شديداً وطلب منه الخروج من غرفته حالاً.

فلما خرج جيرسيم من الغرفة شعر بفرح وسرور عظيمين.

جمال الدين الحجازي ل