مجلة الرسالة/العدد 885/رسالة الشعر

مجلة الرسالة/العدد 885/رسالة الشعر

ملاحظات: بتاريخ: 19 - 06 - 1950



الشاعر

للأستاذ يوسف حداد

اقترحت زميلتنا (العصبة الأندلسية) على الشعراء أن ينظموا في موضوع (الشاعر) وارصدت للاقتراح جائزتين ماليتين للفائزين الأول والثاني، فجاءها تسع عشر قصيدة تخيرت منها لجنة التحكيم ثلاثاً جعلت الجائزة الأولى لاثنتين مناصفة وهما للشاعرين يوسف حداد وشبلي ملاط، والجائزة الثانية للقصيدة الثالثة كاملة وهي للشاعر كامل العطار، وهذه هي القصيدة الأولى

قبل أن أسكن الثرى ... كنت في كوكب أقيم

مثلما ينبث الكرى ... مثلما ينبع النسيم

مدن الله لي قرى ... قابض الروح لي نديم

زاد عيني حصى الذرى ... ماء قلبي لظى الجحيم

يوم أرنو ولا أرى ... خلف خط الضحى الوسيم

ظل صب من الورى ... في صحاري الدجى يهيم

قبل أن أتحف الزمان ... بالدواوين والرسوم

كنت أرعى وعول جان ... عند حورية النجوم

ونعاجاً من الدخان ... وخيولاً من الغيوم

في سراديب كل حان ... ضل عنها هدى الكروم

و (بعامورة) جنان ... لقطيعي وفي (صدوم)

والعصا جسم افعوان ... وجرابي عشوش بوم

أوفدتني إلى الأنام ... جنة السحر (عبقر)

في مهماتها الجسام ... يا لشيء يحير

كيف فيها الفتى ينام ... وهو يمشي وينظر

وبلغت الثرى بعام ... مثلما الفصل يعبر

ولدن ظلل الغمام ... والضباب المك قفف الريش والعظام ... رحت بالظل أعثر

ويحهم من سواي من ... جاء من سرحة الخلود؟!. . .

يحمل التاج والكفن ... للفراشات والورود

قبل أن يهزأ الزمن ... بالتوابيت والمهود

فغزا عرسه القنن ... وجنازاته الصرود

فهو إن رنم الفنن ... يطلب الشمس للسجود

وإذا أعول المجن ... عبد الغيم ظل دود. . .

إن نوحي بكل بر ... شرب الغيم من صداه

هل ترى الرعد ما انفجر ... لو فمي لم يجد بآه؟!

أبعدوني عن البشر ... قربوني من الإله

في يدي بيعة الصور ... في فمي مطهر الجباه

فلمن أكحل البصر ... ولمن أغسل الشفاه

واذبحوا بيننا القدر ... فهنا غور منتهاه

كل ما يشبع النظر ... قات مني ذرى الجفون

إن جوعي كوى الحجر ... ظمأى جفف العيون

نفسي رمد الشجر ... بصري قوض السجون

غرسوا في يدي الإبر ... فجنوا زهر زيزفون

كم طوى الكوكب الأغر ... لي رواقاً من السكون

أتت لولاي يا قمر ... لم تكن غير شطرنون. . .

حيثما أزرع النفس ... ينبت الصفح والندم

وحمى كل من غرس ... يضرب الرأس بالقدم

قل لمن قصرهم درس ... وطوى شمسه العدم

إن قلبي الذي أحس ... بخطاياه من قدم

إن جفني الذي عبس ... بالسلاطين والخدم

ويراعى الذي لمس ... ليس رفشي الذي هدم قل لدنيا المظلة ... والجناح الذي يطير

لا تباهى بقلة ... توجتها يد الأثير

نفضوا خيط حلتي ... فاكتسى النبع والغدير

هبه من غزل شلة ... لفه العث، حبل نير

غمزوا ضلع فلتي ... فرمى فيئها العبير

هبه من زهر تله ... شق عين الندى الضرير

من جلوسي على انفراد ... فوق تل العشية

وانحداري على الوهاد ... بالرؤى المخملية

نشأ الوحي في العباد ... كرجاء المنية

ويك لولا غني الوداد ... بكنوزي الخفية

حيث يلتفت بالرماد ... موسم العبقرية

ما حلا للمسيح زاد ... من يد المجدلية. . .

رب بيت نظمته ... بات تاريخ كل دين

رب سيف ثلمته ... لف جيل الوغى بحين

رب زهر شممته ... ناب عن غلة السنين

رب صدر لثمته ... شق أضلاعه الحنين

رب ثغر ظلمته ... بالمناجاة والأنين

حمل العدل صمته ... من عرين إلى عرين

أي شيءٍ صفا وطلب ... لفؤادي وناظري

ومضى دون ما إياب ... لم ينتف محاجري؟!. .

لا بظفر ولا بناب ... بل بشوك الخواطر

عند لمس الهوى المصاب ... هان نهش الكواسر

هكذا يلجم العباب ... في دمع المهاجر

ارم عينيك يا سحاب ... إن بكى قلب شاعر

أنا أشقى ليسعدا ... لي وراء الأنام جار وأغنى ليزهدا ... بهتاف الضحى الهزار

وأهز المهندا ... كي تلف القنا بغار

وأرش اللظى ندى ... على ريق اللمي يغار

ضاء شمعي ورمدا ... في الليالي الهوى القصار

كي يطيل البلى غدا ... شوق عظمي إلى النهار

إن طوى القبر أضلعي ... جنة التوت والكرز

ادفنوا غلتي معي ... كتب الشعر والرجز

ذخر قلبي ومدمعي ... خير ما ذو غنى كنز

إن يكن كل مقطع ... ميل المتحنى وهز

للحمام المودع ... والثكالى من الإوز

إن مخطوط أصمعي ... ليس من أصلعي أعز!.

اخفضوا الصوت ياحداة ... حيثما مدفني يكون

فلقد يقلق الرفات ... من الصدى رقة الجفون

كيف لو ضج بالبنات ... هودج الزهو والفتون

وحدا الظعن للفتاة ... وهي ليست مع الطعون

وهي قيثارة الحياة ... وهي عكازة المنون

فوعى الصخر والنبات ... قيمة الصمت والسكون؟

منشد الظعن والكثيب ... هل خطى النوق تفهم؟

أنت بين الورى غريب ... لوح نجواك طلسم

مثل أمية الرقيب ... وأسى الطير مبهم

كل أرض بدون طيب ... لك فيها مخيم

كل جنينة تشيب ... من صحاريك تنقم

كل ما صور المغيب ... بعض ما أنت ترسم. . .

يوسف حداد