مجلة الرسالة/العدد 885/صور من الحياة:
مجلة الرسالة/العدد 885/صور من الحياة:
قلب أب!
للأستاذ كامل محمود حبيب
- 1 -
أتذكر - يا صاحبي - يوم أن عرفتك أول مرة فحن لك قلبي، وصبت إليك نفسي، ورقت مشاعري، يوم أن كنت عند مشرق الحياة صبياً ضاوي الجسم ناحل العود معروق العظم، تهاوى من ضعف وهزال، وتساقط من ضنى وحزن، فلا تجد اليد الرفيقة التي تمسح على أشجانك، ولا القلب الرحيم الذي يعطف على أسقامك، لأنك كنت قد فقدت أمك فما استطاع أبوك أن يصبر على الوحدة، وإنه ليحس التشعث والضياع، ويستثمر الضيق والملل، والدار من بين يديه خاوية تصفر، والخادم من أمامه لا ترعوى عن تراخ ولا عن إهمال، والدنيا في ناضريه تضطرب في حيرة وقلق، وقلبه يخفق بالأمل والرغبة وهو شاب في ميعه الصبا ووفرة المال، تتدفق في عروقه ثورة الشباب وتتألق في أعصابه دواعي الفتوة. . وضاقت به الحيلة، فانطلق يتلمس الخلاص في فتاة من ذوي قرابته يبوئها عرش داره وقلبه معاً لتملأ فراغاً خلفته أمك منذ شهور وشهور. وجاءت الزوجة الجديدة فأحست كأنها تزحمك بالمنكب وتدفعك بالقوة وتغلبك بالحيلة، لتستلبك من دارك ومن أبيك في وقت معاً، فحملت لها بغضاً؛ ثم انطويت على خواطر مضطرمة يتأجج لظاها في ذهنك.
واستحالت خفة الصبا فيك إلى رزانة كرزانة الشيخ عركته الخطوب وصقلته الحوادث، وتعكر صفو الطفولة في نفسك ممثل هم الرجل ينوء كاهله تحت عبء السنين العجاف؛ فانزويت تكتم أشجاناً غمرت حياتك على حين غفلة منك، وأنت ما تزال عند مطلع العمر.
وأفزع أباك أن يرى حالك تتغير، فتركن إلى الصمت وأترابك هناك في الشارع يملون الدنيا ضجة وصياحاً، وتسكن إلى الوحدة والدار تموج بالأهل من كل سن فلا تهدأ إلا ساعة القيلولة، وتستطيب الخلوة وأنت في سن الهرج والحركة تحبو إلى الشباب في غير ريت ولا جهل، وتنفض يديك من حاجات الغيط والدار فلا تسلى الهم بالعمل ولا تسرى عن النفس بالشغل. فجلس إليك - في خلوة - يحدثك حديث تجاربه، ويوحي إليك - وأنت أكبر بنيه الثلاثة - إنك رب هذا المال وسيد هذه الدار وصاحب هذا السلطان، ثم أقامك على بعض شأنه لترضى، فانفجرت أسارير نفسك وهدأت جائشة قلبك وانجابت عنك غمة أوشكت أن تعصف بك في غير رحمة ولا شفقة.
ورحت أنت تبسط سلطانك على شؤون الدار في شطط لا عرف الاعتدال، وتصرف الأمر في حمق لا يعرف العقل، وتلقي الرأي في طفولة لا تعرف الحصافة، غير أن أباك كان من ورائك يهدهد من غلوائك في رفق، ويكبح من جماح أهوائك في لين.
لقد كانت زوجة أبيك - ولا ريب - تطمع أن تكون سيدة الدار وصاحبة السلطان، وهي ترى الدار تفهق بالنعمة وتشرق بالثراء، ولكنك كنت تسد أمامها المنفذ في قسوة، وتغل يدها في غلظة، فما تنال من مال أبيك إلا بقدر لا يشبع التهم ولا يشفى الغلة، فراحت ترفقك في غيظ يحمل في ثناياه مقتاً وكراهية. وأبن أنوثتها أن تستلم وتخضع فهبت تحتال للأمر في مكر وخديعة، واندفعت تنفث سمومها في قلب أبيك في هوادة وفي رقة؛ وأبوك يلقي السمع حيناً ويغضى عن الحديث حيناً، والشيطانة لا تهدأ ولا تستكين، وأنت في لهو يشغلك الغرور وتعميك الغواية.
واستطاعت الزوجة أن تجذب إليها الرجل رويداً رويداً لينأى عنك رويداً رويداً، وأنت في لهو يشغلك الغرور وتعميك الغواية.
وسرت في أضعاف الدار ثورة مكفوفة توشك أن تنفجر فتبعثر الهدوء والراحة، وتذري السلام والأمن: فأبوك يجلس إلى زوجته كل مساء في خلوة يستمع إلى حديثها في صمت، وهو يستشف من خلال كلماتها روح الختل والخداع آناً، ويلمس فيه سمات الصراحة والحق آناً، فيتهم زوجه ويرميك أنت بالطيش والنزق. والزوجة تلبس ثوب الثعلب فتلقاك في بشاشة واستبشار على حين أنها تنشر من حواليك شباكاً محبوكة الأطراف لتعكر صفو ما بينك وبين أبيك، وهو يسلس وينقاد. وأنت. . . أنت أيها الصبي. . . لا يستطيع عقلك الصغير أن ينحط إلى بعض ما يدور حولك مما ينسجه عقل شيطان حصيف مرن على المداهنة والمكر، فلا ترى ولا تسمع، غير أنك تتشبث بسلطانك في الدار مثلما الطفل بلعبة عزيزة على نفسه يخشى أن يستلها مارد جبار من بين يديه الصغيرتين.
وسافر أبوك - ذات مرة - إلى المدينة لبعض شأنه، فجلست أنت في مكانه من الدار وقد صورت لك أخيلتك الطائشة أنك قد لبست ثوب الرجل الذي فيه، فاندفعت تأمر في كبرياء وجفوة، والفتاة تبسم في عبث ساخرة من نزواتك الطفلية ولكنها لم تمتنع عن رغبتك خشية أن تندلع من حماقتك نار حامية يلتهم أوارها سعادة تثر جاها في هذا الدار، فخضعت وهي تسر في نفسها أمراً. وجاءك الغداء - بعد ساعة - ينضم على أطايب الطعام: على البيض والسمن والزبدة والجبين والعسل و. . . مما يتحلب له الريق وتثور له شهوة البطن. . . وجلست إلى الطعام، بين أخويك، تريد أن تشبع النهم والكبرياء في وقت معاً.
ورأيت أباك يدلف إلى الدار - في هذه اللحظة - فقلت لأخويك، (انتظرا حتى يأتي أبي فينعم معنا بهذا الطعام الشهي، فهو - ولا شك - في حاجة إليه بعد هذا الضنى والنصب. أنه لا يلبث أن ينفي عنه وعثاء الطريق وعناء السفر) فأمسكا عن الطعام وأمسكت.
يا عجباً! هذه هي نوازع الصبية؛ صافية كالجوهر الخالص، نقية كالسلسبيل الطاهر، لطيفة كالظل الوارف ساعة الهاجرة، ندية كهبات نسيم الفجر الساحر، آه، لو عاش الإنسان عمره في سريرة الصبي وشعور الطفل، إذن لتوارت من الحياة شوائب تزعج النفس وتفزع القلب!
وخرج أبوك - بعد لحظات - من لدن زوجته يستحث الخطى نحوك وقد اكتسى وجهه بنبرات من الحزن والضيق لم تشهدها وأنت تهش للقياه. وأفزعك أن ترى على وجهه أثر الغضب فأمسكت عن الحديث. ولكنه أقبل في ثورة عارمة يأمر الخادم أن يرفع الطعام من بين يديك أنت وأخويك أحوج ما تكونون إليه. آه لقد وسوست الشيطانة، وأذهلتك المفاجأة فشرقت بريقك، وماتت الكلمات على شفتيك، ودارت الدنيا بك من شدة الصدمة فسقطت متهالكاً على كرسي بجوارك، وآذاك أن يبدو ضعفك بين يدي أخويك الصغيرين وأنت - كرأيك - رب المال وسيد الدار وصاحب السلطان، فتماسكت تماسكت لترى أباك والطعام يتواريان في طرفة عين، فنظرت إلى أخويك من عبرات حرى تتدفق على خديك تنطق بالأسى واللوعة واليأس جميعاً.
وبكى أخواك الصغيران فاحتضنتهما في عطف وحنان لتشعرهما بأنك أنت أمهما حين ماتت الأم، وأنك أنت أبوهما حين قسا الأب. واختلطت عبرة بعبرة، وخفق قلب لقلب، وتعانقت زفرة وزفرة، واجتمع الرأي على أمر، ثم اندفع الركب يسير.
وبدا لك - يا صاحبي - إذ ذاك، أن أباك كان يختلك عن نفسك، وأن زوجته كانت تسخر من طفولتك، وأنت لست شيئاً في هذه الدار.
وتبعتكم - يا صاحبي - بعبراتي، وأنا - إذ ذاك - صبي مغلول اليد واللسان، فرأيت أطفالاً ثلاثة شردتهم القسوة ففزعوا عن دار أبيهم في ذله وانكسار، وقد هدهم الأسى وأضناهم الحزن وأرهقهم الجوع، على حين قد ترفعوا عن الشكوى فأبوا على وسموا على الخسف وتبعتكم بعبراتي، ولكن إلى أين - يا صاحبي - إلى أين؟
كامل محمود حبيب