مجلة الرسالة/العدد 887/الاجتهاد في التشريع الإسلامي
مجلة الرسالة/العدد 887/الاجتهاد في التشريع الإسلامي
لصاحب العزة محمد سعيد أحمد بك
- 2 -
قدمنا أن الأئمة الأربعة المعترف بهم من المسلمين السنيين قد أجمعوا على خطر الاجتهاد في التشريع الإسلامي، وعلى ذلك كان الاجتهاد والإجماع وهو اجتهاد الجماعة أصلين آخرين للإسلام بعد القرآن والسنة.
وتعرف الأدلة المستندة إلى القرآن والسنة بالأدلة القطعية، والأدلة المستندة إلى الاجتهاد بالأدلة الاجتهادية. وللاجتهاد محيط واسع جداً في التشريع الإسلامي إذ أنه الوسيلة الوحيدة لإيجاد الحلول لكل المسائل التي ينص عليها صراحة في القرآن أو السنة. وقد أستخرج المجتهدون الأحكام بوسائل سميت بالقياس والاستحسان والاستصلاح والاستدلال. وفيما يلي بيان مختصر عن كل وسيلة من هذه الوسائل نبين كيف تستخرج الأحكام بواسطتها.
القياس
وأهم هذه الوسائل القياس، مصدر قاس بمعنى قدر، ويستعمل مجازاً في التسوية. ويعرفه الأصوليون بأنه نظر يوصل إلى إثبات حكم الأصل في الفرع لمشاركته في علة حكمه. فقد تعرض على القاضي قضية ليس في القرآن أو السنة نص صريح للحكم فيها فيمكن إيجاده بالقياس على النصوص الصريحة. فالقياس تطبيق للحكم الوارد في الكتاب أو السنة على المسألة القائمة. والأحكام المستنبطة بالقياس ليست في قوة القرآن أو السنة. ولم يقل أحد من المجتهدين بأنه معصوم من الخطأ في وضع هذه الأحكام، ولذلك تجد الاختلاف كبيراً بين القضاة في أحكامهم، كما أن الأحكام القائمة على القياس قد يعمل بها في عصر ثم يبطل في عصر آخر.
الاستحسان والاستصلاح
الاستحسان معناه لغة عد الشيء حسناً؛ ويعرفه الأصوليون بأنه ما قابل القياس الجلي سواء أكان نصاًأم إجماعا أم قياساً خفياً. غير أنه غلب وشاع استعماله في القياس الخفي وهو الذي خ وقد وضع الإمام أبو حنيفة قاعدة تنبئ أنه إذا لم يقبل حكم من الأحكام القائمة على القياس لكونه مخالفا للقواعد العامة للعدالة أو غير صالح للجماعة لعدم ملاءمته لهم يمكن للقاضي أن لا يأخذ بهذا الحكم ويستنبط حكماً آخراً أكثر مطابقة للعدالة وملاءمته لحاجات الناس. ولقد لقيت هذه القاعدة معارضة كبيرة من المذاهب الأخرى ولم يعمل بها إلا القليل من أتباع المذهب الحنفي. ولاشك أن هذا المبدأ سليم في ذاته ومطابق لروح القرآن. وزيادة في القول نقول إن التعرض للخطأ في تطبيقه قليل بالنسبة للقياس الذي يؤدي في بعض الأحوال إلى نتائج قد تتعارض مع الروح الواسعة التي تقضى بها أحكام القرآن. وللإمام مالك مبدأ مشابه لهذا وسماه الاستصلاح.
الاستدلال
أهم مصادر الاستدلال المعترف بها هي العرف والعادة وأحكام الشرائع المنزلة قبل الإسلام ومعلوم أن العرف والعادات التي كانت شائعة في الجزيرة العربية قبل الإسلام قد يؤخذ بها إذا لم يحرمها الإسلام. وعلى ذلك فكل العادات وما جرى عليه العرف في أي بلد يصح الأخذ به ما دام غير متعارض مع التعاليم الإسلامية ولم يحرمه القرآن أو السنة، إذ أن الإباحة هي الأصل ما لم يحرمها الدين. فإذا جرى العرف على أمر من الأمور كان هذا بمثابة إجماع الناس على قبوله وبذلك يكون له قوة تستبق قوة القواعد المستنبطة بالقياس.
وليس له من ضابط سوى ترك مخالفته لنص صريح في القرآن أو السنة. والمذهب الحنفي يعلق عليه أهمية كبرى كأصل من أصل التشريع الإسلامي. وقد ورد عن ذلك في كتاب الأشباه والنظائر قال: لقد أصبح العرف والعادة مصدرين لكثير من الأحكام حتى أصبح معترفاً بأنهما أصل من أصول التشريع الإسلامي. وأما ما يختص بأحكام الشرائع المنزلة قبل الإسلام فقد اختلف الفقهاء فيها؛ فبينما يرى بعضهم أن هذه الأحكام يجب التقيد بها ما لم يبطلها القرآن صراحة يرى البعض الآخر خلاف ذلك. ويرى أبو حنيفة أن هذه الأحكام مقيدة لنا إذا قررتها شريعتنا ولم ينص على بطلانها.
الإجماع
يطلق لفظ الإجماع على العزم والاتفاق؛ وذلك لأن في العزم جمع الخواطر، وفي الاتفاق جمع الآراء. وعند الأصوليين هو اتفاق المجتهدين في عصر من العصور على حكم شرعي. والإجماع إما أن يكون قولا بأن يتكلم جميع مجتهدي العصر كلاما يدل على اتفاقهم في الحكم، أو فعلا بأن يشرعوا جميعا في فعل ويمضون فيه، أو سكوتا بأن يفتي بعضهم أو يقضى في مسألة بحكم ويسكت الباقون عن الإنكار والرد عليه بعد علمهم بالحكم. ويشترط في الإجماع اتفاق جميع المجتهدين في أحكام الدين على الحكم فلا عبرة يقول العوام ولا يقول علماء فن يقضون بحكم في غير فنهم. ويرى بضعهم أن الإجماع ينعقد باتفاق المسلمين فيما عدا الصبية والمعتوهين على حكم من الأحكام. وهناك اختلاف في الرأي فيما إذا كان الإجماع مقتصراً على بقعة من البقاع أو عصر من العصور. ويرى الإمام مالك أن إجماع أهل المدينة وحدهم حجة مع وجود غيرهم من المجتهدين. ويردون على ذلك بأن اشتمال المدينة على صفات موجبة لفضلها لا يدل على انتقاء الفضل عن غيرها. كما أنه لا يمكن القول بانحصار العلم والمجتهدين في أهل المدينة، فإنهم كانوا في عصر الرسول منتشرين في البلاد متفرقين في الأمصار وكلهم في النظر والاعتبار سواء. والواقع أن الإجماع مبنى على الاجتهاد والنظر والبحث والاستدلال على الحكم وذلك مما لا يختلف بالقرب والبعد ولا باختلاف البقاع. ويستبعد السنيون طائفة الشيعة من جماعة المجتهدين كما أن الشيعيين يقصرون الاجتهاد على أبناء الإمام علي. ويرى بعض السنيين أن الاجتهاد يقتصر على صحابة الرسول. ويرى آخرون أن يدخل التابعون في زمرة المجتهدين. والرأي الغالب هو أن الإجماع لا يقتصر على عصر من العصور أو قطر من الأقطار وإنما يكون بإجماع مجتهدي العصر الواحد في كل الأقطار.
واختلف الرأي كذلك فيما إذا كان الإجماع يتطلب موافقة جميع المجتهدين أو كثرتهم. ويرى معظم الفقهاء أن الإجماع يتطلب موافقة جميع مجتهدي العصر الواحد. على أنهم يرون أنه إذا كان المخالف نادراً فيكون الإجماع حجة، إلا أنه لا يكون قاطعاً. ويكون الإجماع العصر الواحد. ويشترط بعضهم انفراد عصر المجمعين لاحتمال رجوع بعض المجتهدين في الفتوى أو الحكم إذ أنه من الضرورة توفر شرط عدم الرجوع وهذا لا يكون إلا بانقراض جميع مجتهدي العصر الواحد.
وإذا انعقد الإجماع على مسألة فلا يصح الرجوع فيه إلا إذا رأى بعض فقهاء العصر الذي حدث فيه الإجماع رأيا يخالف الرأي المجمع عليه. والإجماع الذي ينعقد في عصر من العصور يصح الرجوع فيه بإجماع آخر في نفس العصر أو أي عصر لاحق له. ويستثنى من ذلك عصر الصحابة فلا يجوز الرجوع في إجماع حدث فيه بإجماع في عصره بعده يخالفه. ولقد تباين الرأي كذلك فيما إذا اختلف الصحابة في مسألة من المسائل فهل يصح الإجماع على رأي فريق منهم دون فريق. والمعترف به أن الصحابة ليسوا معصومين من الخطأ، وما دام الأمر كذلك فلا مانع من قبول إجماع يعارض رأي أحد الصحابة. وهناك مسألتين يجب عرضهما لتعرف قوة الإجماع في التشريع، فإنه يفهم مما تقدم أن الإجماع لا ينعقد إلا بجمع عدد كبير من المجتهدين على مسألة من المسائل؛ غير أن الفقهاء يرجحون أن يكون أقل عدد للإجماع ثلاثة لأنهم أقل الجماعة، فإذا لم يكن هناك مجتهدون غيرهم تحقق الإجماع باتفاقهم. وهناك رأي يقول بأنه إذا لم يوجد غير مجتهد واحد في عصر من العصور يتحقق الإجماع باجتهاده وحده.
ولننتقل الآن إلى السند الذي يقوم عليه الإجماع على قول الأئمة الأربعة. يقوم الإجماع على الكتاب أو السنة أو القياس ويقول المعتزلة بأنه لا يصح أن يكون الإجماع مبيناً على حديث الآحاد أو على القياس، وزادوا على ذلك أن سند الإجماع يجب أن يكون قاطعاً يعني أن حكمه لا رجعة فيه.
نرى ما تقدم أنه من الخطأ القول بأن الإجماع أصل مستقل من غيره من أصول الإسلام. فالإجماع حقيقة هو اجتهاد الذي وافق عليه جميع مجتهدي العصر الواحد أو غالبيتهم. ومن المتفق عليه أنه فيما عدا إجماع الصحابة يجوز الرجوع في إجماع مجتهدي العصر الواحد بإجماع غيره في عصر آخر. والواقع أنه كان من العسير إجماع المسلمين بعد عصر الصحابة حيث انتشر المسلمون في أقطار الأرض ولم يتيسر عملياً إشغالهم جميعاً في وقت واحد لبحث مسألة من المسائل وتقرير حكم فبها. كما أن الأمر لا يستلزم إشغال مجتهدي القطر الواحد كلهم في وقت واحد لبحث هذه المسألة. ونحن لا ننكر قوة إجماع كل المجتهدين أو غالبيتهم في مسألة من المسائل على اجتهاد مجتهد واحد. غير أن هذا لا يمنع أنهم غير معصومين ويمكن الرجوع في أحكامهم. والإجماع في الواقع لم يخرج عن كونه اجتهاداً بمعنى أعم شأنه شأن الاجتهاد في إمكان الرجوع في أحكامه في أي وقت من الأوقات.
ويمكننا القول بأن معظم مراتب الإجماع ليست حجتها قاطعة ويجوز مخالفتها وعدم الأخذ بها خلافاً لما يظنه كثير من المسلمين. فالاختلاف الشريف في الرأي أمر لا يستوجب مؤاخذة صاحبه. وقد ورد عن الرسول أنه قال (خلاف أمتي رحمة للناس) وإن زعم بعض المحدثين أن هذا الحديث ضعيف إلا أنه ينطبق على الواقع، ففيه وصف بأن الاختلاف في الرأي رحمة إذ أن ذلك يشجع الناس على استعمال ملكة العقل للبحث وراء الحقيقة، وقد اختلف الصحابة أنفسهم في الرأي. وهناك من الحوادث ما جهر بها الشخص الواحد بكل جرأة في مخالفته لرأي الجماعة. فقد ورد عن أبي ذر قول خالف فيه رأي الصحابة جميعهم ومع ذلك لم يقل أحد بأنه قد ارتكب إثما لمخالفته رأيه للإجماع. وقد شجع الرسول المجتهدين في الرأي بأن لهم جزائهم عند ربهم حتى ولو أخطئوا فقد ورد عن الرسول ﷺ أنه قال (إذا حكم الحاكم فاجتهد وأصاب فله أجران وإذا حكم فاجتهد واخطأ فله أجر واحد.
الاجتهاد ثلاث مراتب
يقول الفقهاء المتأخرون بأن الاجتهاد على ثلاث مراتب ولو أن ذلك ليس له أصل في الكتاب والسنة أو كتب الأئمة الأربعة. وهي اجتهاد في الشرع، واجتهاد في المذهب. واجتهاد في المسائل. والاجتهاد في الشرع قاصر على القرون الثلاثة الأولى. وقد اختص بها الأئمة الأربعة الذين وضعوا القوانين الشرعية كلها وفق ما نقل عن الصحابة والتابعين. وطبيعي أنه لم يذكر صراحة أن باب الاجتهاد في هذه الناحية قد أقفل بعد القرن الثاني للهجرة إلا أنه قيل أن الشروط اللازمة لمثل هؤلاء المجتهدين لم تتوفر لأحد بعد الأئمة الأربعة. وقيل أيضاً أنها لن تتوفر لأحد بعدهم حتى يوم القيامة. وهي وجوب أن يكون المجتهد محيطاً بالكتاب متناً ومعنى وحكماً وأن يكون محيطاً بالسنة كذلك متنا وسنداً عالماً بحال الرواة، وأن يكون محيطاً بالقياس قادراً على استنباط علل الأحكام من النصوص الخاصة والعامة. وليس هناك من سبب يدعو إلى القول بأن هذه الشروط لم تتوفر إلا قي الأئمة الأربعة في القرن الثاني للهجرة.
وذكروا أن الاجتهاد في المذهب مختص بمحمد وأبي يوسف من اتباع أبي حنيفة. وزادوا على ذلك بأنه يجب الأخذ برأيهم حتى ولو تعارض مع رأي الإمام أبي حنيفة.
والاجتهاد في المسائل قد اختص به الفقهاء المتأخرون الذين توصلوا إلى حل مسائل لم يسبق أن أثيرت من قبل بشرط أن يكون الحل مطابقاً تماماً لآراء خيار المجتهدين. وقد قيل أيضاً إن باب هذه المرتبة من الاجتهاد قد أقفل بعد القرن السادس الهجري. وقيل أنه لم يبق في عصرنا هذا غير المقلدين والنقليين هو قول بلا حجة وليس من طريق العلم لا قي الأصول ولا في الفروع. ويمكن للمقلدين أن يعطوا فتاوى مستمدة من أحكام المجتهدين المتقدمين إذا كانت هناك آراء متعددة واختاروا واحداً من هذه الآراء وأفتوا به بدون تعليق أو ترجيح.
نرى مما تقدم أن الاجتهاد الذي لم يقل أحد من الأئمة الأربعة واتباعهم بأنه حجة قاطعة قد أصبح مقيداً من الوجهة العلمية ولم يكن لأحد أن يكون أهلاً للاجتهاد في هذا الوقت. وسنتم إن شاء الله باب الاجتهاد في مقالنا اللاحق وهو يتضمن الكلام على أن باب الاجتهاد لم يوصد. وعن استقلال الفكر.
محمد سعيد أحمد