مجلة الرسالة/العدد 888/عهد
مجلة الرسالة/العدد 888/عهد
لصاحب العزة الأستاذ محمد محمود جلال بك
- 2 -
يعجب المرء حين يرجع لنفسه أثر صدمة أو مرض أو ذكرى فيجد فيما يشغل قلبه أو باله اتجاها جديدا أو لونا آخر لا يكاد يختلف عما يشغله، بل هو في واقع الأمر منه في أساسه أو على صلة يصعب فصمها. وكيف يتجلى هذا اللون أو يأخذ به ذلك الاتجاه ومنذ وقت قريب كان غامضاً أو كان مع الوجود عدماً.
ومرت أيام بور سعيد كعمر الحاسد الشافي سراعا، على حد قول المرحوم شوقي بك، وكلها ملأى بحديث الشاعر الشاب وما لونت من ذكراه محض المصادفة من لقاء الشاطئ الجميل ووفاء الأخ النبيل بقاع لم تطأها قدمه. فبلده على بحر يوسف، وذكره ينثر حياته النادرة على شاطئ البحر الأبيض المتوسط بينما فرت روحه في جنات النعيم.
وفي خضم الذكريات وتداعي المعاني ذكرت حديثاً له معي أصيل يوم صائف في شرفة السلاملك ببلدتي (القيس) وقد جاء يزورني في سنة 1917 أو سنة 1918 زيارة كإحداها بيننا تسجل امتداد الوداد القديم الذي ربط الآباء كما ربط الأجداد من قبلهم.
ذكرت على شيء من الغموض إشارته ذلك اليوم إلى اعتزام صديق من أهل بلده جمع قصائده في ديوان. . . وأن الشيخ عبد الوهاب النجار قد يقدم له بكلمة. ومع توالي زياراتنا بين الريف والقاهرة لم يذكر بعد ذلك شيئاً في هذا الشأن.
كان شديد الحياء جم التواضع. ولست أشك أن هذا الخلق هو الذي قام دون إهدائه إلي نسخة من الديوان، وكل ذلك مهد لما أعده تقصيراً مني في جانبه.
مضت سنوات على وفاته. وبعد قليل لحق به أخو الأكبر الذي قام على تربيته وتدبير أمره. فأين السبيل إلى ذلل الكنز؟
غير أن شعوراً بالثقة وإيمانا بأن الله مثيب النيات الصالحة باعد بيني وبين اليأس مما قصدت، وكلما لاحقتني صعاب أثناء تفكيري لاحقها لطف من الله بنور الأمل.
وكيف لا يكون ذلك وقد ذكرت فحملت عهداً محبباً إلى النفس أن تقي به مهما كلف من مشقة. وهل يحس المرء مشقة في أداء عهد؟ ذكرني به صديق وفي عهد به إليه راحل وفي فالقصة كلها قصيدة وما أحرى الأدب بالوفاء!
ملك علي خوف التقصير مشاعري وأرهف تجدد الذكرى عزيمتي فظللت أبحث مستهديا كل من عرفت له صلة بالشاعر الراحل من قريب أو بعيد طيلة أعوام ثلاثة حتى كانت سنة 1947 فأمدني صديق قريب في مفاجأة ممتعة بالنسخة الوحيدة الباقية من الديوان، وكانت تحتفظ بها شقيقته الكبرى كأغلى تراث يقتنى وما عرفت بعنايتي وحاجتي إليها حتى سارعت إلى قرينها عليه رحمه الله وهو الذي سلمها إلى صديق ورفيق صباي أحمد الأزهري إذ كان زميلا له في العمل.
عددت وما وصلت إليه نعمة كبرى ما عددته جزاء وفاقا للحفاظ والوفاء.
أما النسخة - على أنها تحفة العمر - فسقيمة الطباعة كثير فيها الخطأ، قد امتدت إليها يد الزمن فمزقت من صحفها؛ ولكن هذا كله شحذ العزم على إبراز الشاعر وفضله ووضع شعره في المكان اللائق به. وليس أولى من الرسالة الغراء صحيفة الأدب الرفيع بنشر فضل كاد ينسى، وإحياء غصن ذوى في ربيعه. وأهلت علي سنة 1948 بأمراض وآلام اقتضتني أسفاراً وتوزعت أيامي بين مختلف البلدان. ولعلي أخذت الديوان مرة في رحلة آملا أن أرد به النفس إلى السكينة، أو أن أرد بأداء الواجب السكينة إلى النفس، ثم لم يرد الله، فانقضى عامان آخران قبل أن يحظى بهذا الأداء قلمي. وقد سلخت هذا المدى الطويل باعثاً معقباً بين شواغل الحياة وبلاء الأيام وقلة المصادر إلى قرب إمحاء، التمس مجموعة أو قصيدة من شعر صديقي المرحوم (أحمد توفيق البرطباطي) إذا لم أجد ديوانه لنكون عماد بحث كله خير وأدب وفائدة فكنت على حد قوله عليه رحمه الله
تعاقدت والأهوال عشرين حجة ... لهن قيام بالأسى وقعود
فلست أبالي بعدها ببلية ... قرى الخطب عزم للعلا وصمود
للكلام بقية
محمد محمود جلال