مجلة الرسالة/العدد 889/في الشعر السوداني

مجلة الرسالة/العدد 889/في الشعر السوداني

ملاحظات: بتاريخ: 17 - 07 - 1950



الطبيعة

للأستاذ علي العماري

كنت كتبت منذ عام أبحاثاً في الشعر السوداني واتجاهاته وطبيعته ثم حالت ظروف دون إتمام هذه البحوث. والآن نستأنف الكتابة في هذا الموضوع، ونبدأ بالحديث عن تصوير الشعر السوداني للطبيعة السودانية.

الأدب طابع الأمة وصورة حياتها، ومظهر عواطفها، واتجاهاتها، وسجل تقليدها وعاداتها، وهو المميز لها (إن صدق) عن كل أمة أخرى غيرها، وتظهر فيه أرضها وسماؤها وجدبها ونماؤها؛ وشرها وخيرها، وحلوها ومرها. ولكثير من الأمم نوع من اللباس أصيل فيها ورثته عن القرون البعيدة، ويعرف في كل أمة باللباس الوطني لها، وتستطيع لأول نظرة إذا كنت خبيراً - أن تدرك وطن اللابس من ملبوسه، وأن تعرف جنسه من زيه، وكذلك الأدب ولا سميا الشعر، إذا استوحى فيه الشعراء بيئاتهم، ولم يقلدوا فيه غيرهم، كان صورة صحيحة لبلادهم، ومميزاً واضحاً لهم، وإذا كنت تجد من الثياب ما يصح لأكثر من واحد من الشعوب فكذلك تجد من الشعر، فأنت تقرأ مثلا قول الشاعر:

ألا ليت الرياح مسخرات ... بحاجتنا تباكر أو تأوب

فتخبرنا الشمال إذا أتتنا ... وتخبر أهلنا عنا الجنوب

فيقع في نفسك، بل تكاد تجزم أن هذا شعر سوداني، أو على الأقل يقوله شاعر يعيش في السودان. مع أن قائله شاعر نجدي

والطبيعة من أخص الأمور التي تصبغ أدب الأمة بصيغتها وتطبعه بطابعها، فليس من الممكن أن يكون الشاعر الذي عاش في صحراء يضرب فيها ممسياً ومصبحاً، وتروعه وحوشها ويلذعه حرها، وينتجع فيها مواطن الماء ومنابت العشب، كالشاعر الذي يعيش على شاطئ بحر أو نهر. يتنسم النسمات العليلة، ويروى من صور الآفاق والأرض والناس ما لا يرى صاحبه، ولن يختلط الشاعران أحدهما بالآخر إلا إذا خرجا عن دائرة الشعر الأصيل إلى دائرة الشعر التقليدية، حق الكلمات ودلالتها لها آثار بعيدة المدى في طبع شعر الأمة بطابعها. فكثير من الشعوب - مثلا - يعتبر الخريف فصل الجدب تتج فيه الأغصان، وتذبل الأزاهير، وتخلو الأرض من النبات، ولذلك يقولون للرجل إذا بلغ أقصى العمر أنه في خريف الحياة، ويقصدون من ذلك أن ما كان فيه من شباب وقوة ذهب ولكن الشاعر السوداني الذي يصدر عن عاطفة منساقة مع شعور قومه ومعبرة عما يختلج في حياتهم من خضب ونماء لا يستطيع أن يعبر عن الخريف إلا أنه شباب الزمن وفصل الحياة والنمو. كما عبرت عنه الشاعرة البدوية السودانية فجعلت فيه (الطبيعة الصامتة) والجمال الحبيب. فهذا السحاب يحثم في الشرق مؤذنا الأرض بعودة شبابها الأخضر. أو هو قد آذنها أمس وقبله، ويؤذنها الليلة بواكف مدرار. وتلك هي دجاجة الوادي ترجع كعادتها في الخريف إلى بيضها تحتضنه لتهب له الحرارة والدفء، ونقيق الضفادع يعلو في المشارع والمناهل، وأولاد الإبل تعدو مسرعات خلف أمهاتها فرحا بالخريف واستبشاراً به) وهذا في الحق تصوير رقيق لمظاهر الخريف ومباهجه التي تسري في الإنسان والحيوان على السواء.

ولسنا نعني من شعر الطبيعة أن يقول الشعراء - فقط - في المناظر الطبيعية التي تتراءى لهم في بلادهم، ولكنا نقصد أن تكون عواطفهم واتجاهاتهم مطبوعة بطابع هذه المناظر فنجد تشبيهاتهم وتخيلاتهم مستمدة من حياتهم؛ ولست تقضي العجب من هذا الشاعر الذي يتنقل بين (دادي هور) و (وادي كتم) و (صحراء العتمور) و (حدائق المقرن) ثم لا يذكر في شعره ألا ألبان والعلم والخيف من منى ووادي العقيق.

والشعر السوداني شعران: شعر الخاصة: والشعر القومي. والنظر الفاحص في شعر الخاصة يهدينا إلى أنه كغيره من شعر الأمم الشرقية مشدود إلى الشعر العربي بأربطة وثيقة ولا تكاد تجد له استقلالاً عنه. وإذا كان الشعر في بعض البلدان تحلل من تقليد الشعر العربي القديم فإنه لا يزال في السودان حفياً به مقتفياً أثره، متتبعاً خطواته، فالشعراء يبدون قصائدهم بالغزل كما كان يفعل القدماء ويقفون على الأطلال والدمن، ويستوقفون الأصحاب كما وقف القدماء واستوقفوا. . . وهكذا

وبطبيعة الحال لا تعدم في هذا الشعر الكثير الشاعر الصادق والشعر المصور فقد يصف الشاعر رحلته على الناقة، كما وصف القدماء، ويقف على الأطلال كما وقفوا، وهو مع ذلك صادق لأنه؛ مر بهذه التجارب الشعورية، وعاش فيها حيناً من الزمن فهذا الشاعر السوداني حين رحل إلى وادي هور (وهو أسم واد غرب السودان، وحوله من الآثار ما يدل على أنه كان مثوى حضارة قديمة) رحل على ناقة لقي معها من عنت السفر أو مشقة الطريق ما لقي ولا شك أنه حين وقف على هذه الآثار فاضت عبراته. وتدفق شعوره، فصور ما وقع له، لم يقلد فيه غيره، ولم يصدر عن غير عاطفة، وهذا ما عرفناه من تاريخ حياته قال يذكر حبيبه:

لم أنسه إذ زارني ... منه خيال ما أستقر

زار الرحال وبيننا ... سير على البيد عسر

إيجاف شهر للمطى ... تخوض في كثب عفر

وسرى ليال لم تذق ... طعم الكرى حتى السحر

سبحان ربي أمين وا ... دي النيل من دادي هور

وادي الجحاجحة الالي ... عمروه في خالي العصر

وعواصم القلوم الذ ... ين بذكرهم تحلو السير

زرت الربوع فخانني ... صبري لذكرى من غبر

ما كان لي كبدا لسلو ... ولا فؤاد من حجر

بخل الجفون على ثرى الغا ... دين من إحدى الكبر

وهذا الشاعر معرم بوصف بلاده، وقد قال في كثير منها، وأشبه شعره بالشعر العربي قصيدته في (مليط) وهي مركز من مراكز درافور؛ ولا نتهمه في شعوره بل إننا نقول أنه مع هذا النهج القديم صادق الشعور.

حياك مليط صوب العارض الغادي ... وجادوا ديك ذا الجنات من وادي

أنسيتني برح آلامي وما أخذت ... منا المطايا بإيجاف وإيخاد

كثبانك العفر ما أبهى مناظرها ... أنس لدى وحشة رزق لمرتاد

فباسق النخل ملء الطرف يلثم من ... ذيل السحاب بلا كد وإجهاد

وأعين الماء تجري من جداولها ... صوارما عرضوها غير إغماد

والورق تهتف والأظلال وارفة ... والريح ترفع ميادا لمياد

وقد نجد الشعراء المحدثين يتجهون اتجاهاً قومياً وإن كان بعضهم ترك الأفق الشرقي عامة، واتجه بعواطفه وميوله وشعره إلى أفق آخر لا يستقيم معه أدبنا. وعندي أن الأدب كالدين، فمن ترك ديننا فقد كفر بالله من ترك أدبنا فقد كفر بالوطن. وهؤلاء الشعراء المحدثون ينظمون - أحيانا. . في مناظر بلادهم. وللشاعر التيجاني يوسف قصيدة في جزيرة (توني) وهي جزيرة تقع بين الخرطوم وأم درمان خصيبة التربة. طيبة الهواء، وصفها الشاعر فأجاد، ومن قوله فيها:

يادرة حضها النيل ... واحتواها البر

صحا الدجى وتغـ ... شاك في الأسرة فجر

وطاف حولك ركب ... من الكراكي أغر

وراح ينفض عينيه من ... بني الأيك حر

فماج بالأيك عش ... وقام في العش دبر

كم ذا تمازح فن ... على يديك وسحر

يخور ثور وتثغو ... شاة وينهق حمر

وألبهم تمرح والزر ... ع مونق مخضر

تجاوب اللحن والط ... حن والثغاء المسر

وهب صوت النواعير ... وهو في الشجو مر

وكلها - وهي طويلة - على هذا النحو من التصوير الناطق والتعبير البسيط.

أما الأدب القومي فهو صورة صحيحة للحياة السودانية الطبيعية، ففيه الأحاديث الطوال عن السحائب الغر، التي تجود عليه بالمطر، وعن الأشجار الباسقة من سرح وسدر وجميز، وعن ضفاف النيل. وموارد الغدران والأودية، وعن الأطيار الساجعة فوق أغصانها؛ والظباء النافرة في فتن الجبال والغابات. ولنكشف هنا بمثال واحد يصور لنا أوائل الخريف وكيف أستقبله الناس والأنعام وكيف اهتزت به الأرض وربت. سأل أحد السجناء من أهل البطانة شاعرهم الحردلو عن أخبار مسقط رأسه وملعب صباه. وكان الحردلو شاعراً بدوياً مجيداً وله في الأدب القومي شأن أي شأن (وسنفرده ببحث خاص إن شاء الله) فأجاب صاحبه قائلا:

الخبر الجا قالوا البطانة أرشت ... وسارية تجود حتى الصباح ما أنفشت هاج فحل أمصر يصر والمنايح بشت ... ديت أم ساق على حدب الجميل انعشت

فالشاعر يجيب صاحبيه بأن الخبر الذي جاء والنبأ الذي وصل إليه خبر جميل طيب. قالوا البطانة أرشت، والبطانة المكان الواقع بين النيل الأزرق والانيرا وفيه مراع واسعة، وكانت فيه قديماً مملكة مروى الشهيرة في التاريخ، والآن ينزله أثناء الخريف عرب الشكرية والبطاحين والضباينة والجمران. والبطانة مشهورة بالخصب. والشاعر جاءه الخبر أنها أرست ونزلت فيها الأمطار. وأن سحابة مملوءة بالماء جاءت عليها طوال الليل وطلع عليها الصباح ومع ذلك فلا يزال فيها المطر الغزير (وسارية تجود حتى الصباح ما انفشت) فسرت الحياة في الأرض، ومشى البشر في نفوس الحيوانات، وبدأت علائم الخصب ونزعة الإنتاج في الأرض والحيوان سواء بسواء، فاهتاج الجمل للقاح (هاج فحل أمصر بمصر وهوت إخلاف النوق بفيوض من اللبن الحبيب (والمنابح كشت وكست الأعشاب أديم الأرض، حتى لتتعشى البكرة التي عبر عنها الشاعر ببنت أم ساق وأم ساق كناية عن الناقة وهي تكنية جميلة جداً. هذه البكرة تتعشى من الأعشاب المحيطة بالمنازل ومن عادة الفصلان ألا تتوغل في المزارع والأعشاب، وتكتفي بأن ترعي قريباً من المنزل، فإذا كان العشب القريب يكفي لعشائهم فمعنى هذا أن الخصب قد عم، وهذا ما أراده الشاعر.

ولو قيض لهذا الأدب القومي السوداني من يدرسه دراسة وافية، ويقف عند مواطن الحسن فيه لجاء الأدب واللغة بخير كثير.

(يتبع)

على العماري

مبعوث الأزهر بالسودان