مجلة الرسالة/العدد 890/تعقيبات

مجلة الرسالة/العدد 890/تعقيبات

ملاحظات: بتاريخ: 24 - 07 - 1950



للأستاذ أنور المعداوي

ثلاثة شعراء في الميزان: حداد والعطار والملاط

يا كاتب الأداء النفسي

تحية من صبا بردي أوق:

قرأت في تعقيباتك المنشورة في العدد (886) من الرسالة بتاريخ 26 يونيه، أنه يسعدك كله أن يوافيك قراء الرسالة بكلمة عن الأستاذ يوسف حداد صاحب قصيدة (الشاعر) المنشورة في العدد (885) من الرسالة. وساء ني أن تشعر بكثير من الحرج حين يدور في خلدك أن بعض القراء قد يعرفونه حق المعرفة في الوقت الذي لم تتح لك الظروف أن تعرفه بعض المعرفة.

هون عليك يا أنور فإن الخطب يسير، وها هي ذي قارئة من قارئات الرسالة توافيك ببعض ما تريد. بين يدي مجلة (العصبية الأندلسية) التي نقلت عنها الرسالة القصيدة، تشير في ختامها إلى أن الأستاذ (حداد) من لبنان - البقاع - تل زنوب

وقد لمع في ذهني أن أعيرك العدد رجاء أن تعيده إلي حرصا على مجموعتي، لأني أريد أن استمع إلى رأيك في هذه المباراة الشعرية الفريدة التي واقترحتها العصبة الأندلسية في موضوع (الشاعر) على شعراء العالم العربي. ولا أكتمك أني قرأت القصائد الثلاث فانتهيت إلى حكم كمناقض لحكم العصبة، ووددت لو أن اللجنة المحكمة عكست الأمر لكان ذلك اقرب إلى الحق وأدنى إلى الصواب.

لقد اشترطت العصبة الأندلسية في عددها ذي الرقم (7)

وبتاريخ 211949 أن تكون القصيدة سليمة اللغة والتعبير فلا

تحتاج إلى تصليح وتنقيح، وقصيدة الأستاذ حداد لا تخلو من

المآخذ وتحتاج إلى كثير من فالتنقيح، وسرني أن تشير إلى

هذا في تعقيباتك الصادقة البارعة. والعجب العجيب أن لجنة التحكيم رأت هذا وأغلفته حين قسمت الجائزة الأولى بين

الشاعرين شبلي ملاط ويوسف حداد، لما في القصيدة الأولى

حسن الديباجة وجودة الحبك، وفي الثانية من قوة الشاعرية

وخصب الخيال وقوة الشاعرية وحسن الديباجة وجودة حبك،

فكأنها تقر في حكومتها أن القصيدة الأولى حلو من الشاعرية

وأن القصيدة الثانية يعوزها الحبك!

وشاءت العصبة الأندلسية بعد ذلك أن تمنح الجائزة الثانية لقصيدة الأستاذ انور العطار، وانفراده بالجائزة الثانية دليل على أن قصيدته تقوم على قوة الشاعرية وحسن الديباجة، وإلا لقسمت الجائزة الثانية كما فعلت في الجائزة الأولى!

قرأت القصائد الثلاث ثم عدت إلى طبعي احكمه وإلى نزاهتي أسألها فانتهيت إلى الحكم الآتي:

1 - قصيدة الأستاذ شبلي ملاط لا أثر فيها للتجديد فهي عنيفة في أفكارها وصورها وأسلوبها، وهو لا يتحدث فيها عن الشاعر الذي يلهم الشعر إلهاما ولكنه يتحدث عن النظام الذي يكده اللفظ ويؤوده الوزن وتهده القافية، وإلا فما شان هذين البيتين:

وقد تنقضي ساعاته في نهاره ... وليس له إلا بتقويمه شغل

وفي الليل يقضي الليل إلا أقله ... يعالج سبك البيت والسبك مختل

والمقطع بكامله يصف رجل قريحة لا رجل عبقرية، ويعفى على مقطعة كله بيت المتنبي:

أنام ملء جفوني عن شواردها ... ويسهر الخلق جراها ويختصم

وفي القصيدة أسلوب فقهي في تحلية لفظه (كل) بال والفصيح تجريدها، وفيها خطيئة نحوية في قوله: (صلوا) بالضم وعليه أن يقول (صلوا) بالفتح، وذلك في البيتين:

1 - وتعصيه وقتا لفظه مطمئنة=ويعييه بعض البيت حينا أو الكل

2 - هلم إلى الدنيا الخلود وهيكل=إلى وجهه عباد صانعه صلوا وراعني كما يروع كل فتاة أن يكون الشاعر غير موحد في حبة وآلافا شان (نعم وجمل) في بيته:

فكان لنعم من شعاع قلادة ... وكان لجمل من سنا لؤلؤ مثل

لا يا أيها الشاعر العاشق! حبيب واحد ذخر). . .

والتوحيد في المرأة من نبل القلب وصدق الحب!

لا يا أيها الشاعر، إنك لتقلد عمر بن أبي ربيعية وما تجيد التقليد، وإلا فما شان هذه الأبيات:

وشبب ما شاء التشبب فيهما ... وشدت أواخي الود واستحصل الحبل

فغارات مليحات العشيرة منهما ... وطاب لها في الشاعر القدح والعذل

ووجهن تقريبا إليه كأنما ... هو الطعن في أحشائه أو هو النبل!

وقلن له خل العشيرة وارتحل ... وإلا ففيما بيننا القسمة العدل

أتظلمنا في منحك الشهد غيرنا ... ونحن الأزاهير التي امتصت النحل

وتنظم في نعم وجمل خوالد ... وما مثلنا في الحب نعم ولا جمل؟

على أنه حين يرتحل عن العشيرة يصبو إلى كل حسناء:

ويصبو إلى ممشوقة القد كلما ... بروضة زغلول تموجت النخل

لا يا أيها الشاعر الكبير شفيق معلوف، حين أعلن في مستهل قصيدته أن جنة السحر (عبقر) أوفدته إلى الناس.

أوفدتني إلى الأنام ... جنة السحر (عبقر)

وأراد الشاعر أن يقلد صاحب (أزهار الشر) بولدير، فاستعار قبح ألفاظه ولم يستمر عمق معانيه ولا جمال روحه، انظر إلى هذه الصورة:

والعصا جسم أفعوان ... وجرابي عشوش بوم

واراد أن ينحو منحى شعراء الرمزية وان يتقرب إلى (عزاها) فرلين فكتب ما لا يفهم، وإلا فما معنى هذا البيت:

وإذا أعول المجن ... عبد الغيم ظل دود!

وفي القصيدة أخطاء لغوية ونحوية، منها جمله (ورد) على (ورود) والصواب أن يجمع على (أوراد ووراد)؛ وتجريده جواب الشرط من الرابطة. . واستعماله (شلة) لكبة المغزل وذلك في الأبيات الثلاثة الآتية:

1 - يحمل التاج والكفن=للفراشات والورود

2 - إن طوى القبر أضلعي=ادفنوا غلتي معي إلخ

3 - هبه من غزل شلة=لفه العث، حبل نير

وتخلو القصيدة من الشعر ويتجهم لها البيان حين يستعمل الشاعر ألفاظا مستعارة من لغة التجارة والسياسة والبرقيات في قوله:

أوفدتني إلى الأنام ... جنة السحر عبقر

في مهماتها الجسام ... يالشئ يحير!

وبعد فالقصيدة هذيان محموم لكثرة ما تطفح به من وعول الجان ونعاج الدخان وخيول الغيوم. . وهي على تفاهتها مسروقة من قصيدة عنوانها (غيوم) لشاعر فرنسي فاتني اسمه كان يتحدث عن طفل أستلقي على ظهره في يوم غائم، فبصر بالسماء وقد أقبلت عليه غيومها بما يشبه الحملان تارة وبما يشبه الوحوش الكاسرة تارة أخرى؛ ثم بصر بثوب جدته الفضفاض وقبعتها المترهلة فاغمض جفنية واستسلم إلى الرقاد.

لا يا أيها الشاعر! إن الشعر لفظ ومعنى، ولن يستقيم إلا إذا ظفرت باللفظة الصافية والمعنى الواضح والمبنى حريص على التجديد في الأفكار ولكنه لا يغتفر لأحد أن يجدد في الأساليب، لأنها وحدها التي لغة من لغة وبياناً من بيان، وما عظمه الشاعر (شوقي) إلا لأنه نظم طريف الفكر في توالد اللفظ

3 - أما قصيدة الأستاذ أنور العطار فقد أرضتني كل الرضا وتحمست لها كل الحماسة، برغم أن عمريه الهوى في الشعر ذلك أنى أميل إلى شعر أبي ريشة أضعاف ميلي إلى شعر أنور العطار هذا ذوقي ولا جدال في الأذواق.

أرضتني بقوة شاعريتها وخصب خيالها وجودة سبكها وحسن ديباجتها، وشعرت كأنني أقرا شعرا من الجنة، أو كان روح شوقي ترقرقت على هذه القصيدة. . . والحق أنه ما من شاعر استطاع أن يترسم خطى شوقي وان يجيد صورة واناقة بيانه وصفاء ألفاظ وعذوبة جرسها وموسيقاها كما استطاع أنور العطار، وحسبي دليلا على ذلك هذه القصيدة الشاعر البارعة التي أرضت العصبة الأندلسية في خصب صورها وجودة حبكها، إن كل بيت من أبياتها بتحدث عن الشاعر حديثا حلوا وهاك بعد صورها:

1 - طافت الأرض في رؤاه تصاوير ندايا بجدة ورواء

2 - يشرف البشر في محياه نضرا=ومن البشر انفس الشعراء

3 - يا صدى الأنفس اللهيفة=يا حامل عبء الهموم والأدواء

تنقل البرء للآلي نشدوا البرء وفي القلب عالم من رثاء

4 - صور الرحمة التي تغمر الكون بفيض الأنداء والآلاء

صور الحب والحنان على الأرض ونجوى الأصداء للأصداء

طف كهذا الربيع نشوان فرحان غني العبير جم البهاء

لح كهذا الصباح يختال جذلان يعم الأكوان بالأضواء

5 - بابي العبقرية الفذة البكر تلف الحياء بالكبرياء

6 - غن يا ابن النجوم والقمر العاشق والسفح والرباء الشماء

غن يا ابن الغمام والجبل الملهم والظل والشذا والماء

غن يا ابن الليل الموشح بالنور ويا ابن الضحى ويا ابن السماء

غن فالعالم الرحيب تسابيح هيامي من نشوة الإيحاء

أنا نشوان من نشيدك هيمان فهات اسقني وزد في انتشائي

هدهد القلب والهوى والأماني بغناء باق على الإناء

وطن أنت ظاعناً ومقيما ... لست والله بالغريب النائي

إنما العروبة التي ما تقضي ... غربة الفكر والندى والعلاء

لا ادري ما الذي أخذ بقلمي للدفاع عن أنور العطار، وإلى إنزاله هذه المنزلة وإلى الإعجاب بقصيدته الذي أعلنه دون تورع ألانه ينظم الشعر بروح شوقي الخالد، أم لأنه يكتب بهذه اللغة الساحرة الشاعرة التي عنت لأستاذنا الكبير أحمد حسن الزيات، هذا الأديب العظيم الذي يتحدث النبع الشادي في خلوة الوادي؟

وبعد، فيا كاتب الأداء النفسي. . يا من أتحدث إليه دون كلفة ولا مشقة كما يتحدث القلم إلى الورق، ما أريد إلا أن تعقب على هذه المباراة الشعرية وان تنشر القصيدتين الفائزتين في الرسالة، وان نرهف إليك أفكارنا لنسمع فصل الخطاب في هذه المباراة.

أحتفظ يا أنور بنسختي من مجلة العصبية الأندلسية واذكر إنها عارية يجب أن ترى، لأن ذلك يشجعني على أن أعيرك طائفة من كتبي الغالية علي، فأنت من الآن قسيمي في الفكر ورفيقي في الأدب، نتلاقى في الرسالة على تنائي الدار وسط المزار واختلاف الجنس وائتلاف الحس.

ولك تحياتي وإعجابي

من المخلصة هجران شوقي

دمشق - سوريا

كنت قد طلبت إلى قراء الرسالة أن يوافوني ببعض ما يعرفون عن الشاعر يوسف حداد. . . عن موطنه، عن شعره، عن حياته الشخصية والأدبية. وها هي ذي الأديبة السورية هجران شوقي تتطوع فتبعث إلي بهذه الرسالة المطولة، لا لتطلعني على علمها بشخصية الأستاذ حداد بل لتطالعني برأيها (الخاص) في شعره! ومن العجيب أن الأديبة الفاضلة قد بدأت رسالتها بنقد الشعراء الثلاثة ومن بينهم الشاعر الذي أسأل عنه، ثم ختمت هذه الرسالة برغبتها الخالصة في أن تسمع مني فصل اخطاب في هذه المباراة. . وكأنها بريد أن توحي إلي ببعض أشياء أن نؤثر في حكومتي الأدبية!

معذرة يا آنستي إذا قلت لك إنني لم أكن محتاجا إلى رأيك في الشاعر يوسف حداد وإنما كنت محتاجا إلى علمك به. . ومعذرة مرة أخرى إذا قلت لك إن رأيي اليوم في قصيدته هو رأيي الذي أعلنته بالأمس على صفحات الرسالة، ولن يغير من هذا الرأي ما بدا في رسالتك من تحامل مقصود لا يستند إلى (فنية) أصيلة من دعائم النقد الأدبي الذي أومن به. وعندما أقول النقد الذي أومن به فإنما أعني (الأداء النفسي) بأصوله وقواعده، بهذا (الأداء اللفظي) الذي يؤمن به بعض الناس!

لقد كنت أنتظر وقد رجعت إلى موازيني الخاصة في نقد الشعر عندما تحدثت عن شعر الأستاذ علي محمود طه منذ شهور، لا أن ترجعي إلى موازين القرن الرابع الهجري أن كان النقاد يزنون الشعراء بأخطائهم اللغوية والنحوية، فإذا أرادوا أن يثبتوا (فنيتهم) في النقد لم يجدوا أمامهم غير العبارة الخالدة: (شاعر متين السبك قوي الحبك مشرق الديباجة)، كما تعبرين أنت في رسالتك. أو كما كانوا يقولون: (شاعر أني بما أخجل زهر النجوم في السماء وأزرى بزهر الربيع في الأرض)

عفا الله يا آنستي عن موازينك عندما تصفين قصيدة الأستاذ حداد بالتفاهة أو بأنها هذيان محموم. صدقيني إذا مكان شعر الأداء النفسي من خلال منظارك هذيانا فإنني أرحب بهذا الهذيان ولن أقيم لغيره الميزان! ومعذرة للمرة الثالثة إذا قلت لك إننا لو جردنا نقدك من بعض اللمحات العابرة، لما بقي منه شيء ذو خطر يمكن إن يحدد مكان كل منهم تحديدا فنيا يقوم على قواعد وأصول إذا لم يجدد شبلي الملاط في أخيلته والفظه ومعانيه، قلت عنه أنه عتيق في إبكاره وصوره ولا أثر للتجديد في شعره. وإذا جدد يوسف حداد وحلق في آفاق يعز بلوغها على كثير من الشعراء، قلت عن هذا التجديد أنه تافه أو هذيان محموم! ألا توافقني على انك مضطربة في أحكامك متناقضة في آرائك من حيث لا تشعرين؟!

ثم من قال لك يا آنستي أنه ما من شاعر استطاع أن يرسم خطى شوقي أو يجيد صوره واناقة بيانه وصفاء ألفاظه كما استطاع أنور العطار؟ هل تستطيعين أن تقدمي لنا نموذجا من شعر هذا وآخر من شعر ذاك، لتثبتي لنا مدى التوافق بين أفق وافق وبين جناح وجناح وبين أداء واداء؟ أم أن هذه مسالة مفروغ منها بكلمة مماثلة لا تنهض على اساس، كما فرغت من الحكم على يوسف حداد بكلمة مماثلة لا تنهض هي أيضاً على أساس!؟ وإذا كان أنور العطار قرينا لشوقي كما تريدين لي أن أقتنع ن فهل أخرج من هذا الهوى أعاف ما أنت (عطاريته) كما تقولين؟!

اضطرب في أحكام ومناقض. . . بل وتحامل. ولو لم يكن همك تحامل لما تعمدت أن تقفي عمد ثلاثة أبيات أو أربعة من شعر الأستاذ حداد لتلغي في ضوئها بقية قصيدة أو بقية شاعريته وان تحرصي كل الحرص على اختيار عشرين بيتا من قصيدة الأستاذ العطار هي قلبها النابض بالحياة! هذه حقيقة ليس إلى إنكارها من سبيل. . ومن العجب أن الأبيات التي وقعت أنت عندها في قصيدة الأستاذ حداد هي قلبها بعض ما وقفت أنا عنده وسلكته في عداد المآخذ والعيوب، ولكنني على الرغم من هذه المآخذ وقفت عند مقطوعات أخرى أملت على أن اصف جناح الأستاذ حداد بأنه من الأجنحة النفسية في أفق الشعر العربي الحديث!

وكيف لا اصف الجناح بمثل ما وصفته به وهذه بعض تحليقات في بعض مقطوعاته:

أن نوحي بكل بر ... شرب الغيم من صداه

هل ترى الرعد ما انفجر ... لوفي لم يجد باه؟!

تبعدوني عن البشر ... قربوني من الإله

في يدي بيعة الصور ... في فمي مطهر الجباه

فلمن اكحل البصر ... ولمن اغسل الشفاه

واذبحوا بيننا القدر ... فهنا عور منتهاه

كل ما يشبع النظر ... قافات مني ذرى الجفون

إن جوعي كوى الحجر ... ظمأى جفف العيون

نفسي رمد الشجر بصري قوض السجون

غرسوا في يدي الإبر ... فجنوا زهر زيزفون

كم طوى الكوكب الأغ ... رلي رواقا من السكون

أنت لولاي يا قمر ... لم تكن غير شطرنون!!

من جلوسي على انفراد ... فوق تل العشية

وانحداري على الوهاد ... بالرؤى المخملية

نشا الوحي في العباد ... كرجاء المنية

ويك لولا غنى الوداد ... بكنوزي الخفية

حيث يلتف بالرماد ... موسم العبقرية

ما حلا للمسيح زاد ... من يد المجدلية!!!

رب بيت نظمته ... بات تاريخ كل دين

رب سيف ثلمته ... لف جيل الوغى بحين

رب زهر شممته ... ناب عن غسلة السنين

رب ثغر ظلمته ... بالمناجاة والأنين

حمل العدل صمته ... من عرين إلى عرين! أي شيء صفا وطاب=لفؤادي وناظري

ومضى دون ما إياب ... لم ينتف مجاجري؟!

لا بظفر ولا بناب ... بل بشوك الخواطر

عند لمس الهوى المصاب ... هان نهش الكواسر

هكذا يلجم العباب ... فئ دمع المهاجر

أرم عينيك يا سحاب ... أن بكى قلب شاعر!!

أنا أشقى ليسعدا ... لي وراء الأنام جار

واغني ليزهدا ... بهتاف الضحى الهزاز

واهز المهنا ... كي تلف القنا يغار

وارش اللظى ندى ... عل ريق اللما يغار

ضاء شمعي ورمدا ... في ليالي الهوى القصار

كي يطيل البلى غداً ... شوق عظمي إلى النهار!

هذا يا آنستي شعر. . . شعر لا نظير له عند أبي ريشة ولا عند العطار. . . . شعر فيه هذه (الرؤية الشعرية) الصادقة التي ترمز إلى الاستشفاف الدقيق للحقائق؛ سواء أكانت في حدود المنظور أم خلف حدود المنظور، في محيط الوعي أم فيما وراء الوعي في نطاق الاستيطان النفسي أم في نطاق التناول الحسي وفيه هذه (الموسيقى الداخلية) التي تعبر تمام التعبير عن حالة شعورية خاصة طبعت أداء الشاعر بطابع صوتي خاص، تلمسينه في تهدج النفس الشعري وتموجه وفي إسراعه واندفاعه، أنها موسيقى النفس لا موسيقى اللفظ، تلك التي تتسلل إلى القوى الخفية المتناثرة في آفاق الشعور، والتي يعتمد على قيمتها الصوتية في النهوض بالأداء وفيه هذه (الواقعية النفسية) التي تشرف عليها ملكة (الوعي الشعري) وتنسج خيوطها من أعماق الهزة الوجدانية، وتعرض الفكرة من خلالها ملفعة بسبحات الروح أو موشحة بنفحات العاطفة، أو مدثرة بتلك الغلائل التي تكشف عن تفاعل الأصداء الكونية في ساحة الوجود الداخلي. . . . وفيه هذه (الملكة التخيلية) التي تجعل من الحركة الجامدة حركة حية، ومن الكون المادي الصامت كونا يموج بالمشاعر والأحاسيس، ومن الصورة التي تعز على اللمس صورة تداركها الحواس، حتى لتوشك أن تنالها الأيدي وان تراها العيون! وفيه هذا (المزاج الفني) الذي يشرف على انتفاضة الذهن والقلب والشعور ويخلع أثوابه الدقيقة على هياكل الكلمات، ويسلط أضواءه الكاشفة على مشاهد التجربة، ويصبغ، الإطار الخارجي للصورة الوصفية بألوان النفس حينا وبألوان الحس حينا آخر!

في قصيدة الأستاذ حداد يا آنستي كل هذه المزايا الفنية يحفل بها شعراء الأداء النفسي. . وفيها مزية أخرى تفردت بها وتفوقت على قصيدة الأستاذ العطار، وهي انطباق (الحقيقة الفنية) على الموضوع ودورانها حول معناه. اعرض قصيدة الأستاذ حداد عارية من عنوانها على ناقد يتذوق الشعر ثم يسأله: أي عنوان يمكن أن ينطبق على موضوع هذه القصيدة ويصلح لها وتصلح له؟ أنه يجيبك على الفور: (الشاعر). . . بعد هذا اعرضي قصيدة الأستاذ العطار على الناقد نفسه ثم وجهي إليه نفس السؤال، وأنا واثق من أن شيئا من الحيرة سيحول بينه وبين دقة الجواب: من هذا الذي يطوف كالربيع ويلوح كالصباح وينتسب في بنوته إلى القمر والنجوم، والربا والسفوح، والغيم والجبل، والظل والشذى، والليل والنهار، والضحى والمساء، والوديان والينابيع؟ من هذا المخلوق الذي خلع عليه الأستاذ العطار كل هذه النعوت؟ إنها نعوت قد تنطبق على راع من الرعاة، أو على عاشق من العشاق، أو على شريد هائم على وجهه أريت إلى مدى الشقة بين (الحقيقة الفنية) وبين موضوع القصيدة؟!

ثم تؤكدين أن قصيدة الأستاذ حداد مسروقة من شاعر فرنسي فاتك اسمه لأن القصيدة الفرنسية قد ورد فيها تشبيه للغيوم بالحملان تارة وبالوحوش الكاسرة تارة أخرى. لقد كنت أحب أن لا يفوتك أسم الشاعر الذي أشرت إليه حتى يكون لاتهامك نصيب من الواقع. وإذا كان، فهلا التزمت الدقة في التعبير وقلت أن مقطوعة واحدة في قصيدة الأستاذ حداد قد ورد فيها مثل هذا التشبيه في قصيدة الشاعر الفرنسي، بدلا من أن ترمي القصيدة كلها بأنها مسروقة؟! شيئا من الدقة يا آنستي أو شيئاً من الحق والإنصاف!!

ولا بد من وقفة عند قولك معقبة على (هذيان) الأستاذ حداد: (والشعر العربي حريص على التجديد في الأفكار ولكنه لا يغتفر لأحد أن يحدد في الأساليب). . . ترى كم علامة من علامات التعجب تكفيني لأضعها في ذيل هذه العبارة؟ معنى هذا يا آنستي أن الشعر العربي لن يغتفر لشعرائنا المحدثين أن يخرجوا على طريقة التعبير عند الشعراء الجاهليين أو من يماثلهم من الشعراء الأمويين. ولا باس من أن يعبر أبو ماضي مثلا على طريقة جرير:

وابن اللبون إذا ما لز في قعس ... لم يستطيع صولة البزل القناعيس!!

بقي أن تطبقي هذا الرأي الجديد في نقد الشعر على النثر العربي الحديث. . . وإياك أن تغفري لصاحب هذا القلم أنه يكتب بأسلوب غير أسلوب القاضي الفاضل!!

ونعود إلى مآخذك اللغوية والنحوية لأنها تحتاج إلى تصحيح. . لقد أخذت على يوسف حداد جمعة لكلمة ورد على ورود، وصحتها أن تجمع على وراد وأوراد. أن هذا الجمع الذي أتيت به يا آنسة هو جمع الورد من الخيل: وهو ما بين الكميت والأشقر أن الأحمر الضارب إلى الصفرة، وليس جمعا للورد الذي أتى به الأستاذ الحداد قد ورد في بعض كتب اللغة وهو صحيح لا غبار عليه. . . وأخذت عليه أيضاً تجريده جواب الشرط من الفاء الرابطة في قوله:

إن طوى القبر أضلعي ... ادفنوا غلتي معي

أظن أن هذا ليس خطأ إذا التمسنا للشاعر جواز التقديم والتأخير جواز تقدير لفعل الشرط وجوابه، كان يقال مثلا: (ادفنوا غلتي معي إن طوى قبري أضلعي) وكان يقال من باب الاستدلال: (اذهب إلى عمر وإن مررت بداره)!

وأخذت على شبلي الملاط أنه أدخل (ال) على (كل) والصحيح تجريدها. . . الصحيح يا آنستي أنها جائزة، وقد جاء في كتب اللغة أن (كل) لا تدخل عليها (ال) إلا إذا كانت عوضا عن المضاف إليه أو أريد لفظها كما يقال (الكل) لإحاطة الأفراد. وإذا رجعت إلى بيت شبلي الملاط الذي يقول فيه:

وتعصية وقتا لفظه مطمئنة ... ويعييه بعض البيت حينا أو الكل

إذا رجعت إلى هذا البيت لوجدت أن (ال) هنا قد جاءت عوضا عن المضاف إليه ولذلك أدخلت على (كل)، والتقدير هو أن نقول: وبعييه بعض البيت حينا أو كل البيت!. . أخذت عليه أيضاً هذا الخطأ النحوي في قوله (صلوا) بالضم في هذا البيت الآخر من قصيدته:

هلم إلى وادي الخلود وهيكل ... إلى وجهه عباد صانعه صلوا

لقد افترضت أن الفعل هنا قبل ماض وان على الشاعر أن يقول) صلوا بالفتح، فلم لا تفترضين إن الفعل هنا فعل أمر، الذين يناديهم بالصلاة؟ وعلى هدى هذا الافتراض يصح أن تكون (صلوا) بالضم؟!

أتريدين فصل الخطاب في هذه المباراة؟ إنني أيقول لك في كلمات: إن قصيدة شبلي الملاط في ميزان (الأداء النفسي) هابطة، وإن قصيدة أنور العطار متوسطة، وإن قصيدة يوسف حداد متفوقة. . . ولست في حكمي على الشعراء الثلاثة إلا منصفا لشعورهم الذي بين يدي، دون أي اعتبار لجائزة أولى أو ثانية تقدم لهذا أو ذاك

ومعذرة أن كنت قد قسوت لأنني أشك كثيرا في شخصيتك الأنثوية، ويخيل إلى أن اسمك يا (آنسة) ما هو إلا قناع يختفي وراءه وجه أديب من الأدباء السوريين. . واغلب الظن أنه صديق للأستاذ أنور العطار!!

مهما يكن من أمر شخصيتك فإنه لا يسعني ألا أن اقدم إليك اخلص الشكر على جميل رأيك وحسن ظنك. أما (العصبة أل أندلسية) فلا باس من ردها إليك إذا كان لك في دمشق عنوان. . ولا داعي لأن تشغلي نفسك بإعارتي بعض كتبك الغالية، لأن لدي كتبا كثيرة في انتظار القراءة!

أنور المعداوي