مجلة الرسالة/العدد 891/المستعمرة الذرية

مجلة الرسالة/العدد 891/المستعمرة الذرية

ملاحظات: بتاريخ: 31 - 07 - 1950



للأستاذ محمد محمود زيتون

قالوا (العلم لا وطن له) وهم بذلك أرادوا ألا تدنس السياسة أقداس العلم، ومحاريب العلماء، بل أرادوا ألا يتأثر العالم في علمه وبحثه بأي عامل سياسي أو جنسي أو ديني حتى يتحقق للعلم استقلاله، ويؤدي رسالة النهوض بالإنسانية إلى ما يخفف عنها أعباءها، ويختزل الصعاب التي تواجهها.

وهذا ما يفهمه كل إنسان على ظهر هذا الكوكب المعمور، فليست عملية حسابية أو تجربة كيميائية أو ظاهرة طبيعية أو عملية جراحية مما ينسب إلى وطن بعينه، وإنما هو الفكر الواحد الذي يسود مظاهر العلم بعيداً عن حدود الزمان والمكان، ولذلك يقال في معرض التفرقة بين العلم والفن: العلم موضوعي الفن شخصي.

ومع ذلك تمخضت نزعة الجنس الألمانية عن (الكيمياء النازية) فكانت من الأصداء المعكوسة للاستقلال العلمي، فارتكست ألمانيا في قرار غير ما كانت تريد وتأمل مع ذلك العظمات التي شيدت أركانها وشدت بنيانها.

فإذا عرفنا أن الكون في شتى صوره ليس إلا شيئين هما: الإنسان والطبيعة، استطعنا أن نقول إن الإنسان في محاولته التعرف على الطبيعة إما راغب في معرفتها كما هي عليه فذلك هو العلم، أو كما يريدها هو فذلك الفن.

وتبدو الطبيعة للإنسان في بادئ عهده بها كلاً لا يتجزأ، فما يزال يتقرب منها حتى يدور حول هذا (الكل) ليعلم تفاصيله وأجزاءه، وبذلك ينتقل من إدراك الصورة الكلية (الجشتالت) إلى العناصر والأجزاء، ويكون هذا التحطيم من عمل الفكر، وإن لم يكن له في الوجود وجود، حتى إذا تحقق كان الفكر أسبق شيء إلى توهين القوى، وتحليل الكامل.

وما دام الإنسان في تصعيده قدماً في معرفة الطبيعة يعترف على نفسه بالجهالة كلما تبين له الخطأ فيما كان يزعمه صواباً، فلا شك أن هذا الجهل الذي لا يرضاه يحفزه بطبعه إلى التعمق والتفحص والتمرس بالطبيعة حتى يحطم كيانها، ويفتت أجزاءها، ويحلل عناصرها بعد أن كانت في نظره البدائي (طاقة كلية).

وهذا هو ما يعرفه كل متتبع للتطور العلمي، والتصاعد الفكري للإنسانية في شتى أعصارها. ألم تكن (الذرة) سراً خفياً، وجزاءا لا يتجزأ، ثم إذا بنا أمام ثورة فكرية هائلة على هذا الجمود، فطالعنا علماء الطبيعة بتحطيم الذرة وانقسامها، حتى لقد سارعوا إلى توكيد ذلك عملياً بما سموه (القنبلة الذرية) التي تشرفت بها (هيروشيما) البائدة فأصبح عاليها سافلها كأن لم تغن بالأمس، ثم انفضت الحرب، ووضعت أوزارها، فإذا بجزيرة (بيكيني) تهتز براً وبحراً وجواً، ومن يدري ماذا سيكون بعد الذي كان، وما لم يكن، مما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر؟

لسنا نشك في أن (الثورة الذرية) ستغير من جميع أوضاع الحياة الإنسانية في مظاهرها تغييراً بدت آثاره بين ظهرانينا الآن، أما الأيام القادمة فليست غير توكيدات عملية صريحة لهذه الآثار.

كانت النظرة الإنسانية إلى الطبيعة شاملة غاية الشمول، عامة كل العموم. ثم صرنا نقول: الشرق الغرب، ولكل (كتلة) هو موليها، وهناك القارات فإذا بالقارة الواحدة تنقسم إلى قسمين، فأصبحت أمريكا أمريكيتين، وانشطرت من ثم كل واحدة إلى مالا عداد له من الولايات. وهكذا الحال في الهند والصين وفي غير الهند والصين.

قد يقال إن النواة البيولوجية هي أصل الانقسام، ولكن عاملا جديداً دخيلا له أكبر الأثر في كل انقسام وهو (الاستعمار) الذي وجد لنظرية (فرق تسد) مركبا سهلا وهو تحطيم الذر فأتخذها ذريعة للوصول إلى غايته.

لقد استأثرت أمريكا - وهي دولة الاستعمار العصري - بأسرار التحطيم الذري، ولم لا يكن لهذا السر أصداء بقيت هي في الواقع (ظواهر) للطاقة الكامنة. فالكهرباء كانت لا ندري عنها غير ما يظهر لنا من نور وحركة وحرارة، فانحطمت هذه الطاقة، وأنكشف سترها وخافيها، ولم تعد طلسما يعيب العقول ويحير الألباب.

وكذلك (الوحدة السياسية) التي توافر عليها كثير من العوالم الجغرافية والتاريخية والجنسية والاجتماعية، تأخذ هذه الوحدة في التقدم والنمو حسب مقدراتها الخاصة والعامة، ولكن كيف تقف أمريكا وغيرها من الدول الدائرة في فلكها إزاء هذه (الوحدة) في عصر الذرة؟ وكيف يصح في الأذهان الذرية أن يظل شعب واحد على ما هو عليه من تماسك وتضافر في عصر انحلت فيه كل قوة، وانشقت العصا، وحل التخاذل والانحلال مكان التساند والاستقلال؟ بل كيف يكون الفرد الواحد متماسك الوعي، ثابت الاتزان، متكامل الوجدان؟

شق ذلك على المستعمرين الذريين، فالتمسوا السبيل إلى تحطيم الفرد بتحطيم الأعصاب، فأصبح موزع الشعور، صريع الهوى، شتيت الفكر، غريب القلب والعقل واليد واللسان، ودفعهم إخلاصهم (لهذه البشارة) إلى تفتيت كل وحدة، وتحطيم كل قوة، وتفريق كل متماسك، وتصديع كل ما هو (كل)، وتفرعوا بهذه البدعة الجديدة من الحروب التي لا تعرف الزحف والأدبار، ولا الكر والفر، حرب لا يحمى وطيسها مبادئ، ولا يعقد ألويتها زعامة، ولا يحرص عليها إيمان، تلك هي (الحرب الباردة) التي توحي بها السياسة العقربية التي شعارها (تلدغ العقرب وتصئ).

ومظاهر التحطيم واضحة في كل مكان: فالحكام في البد الواحد معتدلون ومتطرفون، وفي البرلمان الواحد أصحاب يمين وأصحاب يسار، وفي الدولة الواحدة أُصلاء ودخلاء. فهذه دول مغلوبة على أمرها، توزع الاستعمار نفوذه فيها، ويزكي بعضه بعضا، ويدفع معور عن معور كما يقول الشاعر. وهذه فلسطين ظلت كتلة واحدة حتى دس الاستعمار أفاعيه، فشطرها إلى عرب ويهود، ثم إلى يهود من الشرق وآخرين من الغرب؛ وأخيراً إلى يهود عصابة شتيرن ويهود عصابة فيومي.

وهذا وادي النيل يعملون على فصل شماله عن جنوبه، وأندنسيا يقسمونها بين الهولنديين والوطنيين، واليونان يشطرونها بين الثوار والآمنين. واجتاحت الصين شيوعية حمراء تقاومها عناصر صفراء، وكوريا يفصلون شمالها عن جنوبها ويحرضون هؤلاء بهؤلاء.

وبينما تنتظم الكتل السياسية المزعومة تباعا في هذا العصر الذري مثل كتلة (الينلكسي) وكتلة البحر البلطي، والكتلة الغربية الديمقراطية في مواجهة الكتلة الشرقية الشيوعية، بينما يكون ذلك، نرى الخطر يحدق بالدول الصغرى التي ليس لها في هذا النزاع الدولي القائم، ناقة ولا جمل. ولعلها لا تنخدع بنخوة التكتل والتجمع، ونشوة التحالف المقنع. فليحذر دعاة الكتلة الأفريقية.

اللهم إن كل جامعة تقام بنيانها على غير أساس لا تقوم إلا على شفير منهار، إذ الأساس الذي يجب أن يدعم حقا هو الضمير النقي السليم الذي يستحضر مركباته من خوف الله، وحب الناس، وعمل الخير، ورعاية الحق، ودفع الشر، وهدم الباطل. بهذا لا تكون السياسة، وسياسة الأنانية بالذات، هي الباعث على التجمع والائتلاف، ويوم لا يكون هم العالم إلا الدفاع أو الهجوم فقل على الإنسانية وتراثها ألف سلام.

والأركان السليمة التي لا تتصدع مهما تكن عوامل التعرية إنما يدعمها الدين المتين، واللغة القومية، والهدف النبيل، والماضي المؤلف، والأمل المشترك، وتلك هي (الجامعة الإسلامية) التي وضع بعض لبناتها دعاة القوة في ماضينا أمثال: الأفغاني ومحمد عبده ومصطفى كمال، والتي لن يكون للعالم المترنح خلاص إلا بها، فقد اكتملت معداتها، وتهيأ لها الفرد، واكتمل فيها الدستور، واتضحت الوسيلة والغاية، وتغلغل الإيمان بها في كل قلب، واستنار العقل بما عنده وعند غيره في الماضي والحاضر، وليس إلا دور النزوع والخروج من حيز الأمل إلى ميدان العمل، العمل الإيجابي المنتج في غير تراجع أو نكوص. أما (جامعة العرب) فلم يغمض الاستعمار عنها جفنة. ونحن لا نستطيع جدالا في أصالتها وتعمق جذورها، وستظل إلى وقت غير بعيد إرهاصاً يبعث جديد لأمها الكبرى (جامعة الإسلام) وهي العروة الوثقى التي لا انفصام لها.

ولن يغيب عنا أن سياسة الاستعمار الذري أو التحطيم العصري تتربص بنا، وتنغل في الداخل والخارج بشتى الأساليب ما ظهر منها وما بطن، غير أن البداهة المنطقية تقول إن القوة لا تفنى إلا بالقوة و (لا يفل الحديد إلا الحديد) والحكمة تقتضي أن أتغدى بالعدو قبل أن يتعشى هو بي.

وليس ببعيد أن تقوم دول الاستعمار جملة لا فرادى، ومتضافرة لا منفردة، وقد رفعت بعض أحقادها وضغائنها على الرفرف ووضعت أيديها في يد الشيطان في سبيل الشيطان، وبذلك وحده تواجه أهدافها بقوة واتحاد، متحايلة حينا، صريحة سافرة حينا آخر، فتجتمع على الأسلاب والغنائم ثم تنصرف إلى أوكارها تتوزع الجراح، وتقتسم الأشلاء، والدماء الزكية الطاهرة تسيل من أشداق الوحشية الذرية. . .

هذه هي (هيئة الأمم المتحدة) هل تزيد صورتها شيئا عن (عصبة الأمم) وهل تغيرت مبادئ ولسون شيئا بتغير الزمن عن ميثاق الهيئة؟. كلا غير أن شيئا واحدا يجب ألا ننساه هو أن العصبة الجديدة قد تمخضت عن القرن العشرين أو قل القرن الذري. وأخشى ما نخشاه أن يتحول العالم في القريب غير العاجل إلى جزيرة بيكيني ليكون اسمه الجديد (المستعمرة الذرية).

وبذلك وحده يصبح العلم لا وطن له، والحضارة لا أصل لها، وتتناثر في الفراغ أجزاء الطبيعة وأشلاء الإنسان وأضواء العلم

وتلك سياسة مرسومة سهرت عليها شهوات أهل الباطل في غفلة من مفاخر أهل الحق وتكالب على تخاطيطها ورسومها شراذم الشذاذ والأفاقين، فلنبحث عنها في (قاموس الوحوش)

محمد محمود زيتون