مجلة الرسالة/العدد 891/مع حافظ في ديوانه
مجلة الرسالة/العدد 891/مع حافظ في ديوانه
بمناسبة ذكراه
للأستاذ عبد الفتاح بركات
سلام على شاعر النيل، مازال ذكره حبيباً، تهتز له المشاعر بالطرب والإعجاب، ولقد أطل (يوليه) فبدا لي كأنه طيفه الأغر على حافة الأفق، يدعوني إليه؛ وما هي إلا نقلة من قدم حتى وجدتني أجالس حافظاً في (الديوان) أستمع إلى حديثه، وكم في حديثه من عذوبة تخلب، وسحر يفتن. . . قلت. . . لقد تميز جيلكم بالثورة في كل شيء. . . في السياسة، والأدب، والاجتماع. فأحدثتم حياة جديدة هي منة في أعناق الاخلاف جعلت لكم حق التقديس والإكبار. . . ولعل قضية المرأة كانت أبرز معالم تلك الثورة إذ تناولها بالبحث والنظر كثير من قادة الفكر وأرباب الرأي، وإذ ذكرت تلك الصفوة الممتازة فشاعر النيل منها في الصف الأول. فماذا يرى؟
قال - رأيت في المرأة أنها الأصل والمجتمع أثر لها، متأثر بها، فهي الأم الوالدة، والأستاذة المرشدة، وأن أفضال الجماعة من غرسها، وأوزارها من بذرها؛
الأم مدرسة إذا أعددتها ... أعددت شعباً طيب الأعراق
وتلك مقدمة نتيجتها أن تربى المرأة تربية صحيحة صافية، وطريقة ذلك إذا أردناه أن تكون الشرقية غربية في العلم والثقافة. بهذا خاطبت (ملك) حين بكيتها:
أني أرى لك سيرة ... كالروض أرجه الزهر
قد كنت زوجا طبة ... في البدر عاشت والحضر
غربية في علمها ... مرموقة بين الأسر
واسترسلت فمجدت في شخصها صواحب الرأي والفكرة: لله درك إن نثرت -. . . .
أما حريتها - يعني المرأة - فقد أردتها مقيدة محدودة بعرف الإقليم والدين.
أنا لا أقول دعوا النساء سوافراً ... بين الرجال يجلن في الأسواق
يفعلن أفعال الرجال لواهياً ... عن واجبات نواعس الأحدافي
وبحيث لا تفيض شرقيتها وتضيع. قلت عن (ملك)
شرقية في طبعها ... مخدورة بين الحجر وكأنه أحس بي ميلاً إلى الكلام فأرتفع صوته بعض الشيء وهو يقول - حذار أن تظن بي رجعية تجذب نظرتي إلى الوراء فهذى قوافي الثوائر تنقض على راث التقاليد، وعتيق العادات هادمة محطمة، ترفع عن المرأة الإصر، وتفك من عنقها الغل،
ليست نساؤكم حلي وجواهراً ... خوف الضياع تصان في الأحقاق
ليت نساؤكم أثاثاً يقتنى ... في الدور بين مخادع وطباق
تتشكل الأزمان في أدوارها ... دولا وهن على الجمود بواق
وأنا بين التقييد والإطلاق لا أبغي غير الوسط والاعتدال.
فتوسطوا في الحالتين وأنصفوا - فالشر في التقييد والإطلاق وأن تكون التربية قائمة على أسس وطيدة من الفضيلة والأخلاق
ربوا البنات على الفضيلة إنها - في الموقفين لهن خير وثاق وعلى ضوء ما قدمت بين يديك طوقت أجياد نسوة المظاهرة أيام الثورة الكبرى بقصيدة صيغت كلها بالثناء والإكبار. وصفوة ما أقوله في المرأة أن البيت خير مستقر لها، وهو عالمها الأفضل، وبحال جهادها الأكبر.
في دورهن شئونهن كثيرة - كشئون رب السيف والمزراق
ولا يغيبن عن البال أن هذا هو ما قال فيلسوف الشرق والإسلام (جمال الدين).
قلت - ولكن قيل عند أنك كنت عائما على السطح لا تغوص في القاع وغالى أهل هذا الرأي فرووا عنك أبياتاً قلتها في رثاء (قاسم أمين بك) سلكت فيها مسلكاً حياديا فلم تتعرض لأفكاره في المرأة بالتأييد أو التفنيد وتلك هي الأبيات:
ورأيت رأياً في الحجاب ولم ... تعصم فتلك مراتب الرسل
الحكم للأيام مرجعه ... فيما رأيت فنم ولا تسل
فإذا أصبت فأنت خير فتى ... وضع الدواء مواضع العلل
أولا فحسبك ما شرفت به ... وتركت في دنياك من عمل
فقال - وماذا كان يراد مني يا فتاي. . . لقد أتيت بما لا يمكن غيره؛ فالقول رثاء يرسل لفقيد، ودموع تنثر على قبر، والرثاء من قديم مدح باك، وعلى هذا الدرب سار الشعر العربي حديثه وقديمه، لم يحد عنه. وما كان لمثلي أن يخرج على أسلافه القدماء وأقرانه المحدثين ليهدم رجلا يبكي عليه ويتحسر، أو ليهبه التأييد المطلق وهو يكن في نفسه رأيا خاصاً قد يخالف ما بغي (قاسم) وارتاه. فأكون كما قلت:
وهذا يصيح مع الصائحين ... على غير قصد ولا مأرب
وما أسلفت كاف لتجريد الأبيات من وجه الاستدلال فلا تنهض حجة على أفكاري وآرائي، وإلا فلماذا لم يتكرر مثل هذا الموقف مع السيدة (ملك)؟
وإنه لواجب أن تحاط علماً بأن كتاب (قاسم) في المرأة أحدث هزة عنيفة، وقيل عنه حينذاك بأنه يدعو إلى الحرية المطلقة؛ وكم في هذه الدعوة من جرأة جديرة بأن تكون عذراً يصرفني عن قراءة الكتاب.
فالأمر لا يخرج عن كونه تبايناً بين رأيين. أما الرجل نفسه فعلم شامخ من أعلام نهضتنا الحديثة له قدره وخطره، وإثم في حق الوطن كبير لو لم أرثه وأبكيه إذ فقدناه، ولقد فعلت فوفقت. . . وتعابثت بشيء في يدي، وأنا أتلو بصوت خفيض - كأني أحدث نفسي. . .
لمحت من مصر ذاك التاج وألقمرا ... فقلت للشعر هذا يوم من شعرا
يا دولة فوق أعلام لها أسد ... تخشى بوادره الدنيا إذا زأرا
أعزي القوم لو سمعوا عزائي ... وأعلن في مليكتهم رثائي
وأدعو الإنجليز إلى الرضاء ... بحكم الله جبار السماء
وهنا التفتت إلي وفي نظرته القوية آيات الاحتجاج ثم قال - ماذا؟: ماذا تريد؟
قلت - أما أنا فلا أريد شيئاً. . . وإنما هناك من يريد أن يؤاخذنك على قصيدتين: إحداهما في مدح (إدوارو السابع) والثانية في رثاء الملكة (فكتوريا) ومنها هذه الأبيات.
قال - يا محدثي. . . إنما هي نزعة إنسانية جارفة تحكمت في شعري السياسي تحكم القضاء في أبن الفناء، فجعلتني أمدح العدو وأرثيه، ولا يستطيع منصف ناقد أن يعيب على مسلكي فقد مدحت الإنجليز في بلادهم وحاربتهم في بلادي عنيفاً قاسياً، وليس هذا في شرعة الحق بمستنكر، وهاتان القصيدتان إن دلتا على شيء فإنما تدلان على خصلة حميدة في شعب مصر تعلى من شأنه وترفع؛ فهو لا يحارب في الأجنبي جنسيته وإنما يحارب فيه أخس طباعه وهو استعماره للبلاد، واستعباده للناس. . . ولكل امرئ يعلم مقدار حبي لأمة اليابان وإعجابي بها، ولكن ذلك لم يمنعني مطلقاً من أن أقف في الحرب بينها وبين الروسيا موقفاً إنسانياً يفر منه الضمير، فنعيت على الفريقين أن يتخذا آلات التدمير والهدم.
عز ريل هل أبصرت فيما مضى ... وأنت ذاك الكيس الأمهر
كذلك المدفع في بطشه ... إذا تعالى صوته المنكر
ومثل ذاك كثير.
. . . وإلى هنا انتهت جلسة ممتعة هي في حساب العمر أسعد أوقاته؛ وما كنت أود أن تنقضي، ولكن من من الناس نال كامل مبتغاه.
طنطا
عبد الفتاح بركات