مجلة الرسالة/العدد 891/من أسرار الإعجاز

مجلة الرسالة/العدد 891/من أسرار الإعجاز

ملاحظات: بتاريخ: 31 - 07 - 1950



للمرحوم الأستاذ مصطفى صادق الرافعي

كنت أرجع إلى نابغة الأدب مصطفى صادق الرافعي في تفسير بعض آيات من القرآن الكريم لأستورى بذلك زند قريحته وأستدر ضرع بلاغته. وكان قلمه يجرى في هذا التفسير على القرطاس مسرعاً على غير عادته في سائر ما يكتب لي من رسائل مما يدل على تدفق المعاني التي يوحي بها إليه، وانثيالها من خاطره الفياض عليه. وإني أتحف قراء الرسالة الغراء بشيء من هذا التفسير البليغ المعجز.

محمود أبو ريه

تفسير آية (زين للناس حب الشهوات)

راجعت عن آية (زين للناس) تفسير الشيخ محمد عبده، وتفسير الألوسي فلم أر فيهما ما يهدي إلى السر في هذه الآية، والمفسرون جميعاً متفقون على أن (حب الشهوات) يراد به المشتهيات. والمعنى: زين للناس المشتهيات من النساء الخ، وهذا يجعل الآية موضع نقد ويذهب بسر التعبير (بحب الشهوات)

وإعجاز هذه الآية هو في لفظة (حب الشهوات، فلو قال: المشتهيات أو الشهوات، أو حب النساء لما كان ذلك شيئاً. والشهوات وظائف طبيعية في الناس فكونها زينت للناس أمر لا معنى له وليس فيد جديد؛ ولكن (تزيين حبها) هو السر كل السر لأن حبها هو سبيل الحرص عليها، والإكثار منها كالذي يجد مالا ينتفع به؛ فالمال في نفسه منفعة وليس في ذلك شيء عجيب؛ ولكن الذي يبتلى (بحب) المال تنقلب فيه هذه المنفعة ضرراً فيبخل ويبتلي بالحرص ثم يبتليه الحرص على المال بمحق حياته كلها.

فالشأن إذن ليس في المشتهيات ولا في الشهوات ولكن في (أحب الشهوات). ثم أن حب الشهوات متى كان سبباً في الحرص عليها والإكثار منها فهو خطأ وضرر، فإذا (زين) ذلك للإنسان كان أشد ضرراً وأمعن في باب الخطأ. وهذه هي حكمة استعمال (زين) فكأن هناك ثلاث درجات: الشهوة وهو عمل طبيعي، ثم حب الشهوة، وهذه إضافة جديدة من العقل تزيد فيها، ثم تزيين هذا الحب، وهي إضافة ثانية تزيد الزيادة وتضاعف الخطأ. وعلى هذ تلحق الشهوات في هذا الترتيب بالحد الخارج عن العقل، وهذا الحد هو أول الجنون، كما يشاهد في ذهاب أثر العقل وضعف حكمه عند (تزيين شهوة محبوبة) بحيث لا يبقى للعقل حكم ولا حكمة مع هذا التزيين!

وجعلت (زين) مبنية للمجهول لأن بعض هذا محبوب محمود فهو من زينة الله ويدخل في قوله تعالى (قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده) وبعضه مذموم مكروه فهو من تزيين الغرائز الفاسدة، وبعضه حمق وجنون فهو من تزيين الشيطان.

والغرض من الآية تجاوز الحد المعقول من شهوات الدنيا، فإن تجاوزه يجعل الدنيا هي الغاية، ومع أنها وسيلة فقط، ولهذا قال (ذلك متاع الحياة الدنيا) ثم أنه قال (حب الشهوات) بالجمع، ولم يقل الشهوة فتكون (الشهوات) مختلفة متباينة تقدر كل واحدة باعتبارها الخاص في الأصناف التي وردت في الآية، فالشهوة للنساء غيرها من البنين، وهذه غيرها من المال، وهذه غيرها من الخيل المسومة الخ فكل واحدة ذات شأن خاص في النفس كما هو مشاهد، ولكن الجنون بها كلها متى (زين حبها في النفس) شيء واحد.

وانظر الحكمة العجيبة في الترتيب. فالنساء شهوات من الغريزة والعاطفة، والبنين شهوات من العاطفة والنفس، والمال الكثير من النفس فقط، والخيل المسومة والأنعام والحرث؛ هذه الثلاثة تارة جزاء من المال، وتارة جزاء من عاطفة النفس كما يغرم بالخيل بعض الناس أو بالأنعام أو بالزراعة، ولذلك جاءت في الآية بعد النساء والبنين لأنها لاحقة بالغريزة والعاطفة والنفس.

ويدخل في الخيل المسومة كل ما يقتنى للمباهاة والزينة أو لأغراض القوة على إطلاقها ومنه السيارات والطيارات الخ. ويدخل في الأنعام كل ما يقتنى للتجارة والكسب، وفي الحرث كل ما يقتنى للأعمال والإيجاد ومنه المصانع والمعامل الخ، فإذا حققنا هذا وجدنا هذه الأبواب جامعة لكل الشهوات الناشئة من جميع قوى الجسم الإنساني والنفس الإنسانية.

أما ما كان خاصاً بشهوات العقل فلا يدخل في الآية، وهذا من أعجب إعجازها، لأن أمور العلوم والفنون (لا تزين) إلا لفريق محدود من لناس، أي لا يزين حب الشهوات منها، وهذا الفريق عادة هم النوابغ العبقريون، وهؤلاء العبقريون في الحقيقة لا يجدون من العلوم والفنون (متاع الحياة الدنيا) ولكن مصائب الحياة الدنيا. . .

تفسير أية (ويعبدون من دون الله مالا يملك لهم رزقا)

وسألناه عن موضع لفظ (شيئاً) من الآية الكريمة (ويعبدون من دون الله مالا يملك لهم رزقاً من السموات والأرض - شيئاً - ولا يستطيعون) من سورة النحل فأجاب رحمه الله:

أما تفسير الآية التي سألت عنها فقد راجعت التفاسير أول من أمس فلم أر فيها ما يقنع. والذي ظهر لي أن (شيئاً) في الآية بدل (من رزقاً) وهذا الإعراب نبه إليه المفسرون وجعلوه ضعيفاً مع أن فيه كل القوة، لأن المراد من الآية أن هؤلاء (يعبدون من دون الله مالا يملك لهم زرقا من السموات والأرض) وهنا يعترض هؤلاء أنفسهم بأنهم يعتقدون أن معبوداتهم تلك ذلك وإلا فلم عبدوها؟ فجاءت لفظة (شيئاً) لبيان أن كل ذلك وهم وتخيل وضلال إذ لا معنى للرزق إلا إذا كان (شيئاً) لا وهم فقط، ولا شيء ترزقه هذه المعبودات من السموات والأرض فإذا كانت لا ترزق شيئا على الاطلاق، فهي على الإطلاق ليست شيئاً إلا ما توهموه منها، وهذا كالذي توهموه فيها فالأمر فيهم وفيها كله وهم وضلال، ولهذا جاء بعد ذلك (ولا يستطيعون) وعبر هنا بضمير الجمع والعاقل، مع أن أول الآية (مالا يملك) فدلت الكلمة الأخيرة على أن المراد أن هؤلاء العابدين ومعبوداتهم كالأوهام المحضة، لا هي تستطيع أن ترزقهم شيئاً كائنا ما كان من السموات والأرض أي ولو ذرة، ولا هم يستطيعون أن يجعلوهن قادرة على شيء من ذلك.

(فشيئاً) هذه معجزة الآية كلها، ويستحيل أن ينتبه إليها عقل بشري ويجيء بها في هذا الموضع. وتكون النتيجة التي ترمي إليها الآية بهذا التعبير: أن المعبود الحق هو القوة الأزلية المالكة للإيجاد المطلق، أي الواحد الأحد وهو الله لا غيره وما عدا ذلك فهو من اختراع أوهام الناس؛ موجود في الوهم معدوم في الواقع والمعنى. أليست هذه الكلمة الواحدة (شيئاً) تستحق أن يسجل لها أهل البلاغة يا أبا رية؟

أنقل هذا التفسير وأرسله في ورقة على حدة لنضعه مع مذكرات أسرار الإعجاز فإن هذه الكلمة التي تظهر كالزائدة في الآية، هي سر الآية كلها، وهذا كله كالإعجاز من الإعجاز (واكتب لي هذه العبارة أيضاً في ورقة التفسير

مصطفى صادق الرافعي