مجلة الرسالة/العدد 892/صور من الحياة

مجلة الرسالة/العدد 892/صور من الحياة

ملاحظات: بتاريخ: 07 - 08 - 1950


على الشاطئ

للأستاذ كامل محمود حبيب

قالت لي: بعد أيام يسافر أهلي إلى الإسكندرية، فيا حبذا لو رافقتنا فنفزغ من لفحة وتخلص من غبار القاهرة فنسعد هناك في الإسكندرية برقة النسيم ومتعة النفس وراحة الجسم وهدوء القلب!

قلت لها: يا حبذا لو فعلنا، فأنا في حاجة إلى أن يستجم جسمي من عناء العمل وأن ينفض عقلي شواغل الحياة؛ ولكنك ولا ريب تعلمين أنني عبد الوظيفة تقيدني بأغلال لا أستطيع منها فكاكا إلا أن يرضى الرئيس

قالت ومتى يرضى الرئيس؟

قلت: حين يخلص من تاريخه. . . تاريخ الذل الذي عاش فيه سنوات وسنوات فسرى في عروقه فاختلط بدمه فلا يجد منفذا إلا أن يتدفق كبرياء مصنوعة يضرب بها مرءوسيه في غير حق ولا سبب.

قالت: إذن أسافر أنا معهم وتلحق أنت حين تجد الفرصة قلت وكيف يكون ذلك ونحن زوجان لم نفترق مرة واحدة منذ سنوات سبع؟ لقد محت هذه السنوات الطوال من نفسي آثار العزوبة فما أستطيع أن أهيئ لحياتي حاجاتها ولا أن أسكن إلى دار تتراءى أمامي خربة خاوية تثير النفس وتزعج الفؤاد وتمض الروح

قالت لعلك نسيت أن الطبيب قد نصح بأن نبتغي لوحيدنا المريض نزهة على شاطئ بالحر ترد له نسمات الصحة وتبعث فيه روح القوة!

قلت لا لم أنس، وسنعمل حين نجد الفرصة.

قالت وماذا يضير إن أنا سافرت في صحبة أهلي ريثما تهيأ لنفسك فسحة من الوقت فتخف إلينا نقضي أياما فيها اللذة والمتعة؟

قلت: لا ضير؛ غير أني أوقن بأني سأعاني هنا - في وحدتي - ضيق النفس ووحشة الدار وجفوة العيش

قالت: ولكنك رجل تستطيع أن تحتمل وتصبر.

قلت: أأعاني أنا هنا وأصبر، وأنت هناك تستمعين؟

قال: هذا خيال شاعر فيه المبالغة

قلت: إن الزوجة - في رأيي - إنسانة خلقت لتستفرغ الجهد في أن توفر للزوج الراحة وتلتمس له الهدوء وتعينه على وعثاء الحياة وتزيح عنه ضنى العمل، فإن هي ضاقت بوظيفتها فنفرت عنها أصبحت شيئاً غير الزوجة وغير المرأة وغير الإنسانة

قالت حقا، ولكن الرجل كثيراً ما ينكر عليها إنسانيتها فيغفل حقها في أن تهفو إلى الراحة أو تحن للمتعة، فيدفعها إلى أن تسعى هي لتوفر لنفسها الراحة والمتعة

قلت: والزوجة إن سيطرت عليها الأنانية الوضيعة فقدت روح الأنوثة والإنسانية معاً، وهذه أول ضرة جاسية من معول الحمق تسددها هي لتقوض ركن الدار وتهد عمار الأسرة)

قالت (وأي أنانية في أن أطلب لوحيدنا الشفاء والصحة؟)

قلت (سنفعل معاً، ولكني أخشى أن تذهبي من دوني فتتلقفك ذئاب الشاطئ وهي منبثة على طوله)

قالت (ذئاب الشاطئ؟ إذن أنت تتهمني في عقلي وفي كرامتي!)

قلت (لا، ولكني أعرف عقل المرأة، سبرت غوره وعجمت عوده!)

قالت (وأنا فتاة - كما تعلم - سموت بنفسي عن الشبهات. صقلت علي بالعلم، وشذبت تجاربي بالمعرفة، فترفعت عن الخطأ وعلوت عقلي الزلل)

قلت في تهكم (العلم! آه، العلم!)

قالت (وماذا في العلم؟)

قلت (هو داء الغرور الذي إن دخل عقل المرأة تفلسفت فيه الفضيلة. والفضيلة - إذ ذاك - تتفلسف لتخلق مذاهب منها الثورة على طبيعة المرأة، ومنها الحرية التي لا تحدها شريعة، ومنها الشارع. . . ومهما تكن المرأة فهي خلق يبهره الألق ويهزه الإطراء وتنطلي عليه الخديعة. . .)

قالت (وهب أنني من الغرور والجهل بحيث لا أستطيع أن أمسك نفسي عن الانزلاق إلى الجريمة، فكيف يتأنى ذلك وأنا بين أهلي: أبي وأمي وأخوتي؟ هذا كلام - ولاشك تزوقه في لباقة لتصرفن عن الغاية التي أصبو إليه. . . عن السفر في رفقة أهلي!)

قلت (الغاية التي أصبو إليها. . . الغاية التي اصبوا إليها!)

وأصرت هي وأصررت

وحين احتواني الفراش اكتنفتني خواطر متناقضة سلبتني الراحة، وحدثني الشيطان حديثاً طويلا حرمني لذة النوم. وتراءى لي من خلال أخيلتي أنني إن حبست زوجتي عن (الغاية التي تصبو إليها) لا تعدم أن تجد خلاصاً فتتغفلني فتطير إلى دار أبيها تتصنع الخصام وتأبى الصلح حتى يحين موعد السفر فتنطلق في ثنايا الركب، وأنا أرى ولا أستطيع أن أمد يدي ولا لساني، فيأكلني الغيظ ويطحنني الكمد لأن فتاة من بنات حواء سخرت مني وعبثت بي. . . عبثت بي أنا، فعقدت العزم على أن أستسلم رويداً رويداً ثم أحتمل وأصبر

وانطلق الركب إلى المصيف، إلى الحياة الرفافة، إلى الحرية الحيوانية. . . انطلق ليخلفني هنا - في القاهرة - أقاسي شدة القيظ وعنت العمل وفراغ الدار وضيق النفس وشعرت - لأول مرة - أن الزوجة هي روح الدار وبهجة الحياة وسكن النفس، وأحسست - أيضاً - بأنها شيطانة دربت على أن تسلك إلى حاجتها من منافذ فيها الختل والخداع. وقضيت أياماً أسلي القلب بالعمل فما يتسلى، وأصرف الهم بالمطالعة فيما ينصرف، واختلطت عليّ أمور الحياة وأمور العمل، فانحطت قوتي ووهي جلدي وثارت جائشتي، فقر الرأي على أن أنطلق إلى زوجتي أنزعها غضباً من بين أهلها. . .

وجلست إلى نفسي - ذات ليلة - أدبر الأمر، فخيل إلى أنني مريض أتقلب على الفراش وحيداً، لا أجد اليد الرفيقة التي تؤاسي، ولا القلب الرقيق الذي يعطف، ولا الرفيق الطيب الذي يرق، فطرت إلى دار أخي أتلمس العزاء والسلوى

وفي الصباح طلبت إلى رئيسي أن يأذن فأبدا إجازتي السنوية، فأنطوي عني في إباء وصلف، فرحت أصب خواطري على قرطاس أبعث به إلى زوجي عسى أن ترتد عن الغواية أو تثوب إلى الرشد، فكتبت إليها (. . . الآن لا استمرئ الطعام ولا أستعذب الشراب ولا أحس لذة الشباب ولا متعة العافية. وأرى الدار أمامي خاوية تصفر فأهرب منها خشية أن يفجأني مرض الكلى - وأنت تعلمين أنه يعاودني بين الحين والحين - فلا أجد العون ولا الساعد ولقد ساورتني الهموم فسدت على السبيل جميعا إلا سبيلا واحداً هو السبيل إلى دار أخي فأنطلق إلى هناك علي أجد الهدوء والسلوى؛ غير أني خشيت أن يكشف عن خبيئة نفسي فيحتقر رجولتي ويسخر من ضعفي، فرجعت إلى الدار التي تقذفني بالضيق والألم فتبعثر قوتي وتبدد خواطري. وأنا ألح على رئيسي. على غير عادتي - ليأذن لي فأطير إليك. فأصم أذنيه، فهلا تزلت عن أنانيتك ساعة من زمان؟. . .)

وجاءني خطابها فاترا مقتضباً؛ فتبلبلت أفكاري واضطربت أعصابي، فذهب إلى الرئيس - مرة أخرى - ورأى في كلماتي الإصرار، وأحس في جرأتي العناد، فخاف أن ينفد صبري، فألقي السلم عن يد.

وشملتني هزة من الفرح تبدت لي الحياة من خلالها باسمة تتألق، وسرى الدم في عروقي فواراً ينفث في قوة ونشاطا فقدنهما منذ أن خلفتني زوجي هنا - في القاهرة - أقاسي شدة القيظ وعنت العمل وفراغ الدار وضيق النفس. وتراءت لي زوجتي وهي تلقاني بعد غياب دام نيفاً وثلاثين يوماً. . . تلقاني في طرب يمسح عني العناد، وتضمني في فرح يمحو عني الجهد، وتراءى لي ابني الوحيد وهو يندفع نحوي في بهجة وسرور يطوقني بذراعيه الصغيرتين ويغمرني بقبلاته الحلوة البريئة، فتأججت روحي بالعاطفة الجياشة عاطفة الزوج والأب. فرحت أهيئ نفسي للسفر وأعد لزوجي هدية جميلة وأختار لابني لعبة طريفة. . . ثم انطلق بي القطار وأنا استحثه واستبطئه وبلغت الإسكندرية لدى الأصيل

وقال لي عقلي (هذه ساعة يفزع فيها الناس إلى سيف البحر يستروحون النسمات الطرية ويتنشقون الشذا الزكي ويستمتعون بغروب الشمس حين تغرب في عين حمئة فتلفها الأمواج المضطربة بين ثناياها في رفق ولين مثلما تضم أم ابنها الوحيد في شوق وحنان. .)

فجلست في مقهى على الشاطئ أستجم من تعب، وأهدأ من اضطراب، وأعد نفسي للقيا الحبيبة، وأتصفح وجوهاً تفيض بالبشر وتطفح بالسرور، وخيالي هناك عند زوجتي، وابني لا يبرح

وحانت مني التفاته فرأيت زوجتي فهممت في نشوة أريد أن ألقاها، غير أني شعرت بأن يدا عاتية تمسكني إلى الكرسي. . . شعرت بأن يدا عاتية تدفعني عنها لأنني رأيتها تسير مع رجل غريب، جنباً إلى جنب، وذراعاً في ذراع، ووجهها يفيض بالبشر ويطفح بالسرور. . . ونظرت ونظرت

آه، يا بني، برغمي أن أفزع عن الإسكندرية ولما أتمتع بوجهك الغض الجميل وبسماتك النقية الطاهرة وقبلاتك الحارة الخالصة ونشوتك الوثابة المتألقة. وبرغمي أن أذرك بين يدي هذه المرأة. . . هذه الفاجرة!

الإسكندرية

كامل محمود حبيب