مجلة الرسالة/العدد 893/جامعة فؤاد الأول

مجلة الرسالة/العدد 893/جامعة فؤاد الأول

ملاحظات: بتاريخ: 14 - 08 - 1950


مواكب التاريخ في احتفالها بيوم اليوبيل الفضي

للأستاذ محمد محمود زيتون

يحق لكل مصري أن يفاخر اليوم بتاريخ أول جامعة مصرية انبثقت فكرتها في غمرة من الأحداث العاصفة، وأخذت تشق طريقها إلى الوجود بفضل ائتلاف عناصر الأمة، وبرغم أنف المستعمرين الذين جثموا على صدر الوادي، وكتموا أنفاسه بكابوس الاحتلال البغيض.

ولقد كان مصطفى كامل أسبق المواطنين إلى فكرة الجامعة إذ كتب في (اللواء) بتاريخ 26 أكتوبر سنة 1904 يقول (مما لا يرتاب فيه إنسان أن الأمة المصرية أدركت في هذا الزمان حقيقة المركز الذي يجب أن يكون لها بين الأمم، وأبلغ الأدلة على ذلك نهضتها في مسألة التعليم، وقيام عظمائها وكبرائها وأغنيائها بفتح المدارس، وتأسيس دور للعلم بأموالهم ومجهوداتهم، ولكن قد أن لهم أن يفكروا في الوقت الحاضر في عمل جديد، الأمة في أشد الحاجة إليه، ألا وهو إنشاء جامعة للأمة بأموال الأمة)

وانتهز مصطفى كامل مناسبة مرور مائة عام على توليه عاهل مصر محمد علي الكبير عرش البلاد (منذ 13 مايو سنة 1805) فاقترح في اللواء بتاريخ 8 يناير سنة 1905 أن تسمى الجامعة (كلية محمد علي) تخليداً لذكرى باعث النهضة العربية.

أخذت دعوة مصطفى كامل تلوح من جديد في جو كله غيوم، غبر أن روعة الفكرة، ونبالة القصد، والإيمان بالعزة والكرامة، كل ذلك جعل الأمير حيدر فاضل يحبذ الفكرة ويستنهض لها الهمم العوالي، كما أثار الأستاذ أحمد حافظ عوض على صفحات (المؤيد) مناظرة صحافية موضوعها (أي أنفع للقطر المصري في حالته الحاضرة: الكتاتيب أم مدرسة كلية عالية) وتوالت الآراء على هذه المناظرة بين التأييد والمعارضة.

ومما هو جدير بالذكر أن فكرة الاستعاضة بالكتاتيب عن الجامعة، كان مصدرها اللورد كرومر المعتمد البريطاني في مصر الذي حنق على مصر وأهلها منذ بنت في الأفق الشرقي طلائع النهضة المصرية المستنيرة، فتمكن من دفع سراة البلدة إلى إنشاء المدارس الأولية والإكثار من الكتاتيب في القرى بحجة أن الأمة أحوج إلى هذا النوع من التعلي منها إلى التعليم العالي، وظناً منا أنه بذلك يناهض الجامعة، ويقضي عليها وهي لا تزال في مهدها.

وغلب على وهم عميد الاحتلال أنه يتمتع بتأييد (أصحاب الجلابيب الزرقاء)، لكن سرعان ما تبدد هذا الادعاء المصطنع على أثر حادثة دنشواي صيف 1906، تلك الحادثة التي وجد منها مصطفى كامل مادة غزيرة يروي بها زناد جهاده في الأوساط الأوربية، ضد الإنجليز في مصر، فاستطاع الرأي العالمي أن يقف على حقيقة الاحتلال كما يعرضها زعيم الشباب كاتبا وخطيبا من غير تزويق أو تحامل وحسبه أن يعبر في صدق عما يعتلج في نفوس المواطنين من بغض لشراذم البغي والعدوان الذين يتجرون بالشعور على مسرح السياسة.

وبدأ النفوذ البريطاني يتزعزع، وظله يتقلص في غير إبطاء تحت هذه الضربات القوية التي يسددها فتى النيل المجاهد سهاما من نار، حتى أن السياسة الإنجليزية قد أدركت هذه الحقيقة مجسمة بحيث لا تقبل التحوير والتأويل مما دعا إلى ابتداع لون جديد لمعاملة المصريين بالحسنى، على أساس التوسع في سلطة الوزراء، وفك الأغلال شيئا ما، حتى يقال فيما يقال، أن الإنجليز يأخذون بيد الشعوب تدريجيا إلى أن تحكم نفسها بنفسها.

وما كانت هذه البدعة الإنجليزية لتجعل المصريين ينسون جراحات الأمس القريب، ولا لتصرفهم عن هامات دنشواي التي تصيح حول المشانق في كل صبح ومساء: اسقوني اسقوني، بل كانت أصداء مصطفى كامل تجيش بها نفوسهم، وتخفق أفئدتهم فأخذت الحيوية تدب في المصريين، فتألفت لجنة لتكريم هذا الشاب الذي رفع لواء مصر خفاقا في المحافل الأوروبية، مندداً بالاستعمار وأصحابه، والاحتلال وأسبابه، واجتمع الرأي على تقديم هدية له في حفل كبير، لقاء ما أدى للوطن من عمل يذكر فيشكر.

وعلم بذلك مصطفى كامل، فبادر بالكتابة إلى زميله محمد فريد بتاريخ 24 سبتمبر سنة 1906، وفي هذا الخطاب المفعم بالوطنية الصادقة، يعتذر عن إقامة هذا الحفل، شاكراً للجنة صنيعها، وتقديرها لجهوده في رفع لواء الوطن الذي يتآمر عليه أعداؤه في حين (أننا نطلب الحياة والدستور والحرية والعقل والروية، ونسعى إلى إسعاد وطننا بالعلم والجهاد القانوني) ويستطرد قائلا: فخير هدية أقترح عليكم تقديمها للوطن العزيز، والأمة المصرية المحبوبة هي أن تقوم اللجنة التي شكلت بدعوة الأمة كلها، وطرق باب كل مصري لتأسيس كلية أهلية تجمع أبناء الفقراء والأغنياء على السواء، وتهب الأمة الرجال الأشداء الذين يكثرون في عداد خدامها المخلصين ممن لا يخافون في الحق لو ما ولا عتابا ويعملون لمداولة أدوائها، وجمع أمرها وبث روح الوطنية العالية في كافة أبنائها. . .)

ويمضي الخطاب على هذا النحو يهدر بالوطنية، ويزخر بالإخلاص، ويجيش بالإيمان، حتى يرسو على شاطئ المعرفة التي هي دعامة الإصلاح وبداية الاستقلال.

وفي الحق أن هذه الدعوة لقيت سميعا مجيبا، فقد هزت الأريحية مصطفى كامل الغمراوي بك أحمد سراة بني سويف فوجه نداء إلى الأغنياء للاكتتاب لهذا المشروع الوطني الجليل، وافتتحه بخمسمائة جنيه، واشترط فيها اشتراط ألا تختص الجامعة بجنس أو دين لتكون بالنسبة لجميع المصريين (واسطة للألفة بينهم)

وأبدى الخديوي عباس حلمي الثاني ارتياحا لهذه الدعوة النبيلة، واغتباطا باستجابة المواطنين لها، وتشجيعا على المضي في هذا السبيل، فاجتمع بدار سعد زغلول (بك) القاضي بمحكمة الاستئناف العليا يوم 12 أكتوبر سنة 1902 رجالات القضاء والعلم والسياسة وأصحاب الجاه، منهم قاسم أمين، وحفني ناصف، ومحمد فريد، وعلي فهمي، وعبد العزيز جاويش، وفي هذا الاجتماع تألفت لجنة تحضيرية انتخب لها سعد زغلول وكيلا، وقاسم أمين سكرتيراً وتأجل انتخاب الرئيس لجلسة قادمة، وتقرر تسمية الجامعة باسم (الجامعة المصرية). وبعد ثلاثة أيام من هذا الاجتماع قدم مصطفى كامل من أوربا، فقوبل بما هو أهله من الحفاوة والإكبار، وكان لقدومه أكبر الأثر في شد أزر اللجنة وتزويدها بنشاطه الفكري والعملي معا.

كل هذا واللورد كرومر يستعلن بمحاربة فكرة الجامعة ولا يستخفي، بل يعمل جاهدا على إحباط كل المساعي التي تبذل لتحقيق ما أجمعت عليه الأمة عن بكرة أبيها، ولا سيما في هذا الوقت الذي تدهورت فيه الثقافة المصرية إلى مستوى غير لائق ببلد له رصيد موفور من الحضارة تليدها وطريفها، ومرد هذا التدهور إلى الاحتلال بأساليبه، وفرضه لغته الدخيلة على التعليم الوطني فرضا، بينما أهل البصر من المصريين يهتفون بضرورة إصلاح الأزهر، ووجوب إدخال العلوم والأنظمة الحديثة فيه، ووضع حد لتوزيع الأعمدة على الشيوخ، وتخصيص كتاب لكل شيخ، وتخيير المجاور في شيخه ليستمع إليه (كما هو الشأن في كل عام أزهري، مما لا يتمشى مع ورح العصر، ونظم لتعليم.

وتحقيقا للسياسة الإنجليزية المرسومة، كترضية مقنعة للمصريين، صدر الأمر العالي في 28 أكتوبر سنة 1906 بتعيين سعد زغلول وزيراً للمعارف، فصادف هذا التعيين (مصريا مشهوراً بالكفاءة والدراية والعلم الغزير، وحب الإنصاف والعدل كما يقول مصطفى كامل في مقاله عن سعد المنشور في لواء ذلك اليوم.

وبهذا أصبح سعد رئيساً للجنة الجامعة، واستجدت المساعي لدى الخديو لاختيار رئيس لجامعة يرضاه الخديو ولا يرفضه كرومر، وبعد التي واللتيا، وقع الاختيار على سمو الأمير أحمد فؤاد، كما تألف مجلس لإدارتها من علية القوم.

على أن جلسات اللجنة - للأسف الشديد - قد أوقفت عن الانعقاد، منذ تولي وزارة المعارف سعد زغلول، بسبب اضطلاعه بشئون وزارته، وشعر الخديو بأن المعتمد البريطاني يعرقل سير مشروع الجامعة بكافة الطرق، فتقدم أحمد شفيق باشا وإسماعيل أباظة باشا لمقابلة سعد ولإبلاغه رغبة الخديو بالا يغفل أمر الجامعة، وبأن يستمر في إشرافه عليها، فوعد بالا ينساه

وفي 30 نوفمبر اجتمعت اللجنة بدار حسن جمجوم بك أحد أعضائها وحضر سعد ليعلن انسحابه من اللجنة لكثرة أعماله التي لا تسمح له بالاشتراك في المشروع.

وشهدت مصر في سنة 1908 وعيا وطنيا جديدا يطالب بالدستور، وأخذ التنافس سبيله إلى الأحزاب على خير وجه مسنون، فلما تولى (الأمير) أحمد فؤاد رياسة الجامعة، بعث فكرتها من جديد، تلك الفكرة التي لم تخمد جذوتها على الرغم من الضغن المبيت لها بقصر الدوبارة في الظلام.

وأنتهز الأمير فؤاد فرصة زيارة روزفلت رئيس الجمهورية الأمريكية لمصر فأقام له مأدبة عشاء، ودعاه لإلقاء محاضرة بالجامعة فلبى الدعوة في 27 مارس سنة 1910، وتكلم عن أهمية الجامعة في التربية الصحيحة، وتطرق إلى مسائل تخص المصريين وحدهم دون غيرهم، فقد استنكر عليهم مطالبتهم بالدستور، وأثنى على الإدارة الإنجليزية للسودان وكال المديح للورد كرومر وسياسته في مصر، مما أثار عليه عاصفة من المعارضة في جميع الصحف حتى ناله من شاعر النيل أعنف اللوم، إذ قال في قصيدة طويلة من أبياتها:

يا نصير الضعيف مالك تطري ... خطة القوم بعد ذاك النكير

يا نصير الضعيف حبب إليهم ... هجر مصر تفز بأجر كبير

وعلى الرغم من هذا الخضم الجارف من الأحداث الجسام، توالت الاكتتابات لجعل فكرة الجامعة في نطاق الحقيقة الوجودية فتبرع الأغنياء لها بأموالهم، ووقفوا عليها الكثير الطيب من أطيانهم، وجادت أريحة سمو الأميرة فاطمة هانم إسماعيل بجواهر قيمتها ثمانية عشر ألفا من الجنيهات فضلاً عن ستمائة فدان وقفتها على الجامعة، وستة أفدنه بجوار قصرها بالدقي لإقامة المباني عليها، وكذلك الأمير يوسف كمال إذ منح المشروح مائة وخمسين فدانا، وثلاثمائة جنيه لإصلاحها. .

وتدفقت المنح والهدايا العلمية من ملك إيطاليا، وإمبراطور ألمانيا، وسلطان مراكش، كما وافقت فرنسا وإيطاليا على قبول ثلاثة من صغار الطلبة لتعليمهم بالمجان بمدارسها.

وفي 30 مارس سنة 1914 وضع الخديو الحجر الأساس للجامعة في حفل تجلت في أروع آيات الوطنية، والوحدة القومية، وألقي فيه المطرب زكي عكاشة قصيدة لأمير الشعراء أحمد شوقي بك

وتحدد يوم 4 مايو 1914 لامتحان العالمية، فتقدم الطالب المنتسب (الشيخ) طه حسين لدرجة الدكتوراه، فنالها بين إعجاب الحاضرين، وإكبار أعضاء اللجنة المشكلة لامتحانه من أساتذة الجامعة ورجال وزارة المعارف، فتقرر إيفاده في بعثة إلى فرنسا، ومثل قبل سفره بين يدي الخديو بقصر رأس التين فشجعه، وتمنى له النجاح.

ومما يدعو حقا إلى اعتزاز المصريين بذكرى الجامعة أن الروح القومية قد لازمتها من مهدها إلى رشدها، فقد عنى مصطفى كامل منذ سنة 1899 ببث التربية القومية في التعليم ووضع دستورها على أسس متينة من تعاليم الإسلامية الحنيف، ولغة العرب الأمجاد، وعوائد الشرق العهيد.

وفي مارس سنة 1907 أجمع أعضاء الجمعية العمومية مطالبة الحكومة بجعل التعليم في مدارس باللغة العربية، وإزاء هذا الإجماع الوطني الرائع، وقف الاحتلال مكتوف الأيدي، وباء كرومر وأذنابه بخيبة الأمل، حتى أسرعت حكومة بلاده إلى سحبه من مصر بعد شهر من ذلك التاريخ.

وقد أقامت له حكومة مصطفى فهمي باشا حفل توديع، خطب فيه شاكراً لأنصاره؛ غير أن استدرك فذكر فيما بينه وبين نفسه سخط الشعب عليه، فرمى المصريين بنكران الجميل، وقاتل فيما قال (إن أولاد العميان يولدون في العادة مبصرين) ولم يكتف بهذا الذم الملفوف بل رمى بآخر سهم في جعبته إذ قال: أن الاحتلال البريطاني يدوم إلى ما شاء الله، وتلك كما يقول أولي (حقائق الحالة المصرية) التي لطم بها وجوه من احتفلوا به وودعوه. . .

ومن ابرز معالم الروح القومية التي سايرت الجامعة نوع الدراسات التي احتفل بها طلابها منذ نشأتها الأولى، فقد نوقش طه حسين في موضوعات كلها تمت بصلة وثيقة إلى تراثنا المجيد وهي: علم الجغرافيا عند العرب، والمقارنة بين الروح الديني للخوارج في أشعارهم وفي كتب المتكلمين، وحياة أبي العلاء المعري.

كما أن هذه الدراسات قد جمعت بين الشرق والغرب كما يبدو من الموضوعات التي حددتها الجامعة لامتحانات سنة 1914 فقد اشتملت على آداب اللغات العربية والإنجليزية والفرنسية، وتاريخ الأمم الإسلامية، وعلم تقويم البلدان ووصف الشعوب، وتاريخ الشرق القديم، وكان أساتذتها الأوائل من أساطين العلم في فرنسا وإنجلترا، وفطاحل المصريين من أمثال إسماعيل بك رأفت (عميد الآداب) والشيخ محمد الخضري والشيخ محمد المهدي ومحمود بك فهمي.

وهكذا تحققت للكنانة رغبتها الصادقة، بفضل هذا التآزر والتعاضد بين الشعب والحكومة والعرش، فسارت سفينة الوطن بأسم الله مجراها ومرساها، وشمخ صرح الجامعة ساميا سامقاً، وكتب التاريخ في أنصع صفحاته لمصر والمصريين مجداً تحفه أعز الذكريات التي تفخر بها الأجيال المتصاعدة، فتمضي قدماً في مرقاة المدنية، وتعلوا إلى أوج الكمال.

ويحق لهذه الجامعة أن تكون (أم الجامعات) في هذا الوادي المبارك، وإنه لوفاء صادق من مصر أن تسميها (جامعة فؤاد الأول) ذلك الملك العظيم الذي نفخ في مصر من روحه الوثابة، وعزمه الطموح، فاستخلص لها حقوقها من أشداق الغاصبين، وحقق استقلالها العلمي أميراً، واستقلالها السياسي ملكاً.

واليوم إذ تحتفل مصر باليوبيل الذهبي لهذه الجامعة، ترى لزاما أن تسعد بما حققته في مدى نصف قرن من إنشاء ثلاث جامعات أخرى، اقترنت أولاها باسم المليك الشاب (فاروق الأول) وعلى يديه قامت (جامعة محمد علي) ثم (جامعة إبراهيم) وأول الغيث قطر ثم ينهمر. . .

وكأنما جاد الزمان - وهو كثير ضنين - فلم يحرم ذوي الفضل ثمار جهادهم في سبيل الوطن، فيالها من لفتة كريمة إذ يشهد معالي الدكتور طه حسين بك في هذا اليوبيل عرضا سريعا خالداً وسجلا حافلا بالمكرمات لرجل كان بالأمس (ابن) الجامعة، واليوم يصبح (أبا الجامعات)، ويجعل العلم ميسرا للناس كالماء والهواء، فتحققت له آمال كبار، وفي ذلك له وحده أولا لذة ومتاع، وللأمة ثانيا فرحة بذكرى الوحدة القومية، وللشرق أخيراً رجاء في مطلع الفجر بالحرية والنور.

محمد محمود زيتون