مجلة الرسالة/العدد 893/مأساة حيفا

مجلة الرسالة/العدد 893/مأساة حيفا

ملاحظات: بتاريخ: 14 - 08 - 1950



(من الحق أن ننعت الإنجليز بأنهم مثاليون في بلادهم، مثاليون

في قيم النزاهة، ومعايير الخلق وموازين الإنسانية والضمير.

. .

ومن الحق أيضاً أن ننعتهم بأنهم مثاليون في غير بلادهم ما مثاليون في الأنانية والجشع، وضعة الضمير والخلق، وانتفاء العدالة والإنصاف. . .)

أنور المعداوي

لعل الإنجليز أكثر شعوب الأرض أنانية وحب نفس؛ والمثل العليا والمبادئ الإنسانية وصوت الضمير ليست إلا ألفاظاً جوفاء، لا وجود لمعانيها في معاجمهم حينما تتعارض مع أنانيتهم ومصالحهم. والإنجليزي مغرق في برودة الطبع والحس والضمير، لا يعرف عدواً أو صديقاً، إنما يجري وراء رغيف الخبز كما يجري الكلب الجائع وراء من يحمل الخبز كائناً من كان.

ولعل أكثر الناس إحساساً بهذه المعاني ذلك النفر من الشباب العربي الذي تعلم في معاهد الإنجليز - ولا ندري أكان ذلك لسوء حظهم، أن لسوء حظ الإنجليز - ورآهم في صور مزيفة من المثل العليا والديمقراطية الكاذبة في بلادهم. أن هذا النفر من الشباب الذين تتلمذوا على الإنجليز وتثقفوا بثقافتهم لا يؤمنون بديمقراطية الإنجليز ومثلهم العليا. إنهم على النقيض من ذلك يرونهم محرومين من هذه المعاني حتى في بلادهم. هنالك الحواجز الفولاذية بين الطبقات في المجتمع: سيد وعبد، نبيل وخادم، تعليم محتكر لطبقة الحاكمين وتعليم لطبقة المحكومين. والقسوة والغطرسة والظلم ليست إلا صورة ثابتة لا تتغير في أخلاق الإنجليز في تاريخهم الحافل بالسيرة الحسنة في أيرلندة والهند والسودان ومصر وفلسطين، وفي كل مكان عاقب الله الناس بوجودهم فيه. أسمعت من التاريخ، بالفندال والهون والبرابرة الذين عاثوا بالحضارة الإنسانية فدمروها في مطلع التاريخ الوسط وطمسوا معالمها؟ إنهم لا يزالون يعبثون بكل ما فيهم من قسوة وبربرية وهمجية في جلود الإنجليز. ثار الأيرلنديون على الظلم زمن حكم الملكة اليصابات إبنة هنري الثامن فأرسلت إليهم جيشاً لإخماد الثورة، وحينما وصل إلى مسمعها الفظاعة التي تقشعر من هولها الأبدان والتي اقترفها الجيش مع الأيرلنديين بكت تلك الملكة وقالت كلمتها الخالدة: (حسبت أنني أرسلت إلى أيرلندا مخلوقات يتحرك فيها الشعور الإنساني، ولم يدر بخلدي أن الإنجليز ذئاب مفترسة جائعة لها جلود بني الإنسان). وذلك (ورن هاستنج) حاكم الهند العام الذي كان يؤجر الجيش البريطاني للفتك بالناس وتدمير حياتهم وإشاعة الذعر والهلع بينهم، وان كانوا أصدقاء للإنجليز!

لقد عاش كاتب هذه السطور بين الإنجليز في بلادهم، وخارج بلادهم فعرفهم حق المعرفة، ورأى وسمع واختبر وخرج من كل ذلك برأي صائب ونتيجة صحيحة، ذلك أن الإنجليز هم الإنجليز في بلادهم وخارج بلادهم. فالذهب لا يكون ذهبا في مكان ما ثم إذا انتقل إلى مكان آخر اصبح حديداً. هذه خرافة أثارتها الدعاية الإنجليزية لتستر خزيها ولؤمها وإجرامها في بقاع الدنيا، وإذا استمعت إلى الإنجليز في بلادهم وسألتهم الرأي الصحيح في (انهم مثاليون في قيم النزاهة ومعايير الخلق، وموازين الإنسانية، والضمير. . .) لشكوا في ذلك كثيراً، ولحسبوا أن غيرهم المقصود بهذه النعوت.

والإنجليزي إنسان شرس، متوحش الطبع، وقد زيف ظاهره ببرودة مصطنعة وتباله مقصود، يخيل لمن يراه أنه قديس من القديسين. وهو في بلاده مخلوق تافه حقير، وخارج بلاده إله يجلس على قمم الألب يحرم ويعطي، يرفع ويخفض، يذل ويعز. وهو في الحالتين المخلوق الذي يحمل بين جنبيه قلباً من الصوان ونفساً متعطشة للدماء.

ويحدثنا علم النفس أن الحياة لا تجمع بين قويين، فإذا كنت قويا بدا لك ذلك الإنجليزي هزيلاً حقيراً ذليلاً، وإذا ظهرت أمامه بالضعف - فالويل لك - انه يتغلب عليك في طرفة عين وكأنه وحش مفترس ينهش أحشاءك بالظفر والناب. وهو إذا أدبرت عنه تبعك، وإذا أقبلت عليه أدار ظهره إليك. هذه حقيقة لم يفهمها رجال السياسة عندنا - وهل عندنا رجال سياسة! - وقد فطن إليها أخصامنا فاستفادوا من ذلك وخرجوا بالمغانم لأممهم وقضاياهم.

ننتقل بعد ذلك إلى صورة رفيعة لعدالة الإنجليز ونبل ضمائرهم وسمو أهدافهم، وهي صورة من مأساة فلسطين. لا تتسع هذه المقالة للتفصيلات التي لا تسعها المجلات. وإنما ترسم بعض الخطوط الرئيسية رسماً سريعاً لتعين القارئ على فهم المأساة التي تقدمها مثلاً على عدالة الإنجليز.

حلم هرتسل في أواخر القرن التاسع عشر برجوع اليهود إلى أرضلميعاد، واستحال هذا الحلم على يد حاييم وايزمان - المحاضر في جماعة منشستر عام 1917 إلى وعد بلفور ذلك الوعد الذي يجمع بين الماء والنار: يعطي العرب الأمان والاستقرار في فلسطين، ويمنح اليهود دولة بكل مفهوم معاني الدولة وراء كلمات كاذبة سطرت في ذلك الوعد للخداع والتضليل. ذكر السر هربرت صموئيل - أول مندوب سام يهودي على فلسطين في مذكراته - أن اليهود طالبوا بوطن روحي وأن الإنجليز أصروا على إعطاء دولة يهودية، وقد احتج عقلاء اليهود على هذا الكرم البريطاني لعميق اعتقادهم أن إنجلترا لا تحفظ الود لإنسان في الدنيا، وإنهم إنما يدبرون كارثة رهيبة لليهود مجتمعين في مستقبل قريب أو بعيد.

وأقبل اليهود في ظل الحرب البريطانية، والعدالة السكسونية، والقوانين الظالمة، والبطش والجبروت والإرهاق بما لم يدر في خلد محاكم التفتيش - أقبل اليهود ومعهم الأسلحة، وراحوا يشيدون الثكنات الحربية والمعاقل باسم المستعمرات، ويملئونها بالأسلحة، ويؤسسون المصانع الفتاكة لإنتاج الأسلحة المختلفة، وراح الإنجليز يدربون جيشاً سرياً قوياً من اليهود، حتى إذا ما تم كل ذلك أرادوا أن يجربوا بأس ذلك الجيش، فغضوا الطرف عن إرهابية اليهود وتساهلوا حتى قتل الإرهابيون زهرة شباب الإنجليز. ولما برهن ذلك التلميذ النجيب على جدارته ودعه الأستاذ الماكر وتركه يحل المسألة بالطرق التي دربه عليها، وبعد أن وضع في يديه جميع الحلول.

وتقع مدينة حيفا على سفح جبل الكرمل على خليج عكا، وقد بنى الإنجليز جوفاً هائلا أصبح ممراً لتجارة الشرق والغرب، وانتهت إليه أنابيب الذهب الأسود من العراق يتكرر ويمد الدنيا بالوقود.

وبنى اليهود على سفح الكرمل وقمته أحدث مدينة وأجملها بالقياس إلى أحدث المدن العالمية سموها (هدار كرمل). وأقام الإنجليز في ذلك الجبل - المطل على الميناء تحصينات هائلة من مدفعية ثقيلة للمحافظة على المرفأ ورد الغزاة.

واختار الإنجليز أن تنسحب جيوشهم من مرفأ حيفا وأخذوا يتجمعون من أنحاء فلسطين ويركبون البحر، وأخذوا منطقة واسعة حول الميناء وحولوها إلى ثكنات تعج بالجنود والعتاد.

وقبل انتهاء الانتداب البريطاني على فلسطين في الخامس عشر من شهر أيار عام 1948 بأسبوعين أو ما يقرب من ذلك - راح الإنجليز يسلمون لليهود المراكز الستراتيجية المهمة قبل انسحابهم منها.

ومدينة حيفا - عروس البحر الأبيض المتوسط التجارية - كانت غاصة بالعرب وتجارتهم، وكان يسكنها مالا يقل عن ثمانين ألفا منهم. وكانت البضائع المكدسة على أرصفة الميناء للتجار العرب لا تقل أثمانها عن عشرين مليونا من الجنيهات، وكان العرب يملكون في تلك المدينة من نقود ومتاع ومجوهرات بما نقدر قيمته بثلاثمائة مليون من الجنيهات.

وأقبل المساء - ذات ليلة - وأقفل العرب حوانيتهم - وقد كان كاتب هذه السطور شاهد عيان في تلك الأمسية - وعادوا إلى منازلهم وناموا آمنين، لأن الجيش البريطاني بكل قوته يجاورهم في الميناء.

وفي الساعة الرابعة صباحاً أو ما يقرب من ذلك، سلم الإنجليز لليهود المواضع الحربية المهمة التي كانوا يحتلونها في المدينة وعلى جبل الكرمل بكل ما فيها من عتاد، وانسحبوا سراً في هدوء تام إلى منطقة الميناء وجلسوا يشاهدون التمثيلية.

وأوعزوا إلى اليهود، فراحت عشرات الألوف منهم، وقد حملت الأسلحة الفتاكة والأوتوماتيكية، تشد أزرها المدفعية الثقيلة التي وضعت لرد الغزاة عن الميناء - راحت المدفعية الثقيلة واليهود يشنون هجوماً مركزاً وحشياً على العرب النائمين في بيوتهم وما هي إلا لحظات حتى كانت الأحياء العربية بأسرها أتوناً يحترق. وأفاق من الناس مذعورين وراحوا يتراكضون إلى الشوارع عراة كما كانوا في فراشهم، وأخذ اليهود يفتحون لهم الطريق إلى الميناء بالرصاص ليموتوا غرقا - كل ذلك والجيش البريطاني يشاهد المأساة - مأساة ثمانين ألفاً من النساء والأطفال غير المسلحين يذبحون ذبح الماشية، فكان منظر نيرون وهو يشاهد روما بعد أن أمر بحرقها، أكثر إنسانية من منظرهم وتسامع العرب في المدن والقرى المجاورة بمأساة إخوانهم فهرعوا من كل فج عميق فوجدوا الطرق المؤدية إلى المدينة قد سدتها دبابات الجيش البريطاني الثقيلة، وراحت تطارد النجدات العربية برصاصها وتؤكد لهم أن الجيش في المدينة قابض على ناصية الأمن، وأن ليس في المدينة أي شيء يستوجب القلق والاضطراب، فعادت الجماهير على أعقابها مرغمة وهي تؤمن بصدق ما قيل لهم.

هذه هي المأساة التي شاهدها أكثر من أربعين ألفاً من الجنود البريطانيين، وهم يرون أمام أعينهم النساء والأطفال يجندلون ويحرقون وهم لا يحركون ساكناً، وكانوا إلى جانب المأساة ثملين يغنون على أشلاء الأطفال والنساء والشيوخ ويراقصون الفتيات الإسرائيليات، ويفتكون بأعراض الفتيات العربيات المذعورات اللائى خرجن من مخادعهن نصف عاريات.

بغداد

(أمير)