مجلة الرسالة/العدد 894/- الغزالي وعلم النفس

مجلة الرسالة/العدد 894/- الغزالي وعلم النفس

ملاحظات: بتاريخ: 21 - 08 - 1950



للأستاذ حمدي الحسيني

العقل

بينا في المقال السابق أن الغزالي رحمه الله لم يستطع أن يحل عقدة النفسية بالتأمل الذاتي فأنقلب ذلك التأمل مرضاً نفسياً مستعصياً وهو ما يسميه علماء النفس المعاصرون بمرض (التأمل الذاتي المستمر).

فزاد ذلك التأمل المستمر في آلامه وضاعف في شقائه وعذابه ولكنه على كل حال كان مؤمناً بضعفه أمام عظمة الله فخاف عذابه ورجا ثوابه فخضع لسلطانه الخضوع المطلق، وأنقاد لأوامره الانقياد الأتم. وقد دفعه هذا اليقين إلى العمل في سبيل نقل آرائه وأفكاره إلى المسلمين ليكون بها في نفوسهم إيمانا كإيمانه، ويقيناً مستولياُ على القلوب كيقينه، فكان له في هذا السلوك تنفيس وتسنام كانا سبباً في احتماله العظيم لمضاضة الحرمان وغضاضة الانزواء والنسيان. وليس من شك في أن أحسن أنواع سلوكه رحمه الله هو كتابة هذه الكتب الكثيرة القيمة. التي أودعها تجاربه وآراءه وأفكاره ومعتقداته لا سيما كتابه النفيس القيم - أحياء علوم الدين - الذي نعتبره من أثمن الكتب الإسلامية في الدين والآداب والأخلاق والتربية وعلم النفس. فقد دون فيه فصولاً متعددة لنتائج تأملاته الطويلة بدأ بعضها بألوان متألقة منسقه وبعضها الآخر بألوان متنافرة مختلفة. فكان في تدوينها خير للعلم وموعظة حسنة للتحليل النفسي والتأمل الذاتي.

ولنأخذ الآن بعد هذه المقدمة كتاب الأحياء الذي أودعه الغزالي نتيجة مجهوده الفكري وصفاوة تأمله النفسي فندرسه دراسة تصل بها إلى ما رمينا إليه من غرض، والله الموفق لما فيه الخير.

لا يزال علماء النفس مختلفين في ما هية العقل وحقيقته فلهم آراء كثيرة متضاربة ولكنهم جادون في البحث عن هذه الحقيقة. ونحن وإن كنا لم نقف لعلماء النفس إلى رأي إجماعي في موضوع العقل. فقد رأيناهم يعتبرون اللاشعور أو العقل الواعي بمثابة أجزاء للعقل، فالعقل في نظرهم هو اللاشعور بخيره وشره وهو الشعور بحلوه ومره.

ليس فيه هذا شيء غريب ولكن الغريب كل الغرابة أن يتفق رأي الغزالي في العق آراء علماء النفس في العصر الحاضر.

فإننا نراه يتحدث عن اللاشعور ووحيد الشعور وشبه الشعور والشعور أو العقل الباطن والعقل الواعي كأجزاء للعقل. يقول في الباطن الجزء الأول من أحياء علوم الدين في بيان حقيقة العقل وأقسامه.

(أعلم أن الناس اختلفوا في حد العقل وحقيقته وذهل الأكثرون عن كون هذا الاسم مطلقاً على معان مختلفة فصار ذلك سبب اختلافهم. والحق الكاشف للغطاء فيه أن العقل اسم يطلق بالاشتراك على أربعة معان كما يطلق اسم العين ثملاً على معان عدة وما يجري هذا المجري فلا ينبغي أن يطلب الجميع أقسامه حد واحد بل يفرد كل قسم بالكشف عنه (فالأول) الوصف الذي يقارن الإنسان به سائر البهائم، وهو الذي استعد به لقبول العلوم النظرية وتدبير الصناعات الخفية الفكرية وهو الذي أراده الحرث أبن أسد المحاسبي حيث قال في حد العقل أنه غريزة يتهيأ بها أدراك العلوم النظرية وكأنه نور يقذف في القلب يستعد لإدراك الأشياء (والثاني) العلوم التي تخرج إلى الوجود في ذات الطفل المميز بجواز الجائرات واستحالة المستحيلات كالعلم بأن الاثنين أكثر من الواحد وأن الشخص الواحد لا يكون في مكانين في وقت واحد (والثالث) هو انتهاء قوة الغريزة إلى حد معرفة عواقب الأمور وقمع الشهوة الداعية إلى اللذة العاجلة وقهرها. وهو الأسس والمنبع، والثاني هو النوع الأقرب إليه، والثالث فرع الأول والثاني والرابع هو الثمرة الأخيرة والغاية القصوى. والأولان بالطبع والأخيران بالاكتساب. ولذلك قال علي كرم الله وجهه

رأيت العقل عقلين ... فمطبوع ومسموع

ولا ينفع مسموع ... إذا لم يك مبطوع

كما لا تنفع الشمس ... وضوء العين ممنوع

نرى الغزالي في هذا القول قد رتب صفات العقل ترتيباً بديعاً وافق ترتيب علم النفس الحديث موافقة تامة. فقد جعل القسم الأول والثاني من أقسام معاني العقل يقابلان اللاشعور ووحيد الشعور. وقد وصفها بأنها الأسس والمنبع المتكونان بالطبع، أو هما العقل المطبوع الذي يقابل ما يسميه علم النفس الحديث بالعقل الباطن. وجعل القسم الثالث والرابع في مقابل شبه الشعور والشعور فقد وصفها بالثمرة الأخيرة والغاية القصوى للمعرفة التي تأتي بالاكتساب، أو هما العقل المسموع الذي يقابل ما يسميه العلم الحديث بالعقل الواعي. وواضح من تقسيم الغزالي العقل أنه يعتبر العقل هو المعرفة المتكيفة التامة، ولهذا بدأ في تقسيمه بأول درجات المعرفة وهي المعرفة الغريزية ثم ارتقى منها إلى ما بعدها من المعرفة المكتسبة. وقد أشبه الغزالي في تقسيمه هذا بعض المعاصرين في تقسيمهم العقل إلى أربعة عقول وهي العقل الحيواني والعقل الإنساني الهمجي والعقل الثقافي القديم والعقل الثقافي الحديث.

وننتقل الآن بعد الذي قدمناه عن العقل عند الغزالي إلى الأجزاء التي يتألف منها كل قسم من الأقسام الأربعة للعقل وهي في نظر الغزالي ثلاثة: (العلم والحال والعمل. فالشعور واللاشعور بل كل عملية عقلية تتكون عند الغزالي من هذه الأجزاء الثلاثة. وهذا ينطبق تمام الانطباق على ما يقوله علماء النفس المعاصرون في هذا (الموضوع يقولون: أن الشعور أو اللاشعور بل كل عملية عقلية تتألف من ثلاثة مظاهر أساسية وهي الإدراك أو المعرفة، أو الوجدان والعاطفة؛ والنزوع أو المحاولة، فالإدراك هو مجرد علمك بما في نفسك من الخواطر أو بما يحيط بك من الأشياء من غير أن تنفعل أو تتأثر. والوجدان هو ما تجده في نفسك من لذة أو ألم يصحب الإدراك أو النزوع. والنزوع هو محاولة أو جهد يبذله الإنسان ليستديم الارتياح الذي وجده أو يبعد عما شعر به من ألم وضيق.

نرى في هذه المقابلة توافقاً تاماً بين تحليل الغزالي للعملية العقلية التي يتألف منها كل قسم من أقسام العقل والتحليل الحديث.

فالعلم عند الغزالي هو الإدراك أو المعرفة. والحال عنده هو الوجدان أو العاطفة أي الحال الذي كون عليه المتأثر المنفعل بعاطفته ووجدانه. والعمل عند الغزالي هو النزوع والمحاولة.

وننتقل بعد هذه المقابلة بين أجزاء العلمية العقلية التي يتألف منها الشعور واللاشعور عند الغزالي وعلم النفس الحديث إلى الجزء الأول من أجزاء هذه العملية العقلية وهو (العلم) أو المعرفة أو الإدراك لنرى ما عند الغزالي في هذا الموضوع فنقابله بما عند علم النفس عنه.

وهذا ما سنقوم به في المقال القادم أن شاء الله.

حمدي الحسيني