مجلة الرسالة/العدد 895/شاعر المعلمين
مجلة الرسالة/العدد 895/شاعر المعلمين
للأستاذ من أن يسهم في الدعوة إلى العلم ميلا)، فلا مناص من مجابهة
الواقع المرير، محمد محمود زيتون
حقيقة أجمع عليها كل من تعرض لأمير الشعراء بنقد، سواء كان له أو عليه، تلك هي أنه كان من (شعراء القمة) الذين سمت نفوسهم إلى المثل العليا، يقبسون منها لأوطانهم ما تستضيء به في حالك الأيام، ومد لهم الخطوب، فيطرحون عنها الألم الباهظ؛ ويبعثون فيها الأمل الجميل.
بلغ شوقي من الثقافة والرهافة ما بلغ، فحز في نفسه أن يرى الجهل فاشياً في أمته، فلا أقل بهذه الصرخة المدوية: لأن (الجهل لا تحيا عليه جماعة) ولأننا نخطو في العلم إصبعا (إن مشت الممالك
تلك الكفور وحشوها أمية ... من عهد خوفو لم تر القنديلا
وعار على أمة آباؤها وأجدادها بناة المسلة والأهرام، وأبناؤها متخلفون عن الإنشاء والإبداع و (لا يحسنون لإبرة تشكيلا)، فيكون حالهم في الحياة أقرب إلى الحيوانية منه إلى الإنسانية، وأصحاب المصالح والأغراض يستخدمونهم كالأنعام، ويستغلون جهلهم كأنهم آلات جامدة.
وشوقي - إذ تستوقفه هذه المشكلة - يلتمس لها أقرب الحلول حسبما يمليه منطق الفيلسوف المجرب، ووفق ما تفرضه طبائع الأشياء. فيتجه من اقرب طريق إلى المعلم الذي يكاد في نظره أن يكون رسولا، ولم لا وهو (الذي يبني وينشيء انفساد عقولا) وحسبه شرفاً أن الله تعالى خير معلم وأنه سبحانه أخرج العقل من الظلمات وهداه إلى النور، وطبعه بيد المعلم (تارة صدئ الحديد وتارة مصقولا)، وأرسل الأنبياء الكرام مرشدين إلى الخير.
فما بال الشرق حيل بينه وبين شموس المعرفة ومشاعل الهداية؟ لقد (فقد المعلم نفسه) واصبح الذين يحمون حقيقة علمهم معذبين في الأرض، وعلى رأسهم فيلسوف اليونان الأول سقراط:
سقراط أعطى الكأس وهي منية ... شفتي محب يشتهي التقب ومع ذلك فليحتمل المعلمون عنت الأستبداد، وليكونوا من البطولة والشجاعة، بحيث لا يكون في الناس أبطال غيرهم، بل ينعى شوقي على (شجعان العقول) قلتهم بين الشجعان، ممن تصرعهم دنيا المستبد، ويستعذبون (فيها العذاب وبيلا).
ولا غرو إذا كان المعلمون أحق الناس بحمل الأمانة في سياسة الناشئين، وتعليم الشباب المأمول لرفعة الوادي وإعالة شانه.
وأمير الشعراء في هذا المضمار صاحب فلسفة، لها مبرراتها ودواعيها، ولها منهاجها وغايتها، فإذا تساءلنا: ما هي الرسالة التي يريد شوقي للمعلمين أن يؤدوها؟ أهي العلوم والفنون وما تتطلبه الحضارة الحديثة من ضروب العرفان؟ أم هي الفضيلة التي هي قوام الفرد والمجموع؟ أم في شيء آخر غير هذا وذاك؟
وهنا تحتل الطرافة مكانتها من فلسفة شاعر المعلمين إذ أنه لا يبعد عن الفلك الذي يدور فيه، ولا يستلقي للتيار الجارف لأفكار العامة، كما أنه لا يرضى لنفسه أن يكون من أولئك الذين يجترون غذاء من سبقوهم.
آية ذلك، أنه ما دام الجهل والجهلاء سبباً في استبداد الطغاة، وضياع الأمم، وما دام الاضطهاد قد لازم الفلاسفة والدعاة والمرسلين، فلا غرو أن يكون (العدل) أولا وبالذات هو الرسالة الأولى التي يجب على المعلمين الاضطلاع بها
ربوا على (الإنصاف) فتيان الحمى ... تجدوهمو كهف (الحقوق) كهولا
فهو الذي يبني الطباع (قويمة) ... وهو الذي يبني النفوس (عدولا)
ويقيم (منطق) كل أعوج منطق ... ويريه رأيا في الأمور أصيلا
وإذا المعلم لم يكن (عدلا) مشى ... وروح العدالة في الشباب ضئيلا
من هنا كان شوقي صاحب فكرة أصيلة، وزعيما من زعماء الرأي في الإصلاح الاجتماعي. ونقلوها في غير حرج أنه في هذا الباب أقرب إلى الفلاسفة منه إلى الشعراء، بل أنه باتخاذه هدفا لا يحيد عن التصويب إليه، والحرص على تدعيم جوانبه، يعد فلتة من فلتات النبوغ، لم نعهد مثيلاً له في تهاويل الشعراء، ولا في مدارج الفلاسفة.
وفي الحق أنه سلك بتأمل الشاعر، نهج الفيلسوف وإلا فكيف يصح في الأذهان أن نطلب من المعلم جيلا سليما كاملا متكاملا، والمعلم نفسه موزع القوى، مشتت الملكات،؟ وهل الفضيلة إلا العدالة؟ وهل العدالة إلا وسط بين إفراط وتفريط؟
لهذا كان إعداد المعلم أول مطلوب:
ورب معلم تلقاه فظا ... غليظ القلب أو فدما غبيا
إذا أنتدب البنون له سيوفا ... من الميلاد ردهمو عصيا
إذا رشد المعلم كان (موسى) ... وإن هو ضل كان (السامريا)
هذه هي مؤهلات المعلم لحمل الرسالة المنوطة يه. وعلى صاحب الرسالة أن ينهض بين العواصف والزوابع، وعليه أن يحتمل كل ما سيلقي في سبيلها، بل من حقها عليه أن يكون إيجابيا لا سلبيا، فإذا طغى الظالمون قلوبهم، وإذا استحكم الظلم ناضل وكافح حتى يهزمه، رائده الجهر بالرأي، في حرية وطلاقة:
ورب تعلمين خلوا وفاتوا ... إلى الحرية انساقوا هديا
أناروا ظلمة الدنيا وكانوا ... لنار الظالمين بها صليا
وإذا لم يكن المعلمون وراد الحق، وضحايا الحرية، فماذا بقي لهم من مهمة؟ وليس شوقي ممن يلقون القول على عواهنه، ويضربون في الخيال إلى المثل الصعبة والمعاني الجامدة، لذلك لم يكلف المسلمين شططا، ولم يطلب إليها أداء ما لا يطيقون: فإنه ليعلم أن الأمهات في البلاد المتحضرة بما عندهن عن ثقافة واستعداد يساعدن المعلمين على مهمتهم في التربية، وبذلك يكون الناشئ وديعة مشتركة بين المنزل والمدرسة، وما كذلك الحال في مصر، لهذا هو يعذر المعلمين، ويرى عبئهم ثقيلا، وعملهم شاقا إذ فقدوا من يعينهم على الاضطلاع به:
وجد المساعد عيركم وحرمتمو ... في مصر عون الأمهات جليلا
وإذا النساء نشان في أمية ... وضع الرجال جهالة وخمولا
ويضع شوقي للمعلمين (خط السير) الذي يتبعه الناشيء من بيته حتى يصير مواطنا نافعا، يشارك في مجتمعه إذ يقول:
فرب صغير قوم علموه ... سما وحمى المسومة العرابا
وكان لقومه نفعا وفخراً ... ولو تركوه كان أذى وعابا
فعلم ما استطعت لعل جيلا ... سيأتي، يحدث العجب العجابا ولا ترهق شباب الحي يأسا ... فان اليأس يخترم الشبابا
ويناشد الشعب المصري ألا يبعثوا للبرلمان - وهو مرآة الشعب - جهولا، لأن التمثيل النيابي لا يكون كاملا، إذا كان الممثل ناقصاً.
فادعوا لها أهل الأمانة واجعلوا ... لأولى البصائر منهمو التفضيلا
وأولو البصائر الذين يعنيهم شاعرنا، ليسو إنصاف المتعلمين، الذين يكتفون من العلم بما يغني عن استقراء خطاب، واحتساب قروش، وصدق في المعنى رواية شوقي، علي الجارم
إذ يقول:
أنا في أمة جدول الضرب ... طغى سيله على الأذهان
إن رأوا صفحة بها بيت شعر ... تركوه يبكي على كل بان
وكان الله في عون أمة طغى (جدول الضرب) على أذهان معلميها، فلم يعد فيها المعلم إلا حاسبا لما ياخذ، غير محاسب على ما يعطي، وهذا هو ما يجب أن نتداركه قبل أن يفلت الزمام
محمد محمود زيتون