مجلة الرسالة/العدد 896/القصص

مجلة الرسالة/العدد 896/القصص

ملاحظات: من غير عنوان Без заглавия هي قصة قصيرة بقلم الكاتب الروسي أنطون تشيخوف. نشرت هذه الترجمة في العدد من مجلة الرسالة والذي صدر بتاريخ 4 سبتمبر 1950



قصة من دون عنوان

مترجمة عن تشيكوف

بقلم الأديب كارنيك جورج

تشرق الشمس عند الصباح، فتقبل أشعتها الأنداء ن وتعيد إلى الأرض الرونق والبهاء، فيمتلئ الجو بترانيم البهجة والآمال. وما إن يأتي المساء فتغرب الشمس حتى تلتف الأرض بالسكون وتغرق في لجة الظلام.

هكذا الأيام تمضي أبداً متشابهة، وبين حين وآخر تهب العاصفة أو يقصف الرعد أو يدوي صوت تهاوى نجم من نجوم الفلك، أو ينطلق أحد الرهبان في ليخبر رفقاءه عن نمر شاهده قرب الدير! وهذا أغرب ما يحدث. . ثم تتابع الأيام متشابهة. .

كان أكبر الرهبان في الدير يحب العزف على القيثار وقرض الشعر اللاتيني في إجادة فائقة. وحين يعزف على قيثاره يخلب الباب سامعيه من الرهبان، حتى أن الذين أضعفت الشيخوخة حدة أسماعهم كانت الدموع تتبلور في مآقيهم عند سماعه. وفوق هذا يمتاز هذا الأب بظاهرة أخرى، فهو إذا تحدث ملك المشاعر وجذب الأسماع حتى ولو تحدث في أتفه الأشياء. إذ تتغير سحنته حتى تبدو كأنها تفصح عما يريد قبل أن يقول ما يريد بلسانه. فيحمر وجهه، وترتفع نبرات صوته، فيصمت الرهبان مأخوذين، وهم يشعرون بسيطرة هذا الأب عليهم، ولا يريدون منها خلاصاَ، بل يتركون زمام أنفسهم لصوته كيفما يريد.

في بعض الأوقات يدب الملل في قلوب الرهبان، ويسأمون رؤية الأشجار والورود، والخريف والربيع، وتمل أسماعهم هديل الطير وخرير الماء، بيد انهم لا يسأمون غناء هذا الأب ولا يملون أحاديثه!

مضت أعوام كثيرة والرهبان يعيشون حياة مستقرة ولا جديد فيها. في ديرهم البعيد عن مساكن الأحياء بمقدار سبعين ميلاً أو أكثر. لذا فلم يقترب من الدير غير الطيور البرية والحيوانات المختلفة، أما أبناء آدم فلا يقترب منهم إلا من زهد في الحياة وتاق إلى تلك الحياة الشبيهة بالموت.

في ذات ليلة ردد الدير صوت دقات على الباب! فإذا رجل يدلف إلى الداخل؛ فتبين الرهبان من منظره أنه من المدينة، وانه من محبي تلك الحياة الصاخبة فاشتد عجبهم وقبل الصلاة والتماس بركات الأب الأعلى طلب الرجل بعض الطعام والنبيذ، فأتوا له بما طلب، وإذ سألوه عن سر قدومه إلى الدير، قص عليهم قصة طويلة. ذكر فيها أنه خرج للصيد فأمعن في السير أوغل في الصحراء حتى ضل طريقه، واهتدى إلى الدير. وإذ ذاك شرع الرهبان يرغبونه في البقاء معهم، بيد أنه أجابهم وهو يبسم:

- أنا لا أصلح لهذه الحياة

وبعد أن أكل وشرب، نظر حوله وتأمل الرهبان القائمين على خدمته ثم هز رأسه وقال: - أنكم أيها الرهبان ليس لكم غير الأكل والشرب، والصلاة والعبادة. فهل هذا هو سبيل الحياة؟ وهل بهذه الطريقة تريدون محاربة الشر والرذيلة؟ وانتم منزوون في هذه الصحراء؟. . . فكروا قليلا في وضعكم الحالي، فأنتم تقيمون بعيداً لا يشغل بالكم شيء تأكلون وتشربون وتمرحون، وتعيشون سعداء في حين يتردى سائر الناس في المهالك، ويتعثرون في طريق الرذائل، ويمضون وراء الشيطان ذلك الذي تحاربونه! ينبغي لكم أيها الآباء أن تمضوا إلى داخل المدينة، وتقفوا بأنفسكم على ما يحدث فيها. إنكم سترون الجائعين والمساكين إلى جانب الناعمين المترفين الذين يتهالكون على الرذائل والفجور! حتى لقد خمد في قلوب الناس نور اليقين فخلت نفوسهم من الأيمان! من المسئول عن هذا كله. ومن الذي يجب أن يرشدهم ويهديهم إلى السبيل القويم؛ أنا لا، بالطبع، فأنا مثلهم ولست ارفع منهم أبداً.

ارتفعت كلمات الرجل الغريب جارحة ساخرة. فأثرت تأثيراً كبيراً في نفس الأب الأعلى. فتغير لون وجهه وقال يخاطب الرهبان:

انه يقول الحق أيها الإخوان، فالواقع أن الناس هناك قد ضعف إيمانهم بالله، فانغمروا في الخطايا، فيجب أن أذهب إليهم واقوي إيمانهم واذكرهم بأقوال المسيح عليه السلام)

وفي اليوم التالي تناول الأب الأعلى عكازه وودع أصحابه وتلمس الطريق إلى المدينة؛ تاركا سائر الرهبان محرومين من شعره وموسيقاه وأحاديثه الطلية، فقضوا شهراً مملا مضجراً، ثم قضوا شهراً آخر دون أن يعود إليهم الأب الأعلى حتى كادوا ييئسون من عودته، وبعد انقضاء ثلاثة اشهر ردد الدير صوت دقات الباب فهرع الرهبان إليه، وأحاطوه من كل جانب يسألونه ويستفسرون عن سبب تأخره ولكنهم فوجئوا إذ رأوه يبكي. . دون أن ينبس ببنت شفه! وكأن في وقفته وفي هيئته يبدو كأنه غاب سنين عديدة وانه عاد بالرغم عنه ولكن الرهبان لم يفطنوا إلى ذلك فبكوا لبكائه وترفقوا في التحدث معه، فإذا هو ينسل من بينهم، ويدخل صومعته الخاصة، ويبقي سبعة أيام فيها دون أن يأكل أو يشرب ودون أن يقطع عن البكاء. وكان طيلة تلك المدة يقابل توسلات الرهبان بالإعراض والصمت. بعد ذلك خرج إليهم وتوسطهم ثم طفق يروي لهم ما شاهد في المدينة، ووجهه يعبر عن حزن عميق قال لهم أنه حين فاق الدير صافح أذنيه صوت الطيور التي أنشأت تغني له وتتطاير حوله، فجاشت في نفسه أحلام الشباب وآمال الصغر، فراح ينظم الشعر ويغنيه. وهو يخال نفسه جندياً يذهب إلى معركة الفوز فيها مضمون لا شك فيه. حتى أنه لم يشعر بأي تعب عندما دخل المدينة. . .

وخفت صوته ولاح بريق الحنق في عينيه عندما أخذ يتحدث عما لاحظ في تلك المدينة، وقال أنه رأى ما لم يكن يتصور أبداً طيلة حياته. فقد بدت له قوة الشيطان بأوضح معالمها. . . وتكشفت له فتنة الشر وتوقف على ضعف الإنسان وحيوانيته وجنونه. . .

فقد دخل أول ما دخل المدينة أحد البيوت التي تعج بأوضع الرذائل! فرأى نحو خمسين رجلا يأكلون ويشربون بنهم شديد وإذا لعبت الخمر برؤوسهم أرتفع أصواتهم تضج بأغنية مثيرة الكلمات وقحة المعاني! فبدوا للراهب الزاهد كأنهم لا يخافون الله ولا الشيطان ولا حتى الموت! فيغرقون في المجون إلى أبعد حد ممكن.

حتى النبيذ بدا للراهب كأنه يبسم لابتساماتهم. ويضحك لضحكهم وانه يشاطرهم ذلك المجون السائر الوضيع. فقد كان يزداد إشراقاً ولمعاناً كأنه يشعر بالفتنة الكامنة في أعماقه. فلا بد أنه كان حلو المذاق لذيذاً؛ يسطع بالروائح الذكية.

استشاط الأب الأعلى غضبا وانقدت عيناه واستطرد يقول أن ثمة امرأة نصف عارية وقفت وسط أولئك السكارى تتضاحك وتتراقص وتكشف عما أمر الله بستره، وتبدي جمالها الرائع وكانت سمراء اللون ممتلئه الشفاه لا تعرف اسم الحياء ولا معناه تتضاحك في وقاحة كأنها تقول (أيها الناس لا تخجلوا، إن حجابي فريد في نوعه) ثم راحت تشرب الخمر وتغني وتمنح نفسها لكل من يمد يده إليها.

توقف الأب الكهل، وهز قبضة يده وشرع يصف ساحات سباق الخيل ومصارعه الثيران ودور التمثيل وأماكن الرسامين الذين يرسمون النساء العاريات كما ولدنهن أمهاتهن. . واستمر يتكلم بلهجة متدفقة ساحرة الجرس، حتى جمد الرهبان وتملكهم تلك السيطرة التي تتملكهم كلما سمعوا أحاديث هذا الأب. . . وبعد أن تكلم الأب الأعلى عن أوكار الشياطين وأماكن الشرور أو بين جمال المرأة المخيف المريع، وعاد يسب ويشتم أو يصب اللعنات على الشيطان مصدر كل هذا الوبال. , ومن ثم قام ودخل صومعته وأقفل الباب خلفه!

وعندما ما فتتح الباب وخرج من صومعته في صباح الغد بحث عن إخوانه الرهبان فلم يجد لهم أثراً. فقد هرب الجميع إلى المدينة!

بغداد

كارنيك جورج