مجلة الرسالة/العدد 899/بمناسبة ترميم مسرح الأزبكية

مجلة الرسالة/العدد 899/بمناسبة ترميم مسرح الأزبكية

مجلة الرسالة - العدد 899
بمناسبة ترميم مسرح الأزبكية
ملاحظات: بتاريخ: 25 - 09 - 1950



بناء المسارح الحقيقية

للأستاذ يوسف الحطاب

كان انصراف الممثلين فجأة عن المسرح واشتغالهم بالسينما وتحويل بعض المسارح إلى دور عرض سينمائية بغية الكسب المادي - من الظواهر الغربية التي سجلها النقد الفني في السنوات الخمس الأخيرة. والمسرح - ككل فن - حين يفقد رجاله والإطار الذي يقدم من خلاله، فإنه يفقد كل شيء ولا يعود له أمل إلا في حركة قوية ترد الأمور إلى ما كانت عليه، باعتبار أن ما لحقه طفرة غير طبيعية. ولهذا السبب لم يمض وقت طويل على هذه النقلة المفاجئة من المسرح إلى السينما إلا وقد ألمت بالسينما نكسة أفسحت الطريق أمام المسرح وجعلت الأنظار تتجه إليه من جديد والجهود تبذل للنهوض به. فأنشئ المعهد العالي لفن التمثيل لتخريج فنانين يمثلون على خشبة المسرح ونقاد ومؤلفين يخدمونه بأقلامهم. وبحث هذا الجيل الجديد عن مجال مسرحي يصرفون فيه نتاجهم الفني فلم يجدوا أمامهم من دور المسرح سوى دار الأوبرا ومسرح الأزبكية. والدار الأولى - كما يدل أسمها - لا تصلح إلا لنوع معين من التمثيليات هو الأوبرا أو الأوبريت، والمسرح الثاني لم تقدم عليه حتى اليوم مسرحية ذات قيمة من الوجهة الفنية لعجز وسائله عن تقديم مسرحية كاملة؛ والمسرحان بوجه عام لا يتناسبان وطبيعة الفن الحديث. ومن هنا كان لابد - وقد عاد للمسرح الفنان الذي افتقده، وتوفر له جيل جديد من الممثلين - أن نرى عكس ما حدث أثناء الحرب، فأخذت دور السينما تتحول إلى مسارح وفتحت أبوابها لهذا الفنان الجديد.

وكنا نظن أن هذا الجيل سيثبت وجوده المتميز عن وجود غيره، ويشعر المسئولين أنه نوع آخر ممتاز ويدفعهم إلى إيجاد مسارح جديدة، تمكنه من تحقيق فنه، حسب الاتجاهات الفنية المعاصرة - خاصة وأن هناك تباشير ميل إلى تعديل بناء المسارح القائمة أو هدمها وبناء مسارح جديدة. لا أن يقف عند هذه المسارح غير الحقيقة والتي لا تحمل من سمات المسرح سوى الاسم المجرد فحسب. ولنضرب مثلاً بأكبرها (دار الأوبرا) فهي لا تعدو أن تكون بهواً مستطيلاً في نهايته ممثل ضيق وعلى جانبه شرفات متراكمة فوق بعضها؛ وسواء جلست في البهو أوفى إحدى الشرفات، فأنت حتما متجه ببصرك إلى الممثل وما سيجري فوقه، دون إحساس بالجماعة التي أنت فرد منها؛ والتي أنت جالس بينها وستخرج بعد قليل لتنضم إليها وتعيش في كنفها. هذا هو المسرح الذي نفجر به. مسرح مغلق حينما تجلس فيه تصاب باستغلاق فكري ونقص، يحولان دون كمال استمتاعك بما يمثل فيه من مسرحيات. وقل هذا عن بقية مسارحنا لأنها صورة مصغرة منه.

ونحن حين نطالب بتغيير هذه المسارح المغلقة بأخرى مفتوحة نريد مسارح حقيقية ليس فيها مظاهر الاستقلال البادية في المسارح القائمة الآن. وإذا كنا نربط بين ضرورة إجراء هذا التغيير وبين اتجاهات هذا الجيل الجديد من الممثلين، فليس معنى هذا أنه لم يكن عندنا ممثلون من قبل وإلا كنا كمن يجافي الحقيقة ويتجنى على بعض أعلام التمثيل الذين تستطيع مصر أن تفاخر بهم كبريات الفرق المسرحية. ولكنا نؤمن بأن ما قلناه ظاهرة تنطلق بها الفترة التي نمر بها من هذا العصر الحديث. وإذا التمسنا تفسيراً لهذه الظاهرة فلن نجده في المسرح وحده أو ممثليه لأن المسرح لا يستطيع أن يفسر ظواهره بنفسه منعزلاً عن العالم إلا إذا كان تفسير الشي بأتي من داخله - وهذا مذهب في التفسير لا تثق كثيراً فيمن يتبعونه؛ لأن أصحابه مصابون بضيق في الأفق، وسطحية في النظر وحصر في الفكر. ومادام المسرح نشاطاً إنسانياً خلاقاً، وأنه للحياة قبل أن يكون لنفسه؛ ومادامت الحياة التي تلون كل نشاط إنساني تتشكل - وتشكل معها كل نشاط - بروح العصر السائد، فإن طبيعة البحث تقتضينا أن نلتمس هذه الروح التي جعلت البعض ينادي بتعديل المسرح وأملت علينا ضرورة المناداة بتغييرها وتحويلها إلى مسارح حقيقة، ولن نجد هذا التفسير إلا في ثورة العصر الحديث على ما لمسناه من مظاهر الاستغلاق في المسارح القائمة. ويرجع أصل هذه الظاهرة إلى الانطواء النفسي والاجتماعي الذي كنا وكانت فنوننا مصابة به. ولقد جعلها هذا الانطواء فنوناً مغلقة من الناحيتين النفسيةوالاجتماعية - مثل مبدعيها - تقف ضد كل أسلوب جديد، وتتوهم أن كل شيء خارجي دخيل عليها فتكتفي بما هي عليه دون تطلع إلى مستقبل أو تطور. فيصيبها الانطواء بالركود والتعفن ويكاد يتهددها بالفناء لعدم إحساسها بالحياة وبعدها عن العالم الخارجي الكبير. ولعل هذا هو السبب الذي يلتمسه نقاد الفن ولأدب الغربيين عند بحثهم في أسباب تقطع الصلة بين الفن والحياة، وعدم قدرته على تحقيق الوظيفة الاجتماعية التي هو مطالب بها. بل لعل هذا هو السبب في المحسنات اللفظية في الأدب وعناصر التطريب في الموسيقى، والمبالغة في الألوان في الرسم، والمغالاة في التمثيل على المسرح حتى أصبح الجمهور المتلقي لهذه الفنون والآداب واحدا من اثنين. فريق قليل يفهم فلا يطرب، وأغلبية طاغية يطرب لما لا يفهم. أما الفريق الأول فيرك أنه أمام أدب أو فن مغلق فقد شكله ومضمونه؛ الحقيقيين أما الجمهور الذي يطرب فلأنه ينساب مع البهرج فلا يلبث أن ينغلق ويتخدر.

هذه هني الظاهرة التي شملت كل مرافق الحياة والفن، نجدها متمثلة تماماً في المسرح باعتبار أنه أقرب إلى الفنون الحياة وأسرعها تأثراً بأساليبها، ونجدها على الأخص في بناء المسرح المتجمد الذي لا تنفذ الحياة إلى داخله، ويجمد من يجلس أمامه.

ويبدو أن المسالة لا يمكن إيضاحها إلا بإيراد عرض تاريخي لطرز المسرح؛ لنعرف تقدم مسارحنا أو تأخرهاعنها. ومن المعروف أن أول مسرح كان منصبه مرتفعة يتجمع الناس حولها في دائرة كاملة تمكن كل إنسان من رؤية التمثيل من خلال من حوله، ويشعره بوجود الجماعة المستمر. ثم تغيرت الطرز بعد ذلك حين جاء دور البناء ولم يستطيع التحكم في طبيعة الأرض التي تقام عليها المسارح. فأقيم المسرح اليوناني مثلاً في بطون الجبال ورغم تعذر تحقيق الدائرة المسرحية فإنه ظل نصف دائري ولم يفقد المشاهدين الشعور الجماعي. وكانت هذه المسارح رغم بدائيها سليمة، وسلامتها راجعة إلى أنها كانت بنت النفس البشرية الأولى التي لم تلحقها تعقيدات الحضارة الملتوية - كما حدث بعد ذلك. ولقد وضح التواء هذه الحضارات فيما ألحقته بالفن من شوائب أفسدته حين بنت المسارح على أنها سجون للفن: دور مغلقة لها أول ولها نهاية، يحدان من انطلاق البصر، وانسراح الفكر ويفسدان على الفن المسرحي طبيعته الحرة، واستهدافه الانتشار بغية تفتيق جوانب حياتنا وتوسيعها.

ولكم ارتفع صوتنا بضرورة تخليص المسرح من هذا الانغلاق؛ ومعالجة الإنسان المريض بالانطواء المرير. وقد ظن المسئولون أننا نبغي بذلك المسارح المكشوفة فقدموا إلينا المسرح الصيفي. والواقع أنه جاء خالصاً من بعض مظاهر الانطوائية - بعد أن تخلصت نفوس المشرفين عليه من بعض ما تنطوي عليه - ولكن بيت له أكثر مظاهر الانطواء الموجودة في المسارح المغلقة، غير الحقيقة. فبناء الممثل الضيق ظل بعيداً في نهاية المسرح، معزولاً عن المشاهدين. وحال ما به من ضيق وعزلة دون انطلاق حركة التعبير. ولا نغالي إذ قلنا إن الحال ظلت كما كانت عليه في المسارح المغلقة. لأن الضيق والعزلة أشياء تضيق بها النفس، وتفقدها العثور بالحياة التي تتطلب الانطلاق التام وانعدام الحدود.

وقد يقال إن هذا الأمر لا يحسه إلا من جلس بعيداً عن المسرح، وإن علاجه في القرب من الممثل. ولقد جربت هذا فكانت المنصة العالية تحول دون الاستمتاع الكامل بما يجري فوقها لأنها تتعالى عن الجمهور. وأقسم أني كنت أشعر بأقدام الممثلين تروح وتجيء فوق رأسي بمجرد رفع الستار وبدء الرواية.

ولو أضفنا هذا الستار إلى ضيق الممثل لا كتملت لنا مظاهر الانطوائية لأنه يشعرنا ببقاء الحائط الرابع الذي لا يبدأ العرض الحقيقي إلا بزواله. وفي بقائه إيحاء بأن المسرح صندوق أسرار كبير إن باح ببعضها، أمسك بالجانب الأكبر منها. وهذه السرية الممرضة تتنافس وكيان المسرح باعتباره فناً من فنون العرض يهدف إلى تجسيم الأشياء التي تجري فوق الممثل بشكل لا يتأتى إلا إذا كشف كل جوانبها. ولقد هدمت نظرية الحائط الرابع مع هدم المسارح القديمة في القرن التاسع عشر. ومن المؤكد أن المسارح المفتوحة أو المنتشرة لم تكن لتظهر إلى الوجود قبل مناقشة نظرية الحائط الرابع هذه ومؤداها أن المسارح - قبل مجيء الطبيعيين كانت مثل مسارحنا: مسارح مغلقة على نفسها تريد إغلاق جمهور المشاهدين معها. فالممثلون في جهة والمشاهدون أن يتصلوا بالجمهور حالت دونهم المنصة المرتفعة وقد مج المشاهدون هذا الانفصال فكانوا لا يذهبون إلى المسرح إلا لمجرد تمضية وقت يتحدثون فيما بينهم أو يغازلون الممثلات - كما يحدث عندنا.

وهكذا كان حال المسرح - بعد المسرح الإغريقي السليم حتى مجيء أصدقائنا الطبيعيين وعلى رأسهم أنطوان الذي تبلورت فيه ثورة الناس على هذه الأوضاع السخيفة ورأى أن العلاج يتمثل في أن يشعر الجمهور بأنه ليس في مسرح بل أمام حياة فقضى على الفكرة القديمة - السائدة في مسارحنا - من ضرورة إبقاء الجمهور في الظلام لجذب انتباهه بطريقة مفتعلة إلى ما يجري فوق المسرح. أو تقديم مناظر مغرية تأخذ عليه وتحافظ على جذب انتباهه حتى أن (سترندبرج) المسرحي النرويجي الكبير يرجع تقسيم المسرحية إلى فصول إلى هذا السبب ويقول إن الاستراحات تقدم حتى يتخلص المشاهد من تأثير التنويم المغناطيسي الذي يصاب به أثناء مشاهدة المسرحية وإعطائه فرصة للتفكير وتدبر ما شاهد.

وكما كان لهذا الأمر تأثيره على المشاهد والمؤلف فقد كان تأثيره كبيراً على الممثل؛ فهو لا يؤدي الأدوار كما لو كان في الحياة بل أنه لا يعترف بهذه الحقيقة فتراه لا يتابع الجمهور، أو يستجيب لتأثراته لأن هناك فاصلاً قائماً بينهما، ولا يدرك أن مقدمة المسرح يجب أن تصبح حائطاً شفافاً أمام الجمهور ومنفذاً يعبر منه الممثل.

أن الحائط الرابع (فرجة) يطل الإنسان من خلالها على الحياة مصورة بشيء من الدقة؛ فلنوسعها، ولنذهب بمقدمة المسرح حتى النهاية، ولنقدم مسرحاً مستوياً، لنخرج الممثل من هذا الإطار ولنرد عليه وعلى المسرح إبعادهما الإنسانية الثلاثة، ولنقض على محاولة خلق الوهم والخداع، ولنجعل الممثل ممثلاً حقيقياً، ولنحل المسرحية المجددة مكان التصوير الجامد، ولنخرج الممثل من قفصه، ولنجره من الإطار الفارغ الذي يتحرك فيه لموانع الحياة.

ولن يتم لنا تخليص مسارحنا من كل هذا وإرسالها على طبعتها إلا بهدم الحائط الرابع حتى لا يحول دون إدراكنا لحقيقة ما يدور ويرفع الممثل من طرف المسرح - ففي وجوده هناك أشعار ببعده عنا - وفي هذا العبد تحطيم للوحدة التي أن تتم بينه وبينا، ثم يرفع الستار فالمسرح الحديث تتجنب الخفاء وكل ما فيها مبذول للعين معروض أمام الجميع. ولو أكتمل لنا مثل هذا المسرح لقضينا على فكرة المسارح المغلقة وقدمنا مكانها مسارح مفتوحة كالحياة. تجمع بين الفن والحياة - مسارح حقيقية، المثل فيها ليس في طرف المسرح بل في وسطه، يتجمع الناس حوله في حلقة تقضي على استطالة المسرح التي تحيل الناس إلى جموع متراصة ينظر كل في ظهر الآخر دون أن يشعر بدبيب الحياة الذي يتراءى في وجهه. المسرح بهذا الشكل يصبح كلاً واحداً: فهو حلقة مستديرة يمثل عليها، خارجها حلقة تجمع المشاهدين. سيضطر الممثلون إلى الحركة يميناً ويساراً وخلفاً وإماماً وتقضي على فكرة الرسوخ والثبات المتسلطة على فنون المسرح عندناونرد إلى المسرح عنصر الحركة التي تفتقدها في مسارحنا. وسيصبح التمثيل أكبر تعبيراً وأدق واقعية لأن الممثل سيدرك أن هناك من هناك يراه من كل جانب فيحرص على جمال الوضع وتمام التعبير.

وسيكون لهذا المسرح الكايلي تأثيره على تأليف المسرحية التي ستعرض فيه. فما دامت المسرحية متصلة بالمسرح فلا شك أن المسرح الكامل سيقدم لنا المسرحية الكاملة لا المسرحيات الزائفة التي تقدمها المسارح المغلقة التي تغلقها بطابعها، وتحد من انطلاقها بالقيود التي تفرضها عليها.

وأخيراً. فإن هذا المسرح هو أكثر المسارح تناسباً مع طبيعة بلادنا. فما دمنا شعب زراعة مربوطين بالأرض نحتشد لكل مناسبة في حلقات فالواجب أن يكون مسرحنا شبيهاً بتلك الحلقات حتى يؤكد فينا غريزة الاجتماع نتجاوز حدود نفوسنا ونتخطى النطاق الضيق الذي تحصرنا فيه مسارح اليوم المغلقة.

يوسف الحطاب