مجلة الرسالة/العدد 901/من الحوادث الأدبية

مجلة الرسالة/العدد 901/من الحوادث الأدبية

ملاحظات: بتاريخ: 09 - 10 - 1950



يهرب من الحج

للأستاذ محمد سيد كيلان

لما عزم الخديوي عباس على أداء فريضة الحج في شتاء سنة 1909 قرر أن يصطحب معه فيمن خاصته شاعره الكبير أحمد شوقي. ولكن الشاعر كان في سريرته لا يرغب في أداء هذه الفريضة المقدسة ولم يستطع أن يصرح للخديوي بذلك.

فتظاهر بالموافقة وركب القطار مع أفراد الحاشية حتى إذا وصل الركب العالي إلى بنها غادر شوقي القطار خفية وانسل من بين الحاضرين دون أن يشعر به أحد؛ وذهب إلى منزل أحد أصدقائه بينها وقضي فيه مدة من الزمن ثم رجع إلى القاهرة وأخذ الخديوي وأفراد حاشيته يتفقدون شوقيا ولكن على غير جدوى. فلما رجع الخديوي من الحجاز وسأله عن السر في ذلك أجاب: كل شئ إلا ركوب الجمال يا أفندينا. وهذا عذر ضعيف يدل على استهتار بأداء الفرائض الدينية التي من بينها الحج. ولم يكن شوقي أكثر ترفا من بقية الحاشية. فإذا كان الخديوي عباس تحمل مشاق السفر فكيف عجز عنها شوقي؟ بل إذا كانت أم المحسنين ومعها وصيفاتها تحملت مشاق السفر فكيف عجز عنها شوقي؟ الحق أن تعليل هربه من أداء فريضة يصبوا إليها كل مسلم ومسلمة لا يدل على شيء سوى استهانة بأمر الحج. وشوقي كان إذ ذاك في ريعان شبابه تلوح عليه نضرة النعيم. وكان يقيم في دار بالطرية الحفلات الساهرة الراقصة حيث الكأس والطاس وغير ذلك مما لا داعي لذكره. ولم يقعده عن هذه الحفلات ضعف فكيف قعد عن أداء تلك الصحة؟ قال للخديوي: كل شئ إلا ظهور الجمال يا افندينا. وهذا ليس بعذر مقبول لأننا نعلم أن الشاعر كان يركب ظهور الحمير في القاهرة ويقطع بها مسافات طوالا. ثم إن سكة حديد الحجاز كانت قد افتتحت في ذلك الوقت وكان الناس يستقلون قطاراتها إلى المدينة. فلم تكن المسافات التي كان من المقرر أن يقطعها الشاعر بالجمال سوى تلك التي بين جدة ومكة والمدينة. ثم إن الركب الخديوي كانت به وسائل الراحة التامة. فنرى من ذلك أن هذا العذر لا يصح أن يقوم دليلا على عجز الشاعر عن تأدية الفريضة.

وهو يتمنى أن تكون هناك سيارة أو طائرة لتقرب إليه البعيد وتسهل أمامه السبيل. قال: ويا رب هل سيارة أو مطارة ... فيدنو بعيد البيد والفلوات

ولكنه هو القائل قبل ذلك في الطائرة (أركب الليث ولا أركبها) أما السيارات فقد أدرك عصرها. ولكنه لم يستقلها لأداء الفريضة.

والآن بعد أن ناقشنا هذه الأعذار وبينا أنها متكلفة وأن الشاعر أتى بها ليبرر استهانته بالحج، ننتقل إلى أبيات من قصيدته التي مدح بها الخديوي عباسا عقب عودته من الحجاز والتي مطلعها

إلى عرفات الله يا ابن محمد ... عليك سلام الله في عرفات

أما الأبيات التي نريد أن نقف عندها فهي

ويا رب هل تغني عن العبد حجة ... وفي العمر ما فيه من الهفوات

وتشهد ما آذيت نفسا ولم أضر ... ولم ابغ في جهري ولا خطراتي

ولا غلبتني شقوة أو سعادة ... على حكمة أتيتني وأناة

ولا جال إلا الخير بين سرائري ... لدى سدة خيرية الرغبات

ولا بت إلا كابن مريم مشفقا ... على حسدي ستغفرا لعداتي

ولا حملت نفسي هوى لبلادها ... كنفسي في فعلي وفي نفثاتي

وإني ولا من عليك بطاعة ... أجل وأغلى في الفروض زكاتي

أبالغ فيها وهي عدل ورحمة ... وبتركها النساك في الخلوات

هذه الأبيات وليدة هربه من الذهاب إلى الحجاز. وفيها يبرر عزوفه عن أداء فريضة الحج بمبررات واهية ضعيفة لا تستقيم مع أحكام الدين الحنيف ولا تنهض حجة أمام رجل حريص على أركان الإسلام، محترم لشعائره التي منها الحج. فلا طيبة النفس ولا حب الوطن، ولا الإشفاق على حساده ولا الزكاة ولا أي شئ مما ذكره يغني عن الحج ويقوم مقامه. فشوقي في هذه الأبيات يستوحي العقل ويحتكم إليه ضاربا بأحكام الشريعة الغراء عرض الحائط.

والشيء الذي لا مراء فيه أن شوقيا كان مهملا لفرائض الدين عدا الزكاة. فلم يعرف عنه أنه دخل مسجدا أو صام يوما يكفر عن سيئاته ويخفف به أوزاره. وكان في حياته ماجنا خليعا مفرطا في شرب الخمر مرسلا نفسه على سجيتها. ولو أن شوقيا نشأ في وسط حر طليق كواحد من عامة الشعب لظهر أثر الخلاعة والمجون في شعره بشكل فاضح لا يقل عما وصل إليه شعراء الخلاعة والمجون في العصر العباسي. ولكنه نشأ في وسط رسمي أرستقراطي فكان شاعر الخديوي ومادح السلطان عبد الحميد أمير المؤمنين وخليفة رسول رب العالمين. لذلك اضطر أن يضع حدا فاصلا بين حياته كفرد وحياته كشاعر.

فقد كان ينظم القصيدة - وهو ثمل - فلا ترى فيها غير البكاء على ما أصب الإسلام والمسلمين والدعوة إلى النهوض والاتحاد تحت لواء الخلافة والحث على التمسك بالفضائل ومكارم الأخلاق حتى لتحس كأنك أمام واعظ يهدي إلى سبل الرشاد. كان يفعل هذا عقب انصرافه من مجلس خمر أو مجلس خلوة يرتكب فيها فاحشة

فعدول الشاعر عن الذهاب إلى الحجاز لم يكن سببه الضعف ولكنه كان حلقة من حلقات إهماله لفرائض الإسلام. أما الزكاة التي يتحدث عنها الشاعر ويقول إنه يبالغ في أدائها فهي أيسر الفرائض على أمثاله من الأغنياء، إذ لم يكن يتكلف فيها مجهوداً ومبالغته في الزكاة يرجع إلى سبب نفسي هو اعتقاده بأن هذا العمل يعفيه من تأدية الفرائض الأخرى، ويجعل كفة حسناته ترجح كفة سيئاته ويغفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر. ولا فائدة لنا من مناقشة هذا الرأي وإظهار فساده.

على أن هرب شوقي من أداء فريضة الحج قد دفعه إلى نظم قصيدتين أجاد فيهما إجادة تامة. أما القصيدة الأولى فهي الهمزية النبوية. وأما الثانية فهي نهج البردة. وقد عنى في هاتين القصيدتين بالرد على أعداء الإسلام من المبشرين والمستشرقين. ومثال ذلك قوله حاكيا بعض المستشرقين

قالوا غزوت ورسل الله ما بعثوا ... القتل نفس ولا جاء والسفك دم

ورد على هذا الرأي بأبيات منها

جهل وتضليل أحلام وسفسطه ... فتحت بالسيف بعد الفتح بالقلم

سل المسيحية الغراء كم شربت ... بالصاب من شهوات الظالم الغلم

لولا حماة لها هبوا لنصرتها ... بالسيف ما انتقمت بالرفق والرحم

ثم أخذ بعد ذلك ينفى موضوع الصلب ويرفع من شأن الإسلام والمسلمين ويتغنى بماضيهم المجيد. والقصيدتان بالرغم مما فيهما من المحاكاة والتقليد تمتازان بظهور الطابع الحديث عليهما ظهورا تاما وبخاصة الهمزية.

محمد سيد كيلاني