مجلة الرسالة/العدد 902/تعقيبات

مجلة الرسالة/العدد 902/تعقيبات

ملاحظات: بتاريخ: 16 - 10 - 1950



للأستاذ أنور المعداوي

(الأداء النفسي) وتطبيقه على الشعراء:

منذ أن تفضلت بالتعقيب على رسالتي الأولى وأنا أرجو الكتابة إليك والثناء عليكن ولكني أعتذر من هذه الفترة الطويلة التي انقضت دون أن أكاتبك فيها بسبب المشاغل والظروف: أما وقد جمع بيننا الإعجاب وربطت بيننا المودة، فلا داعي لأن أقول لك إن هذه المودة وذلك الإعجاب يسوغان هذا الاعتذار ويرجوان لديك القبول.

وأشكرك أولا بصدد ما كتبته عني وآمل أن أكون عند حسن ظنك. . أما ردك على مسألة أدب النفس أو أدب التراجم الذاتية فقد أعجبت كل الإعجاب بما عرضته من حقائق، وبالطبع أرجأت الكتابة عن النقد والنقاد لأن من رأيك كما هو من رأيي (إلا مناص من المصاحبة والمعاشرة بين الناقد والمنقود، لنتكشف الشخصية الإنسانية للدارسين من خلال ثوبها الطبيعي الذي يثف بما تحته بلا تعمل ولا تكلف ولا رياء؛ ذلك لأن البيئة التي نعيش فيها والمجتمع الذي نضطرب فيه، لا يهيئان لنا أن نتحدث عن أنفسنا حديث الصراحة السافرة التي تعنى بإبراز المحاسن والمآثر عنايتها بإبراز المساوئ والعيوب)!

أريد بعد هذا أن أسجل هنا أن المذهب الجديد الذي أخرجته إلى عالمنا الأدبي في النقد الحديث، مذهب من الوجاهة والقوة بمكان نستحق عليه الثناء والتقدير والتخليد، ويسرني كثيراً أن ألقاك قويا في الدفاع عن مذهبك كل القوة مبدعاً في الذود عنه كل الإبداع. ولئن دل هذا على شيء فإنما يدل على قوة الذهن التي أنتجت مثل هذا المذهب، وبراعة القلم الذي فسر أصوله وقواعده وحلل مضمونه ومراميه. وإني لأستنتج من ذلك أن حركتنا الأدبية الحديثة بخير ما دامت قد أوجدت لنا مثل هذه الاتجاهات الفكرية والمذاهب النقدية، ونحن أحوج ما نكون إلى (المذهبية) السليمة في النقد الأدبي، لأنها تعصم هذا النقد من (اللخبطة) و (الرخاوة) و (المحسوبية) و (التفكك) ولأنها خير ضمان لإيجاد مدارس أدبية في النقد واتجاهاته ومبادئه. إن الميزان في النقد الأدبي يخلقه الناقد لنفسه ولا يحيد عنه، ومن النقاد من يتخذ هذا الميزان (كيلاً) ومنهم من يتخذه (ثقلاً) والكيل والثقل أصناف وأنواع ولكنهما لا يخرجان عن مبدأ (الميزان). . ولا أريد أن أتوسع في ميزان (الأداء النفسي) الذي اتخذته معياراً لنقدك وأساساً لحكمك، ولكن لست أدري أهو القلم الذي يدفعني إلى هذا القول أم هو الإعجاب الذي دعاني إلى التسطير!

ولقد طبقت مذهبك فتبين لنا نجاحه ومقدرته على الصمود والخلود، بيد أنك وفيت هذا التطبيق على شاعر كبير وفنان معروف هو الأستاذ علي محمود طه رحمه الله. . ولكن بقى فريق من الشعراء يستحق أن يظفر منك بمثل هذا التطبيق، حتى تظهر القيم الفنية على حقيقتها ويحتل كل شاعر من هؤلاء مكانه المنتظر! وإذا كنت قد قلت في كلمة سابقة إن المناسبة وحدها هي التي تدعوك إلى إبداء رأيك في بعض الناس، فإننا نؤمن بأن هذه المناسبات كثيرة وبأنها آتية ما في ذلك شك، إلا أن ذلك لا يشغلنا عن الهدف الرئيسي وهو مطالبتك بالالتفات إلى هذا الفريق من الشعراء. . وعسى أن يكون هناك برنامج لتلك التوفية في التطبيق، كما أحدثت في شعر الشاعر الكبير وفن ذلك الأديب الفنان.

هذا ما عن لي أن أثبته هنا من هذه الرسالة. . مع خالص التحية لك وخالص التهنئة للأداء النفسي، وإلى اللقاء.

أحمد طه السنوسي

الأستاذ الفاضل أحمد طه السنوسي هو صاحب هذه (الافتتاحيات) القيمة التي يكتبها كل أسبوع في الشئون السياسية والاقتصادية بمجلة الثقافة. ومن العجيب حقا أن يشغل الأستاذ السنوسي بأمثال هذه البحوث، ثم لا يشغل في الوقت نفسه عن تلك البحوث الأخرى التي تنبت في حقول الأدب والنقد هنا وهناك. وأعجب من هذا أنه صديق من هؤلاء الأصدقاء الروحيين الذين لا ألتقي بهم إلا بين السطور والكلمات. . على أي شيء تدل هذه الظاهرة؟ إنها تدل على أن الحياة الفكرية في مصر لا تخلو من النماذج النادرة في الوفاء للخلق والعقل.

ماذا أقول لهذا الصديق الذي أخجل تواضعي بثنائه دون معرفة بيننا ولا سابق لقاء؟ بودي أن أقول له إنني لست عاتبا عليه هذا الذي يعتذر منه. . حسبنا يا أخي هذا اللقاء الفكري الذي يؤلف بين العقول والقلوب، ويقيم على دعائم الإخلاص للمثل العليا صداقة الأقلام!

أما ما جاء برسالة الأستاذ السنوسي من أنه قد أرجأ الكتابة عن النقد والنقاد بسبب هذا الرأي الذي أبديته من قبل واقتنع هو به، فلعل القراء يذكرون رسالته الأولى إلى حول أدب النفس أو أدب التراجم الذاتية، يوم أن أعرب عن رغبته في أن يقدم عن كاتب هذه السطور حديثه الثالث من محطة هلفرسم للإذاعة العربية، في سلسلة أحاديثه التي بدأها بكلمة نقدية عن الأستاذ توفيق الحكيم أعقبها بكلمة أخرى عن الدكتور طه حسين. . لقد قلت للأستاذ الفاضل يومئذ وهو يطلب إلى أن أتحدث عن نفسي حديث التأمل الباطني والصراحة المحببة، لأعينه على أن يطيل الوقوف ويخرج ببعض الزوايا ويحدد بعض الخطوط؛ قلت له يومئذ في مجال الرد على رغبته الكريمة: (ودراسة الحياة النفسية لأديب من الأدباء تقضي من الدارسين أن يتصلوا اتصالا مباشرا بهذه الحياة بغية المراقبة والملاحظة والتسجيل. . وإذن فلا مناص من المصاحبة والمباشرة بين الناقد والمنقود لتتكشف الشخصية الإنسانية للدارسين من خلال ثوبها الطبيعي الذي يشف عما تحته بلا تعمل ولا تكلف ولا رياء. ذلك لأن البيئة التي نعيش فيها والمجتمع الذي نضطرب فيه، لا يهيئان لنا أن نتحدث عن أنفسنا حديث الصراحة السافرة التي تعنى بإبراز المحاسن والمآثر عنايتها بإبراز المساوئ والعيوب. وليس من شك في أن الأستاذ السنوسي يلتمس لنا بعض العذر إذ قلنا له أن الحديث عن النفس شيء عسير، ولا نقول شيء بغيض كما يحلو لبعض المتجرين بالتواضع أن يصفوه! عسير لأن المجتمع الذي نتنفس في رحابه سيهمنا مرة أخرى إذا ما عرضناها في صورتها الحقيقية وهي في كنف الظلام. .

نحن إذن معشر الأدباء متهمون في كلا الحالين، ولكن الأمر يختلف كل الاختلاف إذا ما كتب عنا الآخرون لأنهم في نظر المجتمع قضاة محايدون. . هذا إذا قدر لهم أن يطلعوا على ما خفي وما ظهر في حياة المنقودين من شتى الميول والنزعات! لو كنا في بيئة غير البيئة ومجتمع غير المجتمع لتحدثنا عن أنفسنا حديث الذين لا يخشون لومة لائم ولا اتهام متهم، ولا جناية حان على حقيقة الطبائع النفسية كما فطرها الله وكما قدر لها أن تكون. . ولكننا بهذه الأوضاع الاجتماعية في الشرق لا نستطيع. وإذا أتيح لنا أن نتحدث إلى الغير من حياتنا الذاتية بجوانبها المشرقة والمظلمة، فهي الإتاحة التي تدفعنا إلى ذكر بعض الحق والتستر على البعض الآخر، وحياة كهذه يحال بيننا وبين التحدث عنها بكل الحق هي في رأينا حياة لا يطمئن إليها الدارسون! إننا نبغي من وراء الدراسة النفسية لحياة أديب من الأدباء أن نضع أيدينا على مفتاح شخصيته الإنسانية، ورب حادث تافه يتحرج الكاتب من ذكره فيدفع إلى حذفه من تاريخ حياته؛ رب حادث كهذا يقدم إلينا المفتاح الحقيقي لشخصيته حين يكتب في بضعة أسطر فلا تغني عنه مئات الحوادث في ألوف من الصفحات)

هذا هو بعض ما قلته للأستاذ السنوسي في مجال الرد على رغبته. والحق أننا إذا نظرنا إلى حياة بعض الأدباء والمعاصرين، ثم خطر لنا أن نتخير بعض كتاب التراجم الذين يصلحون للتحدث عن هذه الحياة على هدى هذا المنهج الذي أوضحناه، لوجب أن يقع اختيارنا على العقاد ليكتب عن المازني، وعن الزيات ليكتب عن طه، وعلي الخولي ليكتب عن أحمد أمين، لأن هؤلاء جميعا قد أتيح لهم من الاطلاع على حياة أولئك ما لم يتح لغيرهم أن يطلع عليه. . ولعل تلك الدراسة النفسية التي كتبتها عن الشاعر علي محمود طه وما سيضاف إليها من فصول لم تنشر، تقدم الدليل على أن المصاحبة والمعاشرة بين الناقد والمنقود أمر لا غنى عنه لكاتب التراجم ودارس الأدب وناقد الفنون!

بعد هذا أعود إلى المحور الرئيسي الذي تدور حوله رسالة الأستاذ السنوسي لأقول له: لقد طالبتني بتطبيق مذهب (الأداء النفسي) على شعراء آخرين غير علي محمود طه لتظهر قيمهم الفنية على ضوء هذا التطبيق. فمن هم هؤلاء الشعراء؟ إنك يا أخي لم تحدد العصور ولا المواطن ولا الأسماء، حتى أستطيع أن أتبين الهدف الذي تقصد إليه. . ترى هل تطالبني بتطبيق هذا المذهب على شعراء عصر بأكمله في كل موطن من مواطن الشعر العربي، أم أن هناك بعض الأسماء المختارة التي ترى أن شعر أصحابها تشع فيه ومضات من هذا الأداء؟

مهما يكن من شيء فقد أخرجت مذهب (الأداء النفسي) لأقدم عن طريقه وجهة نظر ذاتية في فهم الشعر وتذوقه ودراسته على أسس جديدة غير تلك التي ألفها الناس، وإذا كنت قد طبقته على شاعر واحد فلأنني أؤمن بأن هذا الشاعر هو من خير النماذج الفنية التي تمثل هذا المذهب في أفق الشعر العربي الحديث وما عنيت بقصر التطبيق عليه، وإنما عنيت بأن أقدم دراسة نقدية للشعر كما أفهمه وأتذوقه على أن يكون هذا النقد مقترنا بالمثال!

عتاب في غير موضعه:

طالع القراء في العدد الماضي من الرسالة كلمة للقصاص العراقي الفاضل كارنيك جورج، في الرد على ما كتبه أديب لبناني صديق دفاعا عن مجلة الأديب. أما هذه الكلمة فقد أستهلها الأستاذ كارنيك بشيء من العتاب لأنني لم أذكر أسم الكاتب اللبناني في ختام دفاعه، متخيلا أنني فعلت ذلك بدافع الصداقة. . أود أن أقول له إن هذا العتاب في غير موضعه، لأن الصداقة لا دخل لها فيما حدث من قريب ولا من بعيد! لقد طلب إلى الأديب اللبناني الصديق ألا أذكر أسمه وقد فعلت، لأنني لا أحب أن أعترض طريق رغبة من الرغبات سواء أكانت لصديق أم غير صديق. ولو أنني كنت متأثراً بدوافع الصداقة لما سمحت للقصاص العراقي بأن يقول عن صديقي إن دفاعه كان يحوي (أوضع) الاتهامات!!

إن منهجي الذي أسير عليه هو أن أتيح لكل طرف من أطراف هذه الخصومة أن يقول ما يشاء، ولهذا فسحت المجال لكثير من العبارات القاسية التي أغرق فيها الدفاع وأسرف فيها الاتهام بوجه أخص. ولا يهمني من وراء هذه الحرية المتاحة للجانبين إلا أن يقارن الناس بين حجة وحجة ويوازنوا بين دليل ودليل، وهذا هو الطريق الوحيد الذي يسلكه السالكون ليصلوا إلى الحقيقة في وضح النهار! وإذا كان الأستاذ كارنيك يأخذ على أنني ملت إلى تصديق الأديب اللبناني فيما رمى به إنتاجه القصصي من الضعف والركاكة، فإنني أقول له أنه لم يقرأ كلمتي بعناية، لأن التصديق في تلك الكلمة لم يكن منصبا إلا على جانب واحد، هو جانب الإشارة إلى ما يلقاه صاحب (الأديب) من ضيق مادي في سبيل مجلته. وما عدا ذلك من أمور فقد تركته إلى القراء، لأنه ليس من عادتي أن أوافق إنسانا على رأيه الخاص في كتاب من الكتب دون أن أقرأ هذا الكتاب، ولو كان صاحب الرأي يحتل مكانة (سانت بيف) في المنقد الأدبي!

ترى هل يوافقني الأديب العراقي الفاضل بعد هذا على أن عتابه كان في غير موضعه؟ لقد أحتكم إلي في هذه الخصومة وكذلك احتكمت إلى (الأديب) على لسان أحد الأصدقاء. . ولقد قلت رأيي هنا وهناك وبقي حكم القراء.

دفاع عن السيريالزم:

بين يدي رسالة ثائرة من الأديب المصري مختار العطار (دبلوم الفنون الجميلة العليا ومحرر بمجلة القصة) يهاجمني فيها هجوما (عنيفاً) لأنني قلت عن المذهب السريالي في الرسم ما يحب أن يقال، ولأنه من أنصار هذا المذهب ومن دعاته في مصر. . لا بأس من أن يدافع الأديب العطار عن مذهب يؤمن به، ولكنه يجترئ كثيرا على الحق حين يقول لي: (مالك أنت والسيريالزم؟ أنه مذهب خاص بالرسم والرسامين لا يفهمه غيرهم وليس لكل إنسان أن يهاجمه إذا كان قد استعصى عليه فهمه، حتى ولو كان أديبا كبيراً مثلك)

أؤكد للأديب الثائر أنني أستطيع أن أتحدث عن المذاهب الفنية في الرسم خيراً مما أتحدث عن المذاهب النقدية في الأدب، وأنني أستطيع أن أحاضر عن السيريالزم ويكون هو في صفوف المستمعين. . هذه حقيقة لا يعلمها لأنه لا يعرف شيئا عن كاتب هذه السطور في ثقافته الفنية!

ويجترئ مرة أخرى على الحق حين يقول لي: (وأحب أن أصحح لك معلوماتك عن الرسام السريالي (بيكاسو). . لقد زعمت في مقالك عن الفن والقيود أنه رسام فرنسي والواقع أنه أسباني، وتلك حقيقة لا يجهلها غير المبتدئين في الفن). . أنا مع الأديب العطار في أن المبتدئين في الفن يعلمون هذه الحقيقة ولو لم يكن هو واحد من هؤلاء المبتدئين لما رقفت ثقافته (الواسعة) عند هذه الحقيقة الصغيرة. إن (بيكاسو) يا بني أسباني المولد ولكنه فرنسي النشأة، أعني أنه تجنس بالجنسية الفرنسية منذ أمد بعيد، وأن مذهبه السريالي في الرسم قد ولد في مهد فرنسي ودرج فوق أرض فرنسية وانتسب إلى فرنسا حين ينتسب كل فن من الفنون إلى وطن من الأوطان. . أعني مرة أخرى أن أسبانيا اليوم لا تعتبره واحد من أبنائها ولا من فنانيها، وإذا لم تصدق فاسأل المفوضية الأسبانية في القاهرة أو المفوضية المصرية في مدريد!

وإذا اقتنعت. . فأرجو أن تتعلم قبل أن تتهجم!!.

أنور المعداوي