مجلة الرسالة/العدد 904/ذكرى كربلاء
مجلة الرسالة/العدد 904/ذكرى كربلاء
دم الحسين
للأستاذ علي العماري
في العاشر من المحرم سنة إحدى وستين من الهجرة وقع حادث عظيم ارتاعت منه قلوب المسلمين، ولا تزال ترتاع منه القلوب كلما جاء ذكره في اليوم العاشر من المحرم، ذلكم الحادث العظيم هو قتل الحسين بن علي سبط رسول الله ﷺ وسيد شباب أهل الجنة.
وكان المسلمون من شيعة علي يحتفلون بذكرى مقتل الحسين، يتمكنون من ذلك في بعض السنين، وفي بعض البلدان، ويمنعون من الاحتفال بهذه الذكرى كلما وقعوا تحت سلطان حاكم لا يتشيع لأهل البيت، وظلوا كذلك حتى كانت دولة البويهيين في بغداد، فجعلت الاحتفال بذكرى مقتل الحسين أمرا رسميا يلزم به جميع الناس، فقد أمر حاكم بغداد معز الدولة ابن يويه في سنة 532هـ (أمر الناس أن يغلقوا دكاكينهم وأن يبطلوا الأسواق، والبيع والشراء، وأن يظهروا النياحة، ويلبسوا قبابا عملوها بالمسوح وأن يخرج النساء منشرات الشعور، مسودات الوجوه، قد شققن ثيابهن، ويدرن في البلد بالنوائح ويلطمن وجوههن، ويبكين على الحسين بن علي رضي الله عنه، ففعل الناس ذلك، وصارت عادة توارثها الناس.
وقد أردت أن أجول جولة تاريخية، وأؤلف بعض الأخبار لأحيي ذكرى مقتل أبي الشهداء.
كان النزاع قديما بين بني هاشم قبيلة رسول الله ﷺ، وبين بني أمية قبيلة أبي سفيان أبن حرب، وكانت بنو هاشم أعظم وأشرف - فلما جاء الرسول منهم زادهم رفعة وشرفا، وكما قال معاوية بن أبي سفيان وقد قيل له: أخبرنا عنكم وعن بني هاشم فقال: بنو هاشم أشرف واحدا، ونحن أشرف عدداً - فما كان ألا كلا، ولا، حتى جاءوا بواحدة يذت الأولين والآخرين. يريد النبي ﷺ، وبقوله: أشرف واحدا: عبد المطلب بن هاشم، ولم يستطع الأمويون أن يرفعوا رؤوسهم في عهد رسول الله، ولا في عهد الخليفتين من بعده. فلما كانت خلافة سيدنا عثمان - وهو منهم - استطاعوا أن يتحكموا في سياسة المسلمين، وظلوا كذلك حتى قتل عثمان، ثم قام النزاع بين علي ومعاوية، ذلك النزاع الذي انتهى بقتل أبن أبي طالب كرم الله وجهه، واستقرار الملك لابن أبي سفيان، وظل معاوية في خلافة المسلمين عشرين عاما، وقد رأى قبل وفاته أن يجعل الملك وراثيا، فأخذ البيعة لابنه يزيد، ولكنه كان يعلم أن في المسلمين رجالا تتجه إليهم الأنظار، وتدين بحبهم القلوب، لذلك أوصى يزيد عند احتضاره فقال: (يا بني أني قد كفيتك الرحلة والترحال، ووطأت لك الأشياء، وذللت لك الأعداء، وأخضعت لك أعناق العرب، وأني لا أتخوف أن ينازعك هذا الأمر الذي استتب لك ألا أربعة نفر من قريش؛ الحسين ابن علي، وعبد الله ابن عمر، وعبد الله بن الزبير، وعبد الرحمن بن أبي بكر، فأما عبد الله بن عمر فرجل قد وقذته العبادة، وإذا لم يبق أحد غيره بايعك، وأما الحسين بن علي فأن أهل العراق لن يدعوه حتى يخرجوه فأن خرج عليك فظفرت به فاصفح عنه فأن له رحما ماسة، وحقا عظيما، وأما ابن أبي بكر فرجل أن رأى أصحابه صنعوا شيئا صنع مثلهم، ليس له همة ألا في النساء واللهو، وأما الذي يجثم لك جثوم الأسد وبراوغك مراوغة الثعلب، فإذا أمكنته فرصة وثب فذاك ابن الزبير، فان هو فعلها بك فقدرت عليه، فقطعه إربا إربا).
وتولى يزيد الخلافة، ولم يكن بالخليفة المحبوب من المسلمين، فثارت عليه مدينة رسول الله، ولكنها لم تنجح في ثورتها، فهزمتها جيوش يزيد، ودخلتها، وأباحتها ثلاثة أيام. على أن أعظم حادث في عهد يزيد بل في عهد الدولة الأموية كله ما وقع للحسين بن علي وآل بيته، فان الحسين لم يرض عن سيرة يزيد وكان يرى أن من واجبه أن يجاهد هذا السلطان الجائر، المستحل لحرم الله، المخالف لسنة رسول الله، ووجد في العراق متسعا لدعوته، وميدانا لجهاده، بعد أن كثرت رسائل العراقيين إليه، يدعونه، ويلحون في دعوته، فما هو ألا أن انتهت أيام الحج من تلك السنة سنة إحدى وستين حتى خرج يريد الكوفة، ومع أن الحسين سمع في طريقه ما يشككه في نوايا أهل العراق وإخلاصهم إلا أنه كما قال الشاعر:
إذا هم ألقى بين عينيه عزمه ... ونكب عن ذكر العواقب جانبا
لما خرج من المدينة لحق به أحد كبرائها فقال: أين تريد؟ قال: أريد العراق، قال له: ارجع، فأبى، فقال: أحدثك حديثا ما حدثت به أحدا قبلك، أن جبريل أتى النبي ﷺ يخيره بين الدنيا والآخرة فاختار الآخرة، وأنكم بضعة منه، فوالله لا يليها أحد من أهل بيته أبدا، وما صرفها عنكم ألا لما هو خير لكم، فارجع فأنت تعرف غدر أهل العراق، وما كان يلقى أبوك منهم، فأبى الحسين، فاعتنقه وقبله وبكى، وقال: استودعتك الله من قتيل!
ولما خرج من مكة لقيه الفرزدق الشاعر مقبلا من العراق، فقال: إلى أين يا حسين؟ قال: إلى الكوفة، قال: ارجع فمالك فيها خير، قال: بين لنا خير الناس، قال: قلوب الناس معك، وسيوفهم عليك، والقضاء ينزل من السماء، والله يفعل ما يشاء. فقال الحسين: لله الأمر، يفعل ما يشاء. ثم حرك راحلته وسار، وما لاقى الحسين في طريقه أحدا يعرف إخلاصه وصدقه ألا نصحه بالرجوع، وأكد له أن ليس له في العراق خير، ولكنه عزم وصمم لأمر أراده الله، والله بالغ أمره.
كان الحسين في عدد قليل من أصحابه لا يبلغ المائة، وكان جيش العراق الذي قابله أربعة آلاف، فوجد أنه لا طاقة له بالقتال، فعرض عليهم أن يقبلوا منه واحدة من ثلاث، أما أن يرجع إلى مكة، أو يذهب إلى يزيد الخليفة في الشام، أو يذهب إلى ثغر من ثغور المسلمين يحارب فيه حتى يموت، وهنا تظهر الأحقاد القديمة، فيتمثل ابن زياد بقول الشاعر:
الآن إذ علقت مخالبنا به ... يرجو النجاة ولات حين مناص
فلا يقبل الجيش منه إلا أن يذهب إلى الوالي عبيد الله بن زياد ليرى فيه رأيه. يا سبحان الله، الحسين بن علي بن أبي طالب ابن فاطمة الزهراء صاحب السبق والسابقة في الإسلام يذل فيكون أسيرا في يد ابن زياد الذي لا يعرف له نسب! لذلك أبى الحسين - وكان أبياً - أن يجيبهم إلى ما طلبوا، وقال: كلمته النبيلة: لا والله، لا أعطيهم بيدي إعطاء الذليل، ولا أقر إقرار العبيد. ثم تظهر الأحقاد القديمة مرة أخرى، فيكتب ابن زياد إلى قائد جيشه: أما بعد فحل بين الحسين وأصحابه وبين الماء، ولا يذوقوا منه قطرة كما صنع بالتقي الزكي المظلوم أمير المؤمنين عثمان بن عفان. فحالوا بينه وبين الماء، ذلك الماء الذي يشرب منه اليهودي والنصراني والمجوسي يمنع منه ابن بنت رسول الله! ويعجبني ما كان يفعله الصاحب بن عباد، فانه كان إذا شرب ماء باردا حمد الله ثم قال: اللهم العن من منع الحسين الماء.
وجد الجد، وأمكن الناس دم الحسين، ولكن أكثرهم تهيبه. ومن قبل عرض علي والي المدينة، وكان ابن عم الخليفة أن يقتل الحسين أن لم يبايع فقال: والله ما أحب أن لي ما طلعت عليه الشمس من مال الدنيا وملكها، وأني قتلت حسينا. سبحان الله! أقتل حسينا أن قال لا أبايع، والله أني لأظن أن أمرا يحاسب بدم الحسين لخفيف الميزان.
وقد طال تردد رجال الجيش، وكان كل واحد منهم يتمنى أن يبوء غيره بدم الحسين، حتى تقدم شقيهم فأصاب الحسين، ثم تقدم الأشقى فذبحه - رضي الله عنه - كما تذبح الشاة.
وتصور لنا كتب التاريخ ما أصاب الذين اشتركوا في دم الحسين، فقد كان دمه شؤما على كل الذين أصابوا منه، فالفارس الذي احتز رأس الحسين لم يمهله الله إلا ليلة واحدة، فانه حمل الرأس، وذهب جذلان فرحا إلى والي الكوفة، وهو ينشد:
أوقر ركابي فضة وذهبا ... أني قتلت الملك المحجبا
خير عباد الله أما وأبا
فقال له الوالي: يا أحمق، إذا كان خير عباد الله أما وأبا فلم قتلته؟ اضربوا عنقه. والفارس الذي منعه الماء مات عطشان بالرغم من أنه كان يسقى الماء حتى يبغر، ثم يعود يشرب حتى يبغر، وما زال كذلك حتى لفظ أنفاسه. والشقي بحر بن كعب - وقد سلب الحسين لباسه - كانت يداه في الشتاء تنضحان الماء، وفي الصيف تيبسان كأنهما عود. وأما عمر بن سعد قائد الجيش فقد قتل - فيما بعد - في داره. وأما عبيد الله بن زياد والي العراق فقد قتل في ثورة المختار الثقفي، وذهبوا برأسه إلى علي بن الحسين فوصلوا إليه ظهرا، وهو يتغدى فقال: سبحان الله، ما اغتر بالدنيا إلا من ليس لله في عنقه نعمة. لقد أدخل رأس أبى علي عبيد الله بن زياد وهو يتغدى. وفي بعض الكتب أنه لما انتهب عسكر الحسين وجد فيه طيب فما تطيبت به امرأة إلا برصت. ثم خرجت الخلافة من أسرة معاوية بعد قليل، وكذلك كتب عبد الملك بن مروان لقائده الحجاج يقول: جنبني دماء أهل هذا البيت، فإني رأيت بني حرب سلبوا ملكهم لما قتلوا الحسين.
(وبعد) فإلى أي حد بلغت فظاعة هذه الجريمة؟ أن بعض السلف يجيبنا عن ذلك فيقول: لو كنت فيمن قتل الحسين ودخلت الجنة لاستحييت أن أنظر إلى وجه رسول الله ﷺ، بل يجيبنا عنه بعض اليهود حيث يقول لبعض المسلمين: أن بيني وبين داود سبعين أبا، وأن اليهود إذا رأوني عظموني وعرفوا حقي، وأنه ليس بينكم وبين نبيكم ألا أب واحد قتلتم ابنه. ثم ماذا، ثم ننشد مع السيد الحميري.
امررعلى جدث الحسين وقل لأعظمه الزكيه
يا أعظما لا زلت من وطغاء ساكبة رويه
وإذا مررت بقبره فأطل به وقف المطيه
وأنك المطهر للمطهر والمطهرة النقيه
كبكاء معولة أتت يوما لواحدها المنيه
ألا رضى الله عن الحسين، ولعن الذين منعوه الماء، وجازى قاتليه بما هم له أهل
علي العماري
المعهد العلمي - أم درمان