مجلة الرسالة/العدد 905/الغزالي وعلم النفس
مجلة الرسالة/العدد 905/الغزالي وعلم النفس
الإلهام
- 7 -
للأستاذ حمدي الحسيني
بعد أن ظهر جليا في المقال السابق أن الإمام الغزالي رحمه الله قد عرف اللاشعور وحقيقته والعقل الباطن وأسراره؛ نرى من الحق أن نتحدث عن بعض أسرار هذا العقل الباطن أو اللاشعور، تلك الأسرار التي وصل إليها الغزالي في دراساته للنفس البشرية، وقد يكون الحيال من أهم أسرار العقل الباطن في نظر الغزالي، ولهذا فقد أخذنا هذا الخيال الذي ذكره الغزالي في سياق حديثه عن العقل فوجدناه قد ألم به الماما حسنا شأنه في بقية المواضيع النفسية التي عالجها. وقد رأيناه يتخذ في بحثه هذا قاعدتين ثابتتين يرتكز عليهما في معالجاته لهذا الموضوع، وهاتان القاعدتان هما الإلهام والوسواس. وها نحن الآن نتحدث عن الإلهام مرجئين التحدث عن الوسواس إلى المقال القادم إن شاء الله.
والتخيل كما يصفه النفسيون هو استعادة الإنسان في ذهنه ما حصل عليه بالحس من قبل، وهو نوعان: التخيل الاستحضاري وهو أن تستحضر في نفسك ما كنت قد أدركته بحواسك من قبل غير قاصد التبديل فيه أو التغيير. وأما التخيل الإبداعي والابتكاري فهو التغيير في تركيب أجزاء المدركات الحسية السابقة ابتغاء شيء جديد. والأخيلة التي من هذا الطراز لا تدخل العقل مبتكرة وإنما تدخل العقل بجميع أجزائها من صور مختلفة متعددة معهودة إليه من قبل فيرتبها ترتيبا جيدا، وهذا ما يميز العباقرة في الفن والموسيقى والعلم والصناعة عن سائر الناس، على أنه مهما بلغت قدرة الفرد على الاختراع والابتكار في العلم أو في الصناعة أو في الأدب لا يأبى بشيء، كل ما فيه جديد. لأن الإنسان لا يخلق شيئا من عدم، وهذا التخيل الابتكاري يقسم إلى سلبي وإيجابي.
ففي التخيل السلبي لا يكون الإنسان مشرفا بإرادته إشرافا عمليا على عملية التخيل، ولا يكون لديه غرض معين يشعر به ويقصد إليه في تخيله، بل يمتطي خياله فيجمع هذا الخيال إلى الأماني والأوهام والوساوس وأحلام اليقظة. أما التخيل الإيجابي فالإنسان ير فيه إلى غرض محدود ويوجه تخيله في طريق معين ويجعله تحت رقابة عقله فيكون شاعرا كل الشعور بالعناصر التي يختارها، وأنه يوجه عملية التخيل نحو غرض معين، وهذا الغرض هو الذي يتحكم في اختيار العناصر والصيغة النهائية التي تصب فيها، ودرجة الإنشاء والاختراع فيه تختلف اختلافا كبيرا حسب اقتراب التخيل من الممكن أو بعده عنه. وكلما بعد التخيل الإيجابي عن الممكن اقتراب من الأوهام والوساوس.
وأما الإلهام فهو كما يقول النفسيون أيضا: يقولون هو التخيل اللاشعوري الذي يبرز فجأة من اللا شعور فيتجلى في الشعور واضحا بدون أي جهد يصرفه في سبيل تبيينه واستجلائه.
وهذا الظهور الفجائي ليس فجائيا كما يظن؛ وإنما هو نتيجة عمل طويل للا شعور، فعدم الشعور بالجهد فيه هو الذي يجعلنا نراه فجائيا ونعده إلهاما ووحيا وهذا الإلهام يسبق كل تحليل وتركيب فيمن الخاطر للعبقري، فجأة ثم يأخذ هو في تحليله وتركيبه من جديد.
ولنسمع بعد هذا كله ما يقوله الغزالي في هذه المواضيع يقول - لو فرضنا حوضا مجفورا في الأرض ويحتمل أن يساق إليه الماء من فوقه بأنهار تفتح فيه، ويحتمل أن يحفر أسفل الحوض إلى أن يقرب من مستقر الماء الصافي فتفجر الماء من أسفل الحوض ويكون ذلك الماء أصفى وأدوم. وقد يكون أغزر وأكثر، كذلك العقل مثل الحوض، والعلم مثل الماء، والحواس الخمس مثل الأنهار وقد يمكن أن تساق العلوم إلى العقل بواسطة الحواس، وقد يمكن أن تسد هذه الأنهار؛ بالخلوة والعزلة فيعمد إلى عمق العقل حتى تنفجر ينابيع العلم من داخله. ويقول أيضاً إن العقل تحصل فيه حقيقة الشيء تارة من الحواس مما سماه اللوح المحفوظ - أي من العقل الباطن - كما أن العين تحصل فيها صورة الشمس تارة من النظر إليها وتارة من النظر إلى الماء الذي يقابلها ويحكي صورتها. فإذا للنفس بابان باب مفتوح إلى الحواس الخمس، وباب مفتوح إلى العقل الباطن. وأما انفتاح النفس للاقتباس من الحواس الخمس فلا يخفى على أحد أما انفتاح الباب الداخلي فيعرف يقينا بالتأمل في عجائب الرؤيا واطلاع القلب في النوم على ما سيكون في المستقبل وما كان في الماضي من غير اقتباس من جهة الحواس.
ولنسمع الغزالي يتحدث عن حصول العلوم بالتجارب والتفكير في عقل الإنسان يقول: إن حصول العلوم المكتسبة في عقل الإنسان بالتجارب والفكر، فتكون هذه العلوم المكتسبة كالمخزونة عنده فإذا شاء رجع إليها وحاله حال الحاذق بالكتابة إذ يقال له كاتب وإن لم يكن مباشرا للكتابة مع قدرته عليها وهذه غاية درجة الإنسانية. ولكن في هذه الدرجة مراتب لا تحصى بتفاوت الخلق فيها بكثرة المعلومات وقلتها وبشرف المعلومات وخستها وبطريق تحصيلها إذ تحصل بعض العقول بالإلهام.
ولنصغ الآن إلى الغزالي يتحدث عن هذا الإلهام في الفصلين الكبيرين اللذين عقدهما على هذا الموضوع في الجزء الثالث من كتابه الجليل - إحياء علوم الدين - يقول إن العلوم التي ليست ضرورية وتحصل في العقل في بعض الأحوال تختلف الحال في حصولها؛ فتارة تهجم على العقل كأنها الغيث فيه من حيث لا يدري، وتارة تكتسب بطريق الاستدلال والتعليم. فالذي يحصل بغير طريق الاكتساب وحيلة الدليل يسمى إلهاما، والذي يحصل بالاستدلال يسمى اعتبارا واستبصارا. ثم الواقع في العقل بغير حيلة وتعلم واجتهاد ينقسم إلى ما لا يدري الإنسان كيف حصل له ولا من أين حصل، وإلى ما يطلع معه على السبب اذي منه استفاد ذلك العلم وهو مشاهدة الملك الملقى في القلب، والأول يسمى إلهاما ونفثا في الروح، والثاني يسمى وحيا، والأول تختص به الأولياء والأصفياء، والثاني تختص به الأنبياء. وأما العلم المكتسب بطريق الاستدلال فيختص به العلماء.
ولا بد هنا قبل أن نستمر في إيراد أقوال الغزالي من أن نبين أن الغزالي يستعمل في هذا البحث لفظة القلب بدل العقل، والعقل بدل العقل الواعي أو الشعور، واللوح المحفوظ بدل العقل الباطن أو اللاشعور، ولهذا فإننا نورد أقواله مع التصرف في هذه الألفاظ توضيحا للمعنى المقصود. يقول الغزالي. إن العقل مستعد لأن تنجلي فيه حقيقة الأشياء كلها وبحال بينه وبينها بأسباب تكون كالحجاب المسدل بين الشعور واللاشعور، وتجلى حقائق العلوم من مرآة الشعور يضاهي انطباع صورة من مرآة في مرآة تقابلها والحجاب بين المرآتين.
وقد ينكشف الحجاب عن عين الشعور فيتجلى فيها بعض ما هو منظور في اللاشعور ويكون ذلك تارة عند المنام وتارة في اليقظة. وانكشاف الحجب عن عيون الشعور ليتجلى فيها بعض ما هو مستور في اللاشعور يذكرنا برأي للعلامة النفسي الكبير (ينج) وقعنا عليه في تحليل له لبعض الشخصيات الكبيرة التي عرفها بذاته؛ وهو أن سر عبقرية ذلك الرجل كان في ائتلاف عقله الواعي مع عقله الباطن ائتلافا تاما بحيث ترد على عقله الواعي خواطر عقله الباطن تواردا حرا فيوافق عليها عقله الواعي موافقة تامة، ويشترك في تنفيذها اشتراكا كاملا. ويدهشنا جدا التوفق بين رأيي الغزالي قبل ثمانية قرون ورأي (ينج) قبل ثماني سنين في الإلهام الذي هو سر العبقرية وروح البطولة.
وأما طريق الحصول على هذا الإلهام في نظر الغزالي فهي صعبة شائكة لا يقوى على سلوكها إلا من توفرت فيهم الأسباب لمثل هذا الأمر العظيم. وأما الطريق فهي أن يستعد الإنسان الراغب في هذا الأمر بالتصفية المجردة وإحضار الهمة مع الإرادة الصادقة والتعطش التام والترصد بدوام الانتظار.
فالأنبياء والأولياء انكشف لهم الأمر وفاض على صدورهم النور لا بالتعلم والدراسة والكتابة للكتب؛ بل بتفريغ النفس من شواغلها والإقبال بكنه الهمة على الهدف وزعموا أن الطريق في ذلك أولا بالانقطاع للهدف بالكلية وتفريغ النفس عن كل ما سواه، وبقطع الهمة عن الأهل والولد والمال والجاه والولاية حتى يصبح في حالة يستوي فيها وجود كل شيء وعدمه. ثم يخلو بنفسه ويجلس مجموع الهم ولا يفرق فكرة بالقراءة والتأمل؛ بل يجتهد أن لا يخطر بباله شيء سوى هدفه فلا يزال بعد جلوسه في خلواته ذاكرا بلسانه هدفه حتى ينتهي إلى حالة يترك معها تحريك اللسان ويرى كأن الكلمة جارية على لسانه، ثم يصبر على ذلك إلى، أن يمحي أثره عن اللسان ويظل قلبه مواظبا على ذكر الهدف ثم يواظب عليه إلى أن تمحي عن القلب صورة اللفظ وحروفه وهيئة الكلمة. ويبقى معنى الكلمة مجردا من قلبه حاضرا فيه كأنه لازم له لا يفارقه وله اختيار إلى أن ينتهي إلى هذا الحد. وعند ذلك إذا صدقت إرادته وصفت همته وحسنت مواظبته فلم تجاذبه شهواته ولم يشغله حديث النفس بعلائق الدنيا تلمع لوامع الحق في نفسه.
ولا شك في أن هذه الطريقة التي ذكرها الغزالي للحصول على الإلهام هي الطريق التي تسلك أيضاً لإيجاد اليقين الذي يستولي على القلب. وعلى كل حال فهي الاستهواء الذاتي بعينه ولكنه من النوع القوي الذي يؤدي إلى ذلك الشيء الذي يسميه علم النفس الحديث بانقسام الشخصية.
حمدي الحسيني