مجلة الرسالة/العدد 905/كشاجم

مجلة الرسالة/العدد 905/كشاجم

ملاحظات: بتاريخ: 06 - 11 - 1950



للأستاذ عبد الجواد الطي

- 3 -

إذا كنا قد تحدثنا في المقال السابق عن ثقافة الرجل، فمما يتصل بهذا الموضوع أن نعرف شيئا عن أساتذته وتلاميذه، أو من تأثر بهم وأفاد منهم، وإن لم يبلغوا مرتبة الأستاذية، ومن تأثروا به، وإن لم يكونوا بالفعل تلاميذه.

ومما يؤسف له، أن مرجعا من المراجع التي بين أيدينا لم يحدثنا عن شيء من ذلك يذكر، حتى ليحار المرء فيما نسبوه إليه من ألوان العلم والمعرفة، دون أن يشيروا - ولو إشارة عابرة - إلى بعض مصادر هذه المعرفة وأصولها!.

وإذا كانت هذه حال المراجع التي ترجمت للشاعر، فليس لدينا إذن إلا أن نستهدي شعره عساه أن يوصلنا إلى شيء مما نبتغيه.

يحدثنا شعر كشاجم أنه قد اتصل ببعض الأطباء والمنجمين من معاصريه وقد مدحهم وأثنى على علمهم وإنتاجهم، ومن هؤلاء أبو جعفر أحمد بن إبراهيم المعروف بابن الجزار، الذي أثنى عليه كشاجم حتى بعد وفاته وذكر كتابه المعروف (بزاد المسافر)

أبا جعفر أبقيت حيا وميتا ... مفاخر في ظهر الزمان عظاما

رأيت على زاد المسافر عندنا ... من الناظرين العارفين زحاما

ثم هذا الأخ الصديق الذي يقول فيه:

الحمد لله قد وجدت أخا ... لست مدى الدهر مثله واجد

أسكن في صحتي إليه فإن ... مرضت كان الطبيب والعائد

طبايعيا منجما جدلا ... يجمع منه الكثير في واحد

فإنه وأن كانت صلة الشاعر بهذين وأمثالهما لا تبلغ أن تكون صلة الأستاذ والتلميذ، فإنهما على كل حال صلة الصديق بالصديق. والإنسان قد يفيد من معارف الإخوان والأصدقاء، لا من طريق التعليم والتعلم، وإنما من طريق المصادفات والمناسبات التي يتطرق إليها الحديث - والحديث ذو شجون - فتحصل الإفادة والاستفادة من طريق غير مباشر.

وليس لنا أن نقلل من قيمة هذا الاتصال كوسيلة من وسائل الثقافة لها أهميتها التي تزيد أو تنقص تبعا للظروف والملابسات، ولكنها لا يمكن أن تتلاشى أو تنعدم، فنحن نرى أن حافظ إبراهيم كان من المصادر الهامة في ثقافته اتصاله بالأستاذ الإمام، وسعد زغلول، ومصطفى كامل، وقاسم أمين. . فكان يفيد من مجالسهم في النواحي العلمية والاجتماعية، والسياسية ما ظهر أثره واضحا في شعره. حقا إن صلات حافظ كانت من طراز آخر غير صلات كشاجم، فجعلت من شاعر النيل شاعرا خلق لعصر جديد له نزعاته وميوله واتجاهاته التي لم تكن من سمات ذلك العصر الذي وجد فيه أمثال كشاجم.

وقد اتصل شاعرنا بأديب من معاصريه هو أبو بكر الصنوبري المتوفي سنة 334هـ، وقد نشأت بينهما صداقة قوية تنعكس واضحة في شعر الرجلين، وإذا شئت أن تتبين شيئا من ذلك فإنظر في قول كشاجم:

لي من أبي بكر أخو ثقة ... لم أسترب بإخائه قط

ما حال في قرب ولا بعد ... سيان منه القرب والشحط

جسمان والروحان واحدة ... كالنقطتين حواهما خط

أبا بكر اسلم للعودة والصفا ... فودك باق لا يحول ولا ينضو

متى يشق خل بالتغير من أخ ... خؤون فحظي من مودتك الخفض

فالصنوبري - كما ترى (أخو ثقة) لحميمه كشاجم الذي لم يشك يوما في إخلاصه ووفائه، فهو لم يتغير ولم يتنكر لهذا الحب سواء نأت داره، أو قرب مزاره، وإنما هو مخلص في كلا الأمرين، ووده باق في كلا الحالين، ولا يتحول ولا يحول، فإن كانا في عالم المادة جسمين اثنين، فهما في عالم الحب، والمثالية في الوفاء روح واحدة تجمع بين هذين الجسمين جميعا.

ثم هما قد يتبعان كما يفعل الخلصاء حين يحدث بينهما ما يدعو إلى ذلك، فنجد هذه الأخوة بارزة في هذا العتب الأخوي.

أتنسى زمانا كنا ... به كالماء والخمر

أليفين حليفين ... على الإعسار واليسر

مكبين على اللذات في ... الصحو وفي السكر

نرى في فلك الآداب ... كالشمس وكالبدر ثم إن الصنوبري عزيز على صاحبه أثير لديه إلى الحد الذي يقول معه:

ولو سفكت يداه دم ابن عمي ... أو ابني لم أثره ولم أعاده

ولو قتلى أراد قتلت نفسي ... له عمداً ليبلغ من مراده

ولا يخفى ما في هذين البيتين من مبالغة غير مقبولة، ولكنهما على كل حال يصوران هذه الأخوة الوثيقة بين الرجلين.

وإذا كنت قد لمست آثار هذا الحب بادية في شعر كشاجم، فأنظر معي في قول صاحبه:

إذا انتسب الثقاة إلى وفاء ... فحسبك بانتسابي وانتسابه

على أني وإن حزت الثريا ... فلست أقاس بعد إلى ترابه

ولو أقسمت أن المجد شيء ... له دون البرية لم أحابه

خليل كنت إن واريت شخصي ... رأت عيناك شخصي في ثيابه

حمامي في تنائيه ولكن ... حياتي حين يقرب في اقترابه

فأنت ترى أن الصنوبري قد أسرف في مجاملة صاحبه فلم يقتصر على أن غض من نفسه ورفع من قدر صديقه، ولكنه لو أقسم أن المجد شيء قد خص به كشاجم دون العالمين ما حنث في يمينه، ولا حابى صاحبه، وهذه لا شك مغالاة قد توحي - في بعض جوانبها - بأن الامتزاج والاختلاط بين الصديقين لم يصلا إلى درجة يسقط معها هذا التكلف، ولكن المسألة في ذاتها ربما لا تعدو أن تكون مبالغة شاعر ولا تعني شيئا غير الحفاوة بصاحبه والتعبير عن حبه له وتفانيه في إكرامه، كما يتفانى هو الآخر في إعزازه وتكريمه، ومع هذا فأنت تلمح - إلى جانب هذه المغالاة - آثار هذه الأخوة معتدلة مقبولة، لا تكثر فيها ولا تزيد، فإذا كان للثقاة أن ينتسبوا إلى الوفاء فهما خير من ينتسب إليه. . . فأنت إذا افتقدت أحدهما رأيته في شخص صاحبه.

ولعل هذه العلاقة القوية بين الرجلين كان لها أثرها في شعرهما ولا سيما في شعر كشاجم، الذي كان يجل صاحبه، فقد كان - على ما يبدو - أكبر منه سنا، وأشرف مهنة حينما اجتمعا في بلاط سيف الدولة حيث كان كشاجم طباخه والصنوبري خازنه. وربما دخل في حسابنا - إلى حد ما - أنه يعلوه أيضاً في الأصل والمحتد، فهذا عربي منسوب إلى ضبة بينما ذاك أعجمي. ثم إن له عليه من الأيادي البيضاء ما يردده كشاجم في شعره: كم نعمة منه حليت بها ... لا الشنف يبلغها ولا القرط

ويد له بيضاء ضاحية ... مثل الملاءة حاكها القبط

ولعل قائلا يقول: ما شأن هذا كله وتأثره بصاحبه في الناحية الأدبية؟ ولكن الواقع أن هذه الأشياء كلها تهيئ جوا نفسيا خاصا يلعب دوره في إكبار الرجل لصاحبه، وتأثره به، أو تأثره إياه، هذا إلى ما عساه أن يجده في صاحبه، أو في أدب صاحبه من محاسن يجدر - في نظره - احتذاؤها والنسج على منوالها، ولكن الجو النفسي يضفي عليها هالة تزيدها جمالا وجلالا، ومن هنا تدرك سر إعجاب كشاجم بأدب صاحبه وعلمه:

ذاكره أو جاوره مختبرا ... تر منه بحرا ما له شط

وجنان آداب مثمرة ... ما زانها أثل ولا خمط

ولعل النعم التي حلى بها كشاجم من صاحبه، والأيادي البيضاء الضاحية التي أسبغها عليه، والتي رددها كثيرا في شعره كما رأينا، لعلها لم تقف عند الناحية المادية وحدها، وإنما تعدتها إلى ما عساه أن يكون قد أفاده منه في الناحية الأدبية الصرفة، فأنت إن (ذاكرت) صاحبه وجدته البحر علما وأدبا، وإن (جاورته) وجدته البحر جودا وكرما، وهكذا نرى أن المسألة ليست مسألة المادة وحدها؛ وإنما هي مسألة العلم والأدب أيضا، وهكذا المعنى الذي نلمحه في شعر كشاجم إزاء صديقه الصنوبري نراه يصرح به تصريحا في مدحه للحسين بن علي التنوخي:

علمت عبدك أن يصعر خده ... كبرا وأبهة على أصحابه

بمواهب ضاعفن من أمواله ... ومذكرات زدن في آدابه

وإنا حين نشير إلى تأثر كشاجم بصاحبه الصنوبري هذه الإشارة الخاطفة، إنما نرجئ الكلام المفصل في ذلك إلى الحديث في شعر كشاجم فيما يلي ذلك من فصول، غير أننا نستطيع الآن أن نقول إن الصنوبري حين أفاد كشاجم من طريق إيجابي، أفاده أيضامن الناحية السلبية، فهو أحيانا ينتقد شعره ويكايده وليس في شك في أن هذا العمل من شأنه أن يطلع المرء على عيوبه التي قد تخفي عليه، ويدفعه عن طريق غير مباشر إلى سد هذا النقص، ومحاولة الوصول إلى الكمال:

وكايدني ولم أرقط أحلى ... من المعشوق لفظا في كياده معنى في انتقاد حلى شعري ... وفضل الشعر يظهر في انتقاده

ولو حاولت أن تزري ببدر ... طلبت له المعايب من سواده

ومهما يكن فإن الشخص الذي صرح كشاجم بأنه قد تلمذ عليه فعلا هو علي بن سليمان الأخفش النحوي المتوفى سنة 315هـ حين يقول في ثنايا قصيدة في مدحه:

وكي يمنحني تأديبه المحض وتخريجه

ومن أولى بتقريظي ممن كنت خريجه

فيبدو من هذا أن كشاجم كان تلميذا للأخفش، وإذا علمنا أن الأخفش كان نحويا أكثر منه شيئا آخر، عرفنا أن كشاجم قد أصاب على يده شيئا من النحو إلا يكن كفيلا بأن يسلكه في عداد النحاة، فإنه يكفيه إلى الحد الذي يحتاجه الأديب ولا يستغني عنه، وقد يطالعك هذا الجانب النحوي من ثقافة الرجل في هذه الأبيات التي قالها متندرا بهذا الذي يدعى النحو، وليس من النحو في شيء:

تشبه في النحو بالأخفشين ... فجاء بأعجوبة مطرفه

ولم يسمع النحو لكنه ... قرا منه شيئا وقد صحفه

فإن لم يكن أخفش الناظري ... ن فإن الفتى أخفش المعرفه

وقد سمع الأخفش أبوي العباس ثعلبا والمبرد، وفضلا اليزيدي وأبا العيناء الضرير. . . ودرس النحو واللغة وشيئا من الأدب. . . ولكنه لم يتوفر على الدراسة الأدبية توفره على الدراسة النحوية. ومع هذا يذكر ياقوت في معجمه نقلا عن المرزباني في المقتبس: (لم يكن (الأخفش) بالمتسع في الرواية للأخبار والعلم بالنحو، وما علمته صنف شيئا ألبته ولا قال شعرا، وكان إذا سئل عن مسائل النحو ضجر، وانتهر كثيرا من يواصل مسألته ويتابعها. وشهدته يوما وصار إليه رجل من حلوان كان يلزمه فحين رآه قال له:

حياك ربك أيها الحلواني ... ووقاك ما يأتي من الأزمان

ثم التفت وقال: ما نحن من الشعر إلا هذا وما جرى مجراه

وهكذا يتبين لنا أن كشاجم لم يفد من أستاذه كثيرا - وربما لم يفد شيئا - في الناحية الأدبية، إن لم يكن قد أضر به ذوق أستاذه الذي ليس هنالك في الميدان الأدبي.

وإذا كان كشاجم قد تأثر بهؤلاء الذين ذكرنا، فقد وجد بعض من تأثر به، ولا سيما السري الرفاء، الذي يقول فيه ابن خلكان: (وكان السري مغري ينسخ ديوان كشاجم الشاعر المشهور وهو إذ ذاك ريحانة الأدب، والسري في طريقه يذهب، وعلى قالبه يضرب. .) وقد بلغ من إعجابه به وتعصبه له، وكراهته للخالديين المعاصرين له أنه (كان يدرس فيما كتبه من شعره أحسن شعر الخالديين ليزيد في حجم ما ينسخه، وينفق سوقه، ويغلي شعره. . .)

عبد الجواد الطيب