مجلة الرسالة/العدد 907/القصص

مجلة الرسالة/العدد 907/القصص

ملاحظات: بتاريخ: 20 - 11 - 1950



قصة التباس

للأستاذ نجاتي صدقي

عثر سكان قرية انجليسيدس في جزيرة قبرص على جثة رجل مهشمة ملقاة على الخط الحديدي الممتد بين نيقوسيا وفاما غوستا، وسرعان ما عرفه أهلوه فهو البناء ياناغيس ستافري. فحملوه إلى القرية بين الولولة وقرع الصدور، فبكته زوجته طويلا، وذرف أولاده دموعهم السخية على جثمانه، وأقاموا الحداد في البيت، ورفعوا على دارهم اللواء الأسود وهو يحمل الأحرف الأولى من اسم الفقيد، كما هي العادة المتبعة في تلك الديار.

ثم شيع أهل ستافري وسكان القرية الفقيد إلى مقره الأخير وكان الناس يفدون إلى بيته بلا انقطاع مواسين معزين سائلين الله أن يجود ستافري بشآبيب رحمته ورضوانه.

وبعد مضي أربعة أيام على هذا الحادث ظهر ستافري في القرية فجأة، وقد أثار ظهوره بعد موته ضجة ولغطا لا حد لهما.

فمن سكان القرية من ظن بأن في الأمر شعوذة، ومنهم من ظن أن ستافري مات لكن روحه ظهرت في شخص آخر، ومنهم من أخذ يفكر جديا فيما إذا كان للشيطان إصبع في هذه القضية.

وعلى كل حال استقبل القرويون ستافري بحذر شديد، أما هو فلم يفقه شيئا من هذه الحالة الشاذة، لم يدر لماذا يرمقه الناس بنظرات التفحص والاستغراب، ولماذا رفع على بيته لواء الموت الأسود وهو يحمل الأحرف الأولى من اسمه، ولماذا استقبلته أسرته بمظاهر الترحيب والنحيب.

وبعد أن هدأت العاصفة واطمأنت النفوس زال الالتباس واتضحت الحقيقة.

كان ستافري قد أخبر زوجته مرة بأنه مسافر في طلب الرزق وأنه سيعود إليها في مساء اليوم ذاته، فذهب إلى قرية (انكورا) وعمل فيها في بناء جناح لديرها، وقد تطلب العمل في بناء هذا الجناح أربعة أيام متتالية لم يتمكن ستافري خلالها من إخبار زوجته عن مكان عمله، أو لم يجد لزوما لأخبارها لأنه أعتاد التغيب في طلب العمل.

وحدث في اليوم الثالث من سفره أن وجد سكان قرية انجليسيدس جثة مهشمة ملقاة على الخط الحديدي، وكانت الجثة شديدة الشبه بستافري فحملها القرويون على أنها ستافري نفسه، وأكدت زوجته بأنها جثة زوجها وقد عرفته من علامات فارقة.

وهكذا انقلب حزن القرية إلى فرح، وأنزل اللواء الأسود عن باب بيت ستافري، وعم السرور الجميع، فصاروا يفدون إلى بيته مهنئين مرحبين بعد أن أتوه بالأمس مواسين معزين.

وظلت قصة ستافري هذه مدار حديث القرية بل جزيرة قبرص بأسرها مدة من الزمن وقد نسوها الآن أو كادوا ينسونها.

أما ستافري وأسرته فلم ينسوا الحادث وهم لا يزالون حتى يومنا هذا يعالجون ذيوله، فهم لا يدرون من هو هذا الشخص الذي يرقد في قبر أسرتهم على أنه أحد أفرادها!. وهم لا يدرون لماذا لم يأت أحد يطلب جثة القتيل.

وأخيرا رفع ستافري قضية في المحاكم على أسرة مجهولة لقتيل مجهول يطلب فيها تعويضا بسبعين جنيها هي ثمن ألبسة ستافري الجديدة التي ترقد فيها الجثة المجهولة الهوية، وهيأيضاً نفقات جنازتها وما تبع ذلك من تضييقات وتوزيع مال على الفقراء.

وقد أصدرت المحكمة حكما في صالح ستافري فسيجري تنفيذه فور ظهور أسرة القتيل الغريب.

غير أن هذه الأسرة لم تظهر بعد!.

- 2 -

السيد سليم شخص دنيوي، يسهر الليالي ويجلس إلى المائدة الخضراء ويعاقر بنت الحان، ويماجن دون أن يعرف لهذه المماجنة حدا.

وفي صباح أحد الأيام وبينما كان السيد سليم في دائرته يقوم بأعباء وظيفته أحس بدوار شديد فحمله زملاؤه وأرقدوه على المتكأ فغاب عن الوجود إلى أن جاء الطبيب. وبعد أن فحصه قال، لقد عرفت كنه مرضه. فقيل له: وما هو؟ قال: انخفاض في ضربات القلب ناتج عن قلة النوم والإكثار من شرب الخمرة.

فقيل له: وكيف تعالجون هذه الحالة. فأجاب الطبيب هاكم العلاج: وصفع السيد سليم بضع صفعات على وجهه، وإذا به يثب متنمرا (قائلا): أين أنا؟. وما لكم مجتمعين حولي؟. . وما سبب وجود الطبيب هاهنا؟. .

فانتحى به الطبيب جانبا (وحدثه بما يجري وأفهمه بأنه اضطر إلى صفعه ليعيد إليه شعوره، فشكره السيد سليم على حسن صنيعه هذا.

وبعد مضي شهر تقريبا على هذا الحادث التقى السيد سليم في أحد الشوارع بجماعة من الناس ملتفين حول رجل مستلقي على الأرض وهو في غيبوبة تامة. . وتدل ألبسة الرجل على أنه من المتعطلين الفقراء، كما تدل صحته على أنه من المحتاجين الجائعين.

فشق السيد سليم طريقه بين الجمع وهو يصرخ: ابعدوا عنه ابعدوا فعلاج هذا الرجل عندي! ثم تقدم من الرجل البائس ورفعه عن الأرض قليلا وأسند رأسه إلى الحائط وأخذ يصفعه على وجهه بشدة. . وما هي إلا ثوان حتى شهق البائس شهقة وأسلم الروح!

فنهض السيد سليم وشق طريقه بين الناس المشدوهين وصرخ فيهم قائلا: أتريدون مني أن أحيي الموتى؟!

نجاتي صدقي