مجلة الرسالة/العدد 907/تعقيبات

مجلة الرسالة/العدد 907/تعقيبات

ملاحظات: بتاريخ: 20 - 11 - 1950



للأستاذ أنور المعداوي

برناردشو في الميزان:

الذين يعرفون (شو) على حقيقته، يعرفونه من وراء هذه (اللافتات) الضخمة التي تكشف عن جوانبه وتشير إليه: لافتة العقل الساخر، ولافتة القلب الشاعر؛ ولافتة الكبرياء النفسية، ولافتة الطاقة الفنية. . وليست هي باللافتات التي تعلو إنتاج غيره من الكتاب فتلفت منك النظر دون أن تدفعك إلى إطالة الوقوف، ولكنها اللافتات (المضيئة) التي تجذب نظرك وفكرك، وتختبر أشعتها على القرب والبعد فلا يخبو لها بريق. وبهذه اللافتات (المضيئة) كما قلت لك، استطاع برناردشو أن (يبصر) مواضع قدميه في طريق الفن. . وطريق الحياة!

والسخرية في حياة (شو) هي المع اللافتات جميعا، بل هي الإطار الطبيعي الذي يحيط بكل صورة من صور هذه الحياة وهي في فنه نقطة الارتكاز التي يلتقي عندها خط الاتجاه النفسي الممتد من هنا وخط الاتجاه الفكري المنطلق من هناك. . وهي في حياته وفنه معا ذلك المعبر العظيم لإنسانية القلب وكبرياء النفس وأصالة الموهبة. وتضغط أنت على (زر) نفسي واحد لترسل التيار الكهربائي إلى هذه اللافتة الكبرى لتصبح (مضيئة) وتفسر على (ضوئها) ما تحمل اللافتات الأخرى من (ألوان) نفسية. . ما هو هذا الزر النفسي الذي يضيء لافتة السخرية عند (شو)، أو ما هو (مفتاح النور) لهذه الملكة الفذة التي غطت على غيرها من الملكات؟ أنه السخط. . السخط المتأصل في أعماق النفس منذ القدم على بعض القيود والأوضاع!

هذه الملكة النادرة عند هذا الكاتب العظيم، أنبتتها (الوراثة) وأنضجتها التجربة، وتولتها الموهبة بالعرض والتقديم. . لقد ولد في مهد العاقة فسخط، وبدأت حياته وانتهت وهي سلسلة من السخط المدثر بأثواب السخرية لقد سخط على الأغنياء لأنه تذوق طعم الفقر وسخط على الاستعمار لأنه نشأ حر الفكر، وسخط على العاجزين لأنه شجاع يؤثر الغلبة والاقتحام. . ثم أفرغ هذه الطاقة الساخطة في ذلك القالب الساخر؛ الساخر من شتى المثل والقيم والتقاليد! لقد كان السخط هو المنبع الأصيل الذي انبثقت منه سخرية (شو)، لتنال برشاشها اللاذع كل ما يدخل في دائرة عقلية من مظاهر الإنكار. . وما هي السخرية على التحقيق إذ لم تردها إلى أصولها النفسية من السخط الثائر على أمر من الأمور؟ إنك لا تسخر من وضع في الحياة إلا إذا كنت ساخطا عليه، لأن السخرية في جوهرها ما هي إلا اتجاه عقلي إلى الحط من قيمة هذا الوضع، والتعرض له بفنون من الهدم والتجريح! والسخط لون من ألوان الثورة بلا جدال، ولكنه عند (شو) ثورة عقله مهذبة، هدفها التحطيم بالقلم واللسان، ومادتها السخرية التي تؤثر الهدم بالقول الجارح وتفعل بالظهور ما لا تفعل السياط. . هو ساخر في حياته وساخر في فنه، وبهذه السخرية القادرة نظر إلى الحياة والفن من زواياه الخاصة، وسلط عليهما أضواءه الخاصة، وأختلف مع كل المصورين في لقطاته البصرية والنفسية!

ولم تكن سخرية (شو) هي سخرية العاجزين حين يشكو النقص فيتندر على القادرين، ولكنها سخرية المشرف على الدنيا من فوق قمة عالية، تريه الأشياء صغيرة مسرفة في الصغر ضئيلة مغرضة في الضآلة. ومن هنا أمتزجت السخرية في دمه بالكبرياء، سخرية العقل بكبرياء النفس، ثم أنصهر هذا المزيج العجيب في بوتقة الحياة فنشأت عنه هذه النزعة الإنسانية التي تتسم بالعطف على الشعوب الفقيرة والمحتلة على حد سواء. إنها نبضات القلب الكبير، القلب الذي تقلب يوما على أشواك الفقر فقاد خطوات صاحبه إلى الطريق (الاشتراكية)، وناء يوما بثقل القيد فوجه قلم صاحبه إلى مهاجمة الاستعمار!

ولا بد من التفرقة بين التهكم والسخرية وبين المرح والدعابة في حياة الموهوبين، أعني لا بد من هذه التفرقة بين كاتب مثل برناردشو وبين كاتب آخر مثل مارك توين. . إن (التريقة) عند (شو) أساسها الطبيعة الساخرة المتركزة على أطراف كلمة ساخرة، هدفها رفع القناع عن وجه مشوه من وجوه الحياة. ولكن أساسها عند مارك توين هو الطبيعة المرحة التي تنشد المزاج لغرض بريء، وهدفها أن النكتة قد (حبكت) فلا مفر من تسجيلها ليضحك هو ويشرك معه الناس ولكي نوضح الفارق بين الطبيعتين نقتصر هنا على نادرتين من حياة هذا وذاك على سبيل الموازنة بين الدعابة والسخرية: أما النادرة الأولى فتصور لنا مارك توين سائرا في أحد شوارع نيويورك مع نفر من أصحابه، حين تقدم إليه أحد مشوهي الحرب ليهمس في أذنه: سيدي، هل تتصدق على رجل (فقد) ساقيه؟ وينظر إليه الكاتب (المرح) متظاهرا بالدهشة وهو يقول: عجيب كيف لم تعلن في الصحف عن هذه الأشياء المفقودة؟. ويغرق هو في الضحك ويغرق معه أصحابه، ويبتسم الرجل معجبا بالدعابة ثم يمد يده ليأخذ من مارك توين نفحة مالية كأجر للإعلان أما النادرة الثانية فتصور لنا برناردشو في أحد مسارح لندن، يرقب من مقصورته عرض إحدى مسرحياته الناجحة، ويصغي في ختام العرض إلى هتاف بعض أبناء وطنه: تحيا أيرلندة. . وحين يتناهى إلى سمعه هتاف آخر ينطلق من بعض الحناجر الإنجليزية: تحيا جهنم. . يقف الكاتب (الساخر) ليعقب على الأصوات المتنافرة بقوله: أيها السادة، لا يسعني إلا أن أحيي الفريقين، لأن كليهما يهتف لوطنه. . ويذهل الخصوملأنالصفعة القاسية قد وقعت على غير ترقب وانتظار.

أرأيت إلى الفارق بين المداعبة البريئة وبين السخرية اللاذعة؟ إن مارك توين هناك يريد أن يداعب وأن يضحك وان يمزح، ولكن برناردشو هنا يريد أن يغمز وأن يلمز وأن يجرح وهي بعد ذلك سخرية موشحه بالترفع ملفعة بالكبرياء. ومن مظاهر الكبرياء في حياة (شو) أن يهاجم التقاليد الإنجليزية في كل مناسبة تدعوه إلى الهجوم، وسخر من المثل الإنجليزية في كل فرصة تهيئ له أسباب السخرية، في الوقت الذي كانت فيه أيرلندة وطنه الأول، تئن تحت ضغط الاستعمار البريطاني. . ثم لا يقف بكبريائه عند هذا الحد المقبول ولكنه يندفع بها إلى ما وراء المعقول فيمتدح الشيوعية الروسية وينعت قطبها الأكبر (ستالين). . بأنه خير الناس ترى هل كان (شو) يؤمن بهذا الذي يجهر به أم أن سخطه على الرأسمالية عامة وعلى الشعب البريطاني خاصة هو الذي كان ينطقه بغير ما يعتقد ويظهره بغير ما يريد؟ الحق أنه السخط من جهة والإيمان بالرأي من جهة أخرى. . وليس هناك شيء من العجب إذا ما أحدثت كلمات (شو) في نفوس البريطانيين أثرها العميق، لأن هذا الكاتب الساخر يخفض من كل ما لهم في الحياة من مثل ويرفع من كل ما لهم في الحياة من خصوم، ويبعث التاريخ من مرقده حين يعيد إلى أذهانهم قصة قديمة، قصة (بايرون) شاعرهم الطريد، يوم أن خلد عدو الإمبراطورية في عدد من قصائده المحلقة في (تشايد هارولد) لقد أعجب بايرون بنابليون وأعجب شو بستالين، وفر الأول من سخط الشعب البريطاني بعد أن شيعه الرجال باللعنات وودعته النساء بالبصقات. . ومات - وهو الإنجليزي - فوق أرض يونانية! وصمد الأخير في وجه هذا السخط لأنه كان أقدر القادرين على الصمود. . ومات - وهو الايرلندي - فوق أرض إنجليزية!!

ومن العجيب أن يفقد (بايرون) عطف الشعب الإنجليزي واحترامه ويخرج من بلاده وهو منبوذ طريد، وأن يحظى (شو) باحترام هذا الشعب ويعيش بين أبنائه وهو مرهوب الجانب مرفوع المقام. . ويبطل العجب حين تفسر هذه الظاهرة على هدى هذه الحقيقة النفسية؛ الحقيقة التي تقول لك على لسان (سلم الخاسر) في بيت واحد من الشعر كأنما كان يعني (بايرون) بشطره الأول ويقصد (شو) بشطره الأخير:

من راقب الناس مات غما. . وفاز باللذة الجسور!!

هذه هي اللافتات المضيئة في حياة (شو): لافتة العقل الساخر، ولافتة القلب الشاعر، ولافتة الكبرياء النفسية. وتبقى بعد ذلك هذه اللافتة الأخيرة، لافتة الفكر في الكاتب المفكر أو لافتة الفن في الكاتب الفنان.

هل هو فيلسوف حقا كما يذهب إلى خلع هذه التسمية عليه كثير من الكتاب؟ إن لبرناردشو آراءه القيمة وأفكاره الناضجة بلا جدال، له هذه الآراء والأفكار في محيط السياسة والمجتمع والاقتصاد والأخلاق، وطالما تعرض له هذه الشؤون المعقدة في عصره بالنقد والتعليق والتوجيه، يصبها في أسلوبه الساخر اللاذع الهدام الذي يحاول أن يقيم بناءه الخاص على ركام الأنقاض. . . ومن هنا يتحدث الكتاب عن فلسفته السياسية والاقتصادية والخلقية والاجتماعية إلى آخر ما يضيفون إليه من فلسفات!

أما أن (شو) كان مصلحا اجتماعيا فأمر لا يجادل فيه ولا يختلف عليه، فهو من هذه الناحية صاحب رسالة يؤديها على الوجه الأكمل ويقف في سبيل الذود عنها موقف كل مؤمن راسخ العقيدة برسالته قوى الإيمان. ولك أن تعده في الطليعة من أصحاب الرأي في عصره، حين يكون للرأي قيمته في عرض ما يزخر به العصر من ألوان المشكلات. كل هذا حق يعترف به المنصفون حين يضعون الرجل في كفة المواهب الفكرية والإنسانية؛ ولكنه على مدار هذا كله كاتب مفكر وليس بفيلسوف. . إن كل فيلسوف يجب أن يسلك في عداد المفكرين وليس من الحتم أن يسلك كل مفكر في عداد الفلاسفة! هذا إذا حددنا الفلسفة بأنها (المذهب) الفكري الكامل في ناحية من نواحي الحياة، المذهب الذي تتكون منه الأصول والفروع وتتولد عنه البحوث والأفكار، وتقام عليه الفوائد والنظريات وتحدد له الأهداف والغايات. . فإذا أمكن بعد هذا (التحديد) أن نساير بعض الكتاب حين ينسب (الفلسفة) إلى برناردشو أمكن أن نجاري البعض الآخر حين يلصق (الفلسفة) بأبي العلاء!!

ونعرج بعد هذا على الكاتب المسرحي الذي قدم للمسرح من الأعمال الفنية ما يربى على الخمسين. . ما هي قيمته في رأي الفن وميزان النقد؟ أما أنه يفهم الأصول الفنية الكاملة لكتابة المسرحية الحديثة فأمر لا يجادل فيه أيضاً ولا يختلف عليه، وحسبه في ذلك أنه تلميذ مخلص لعميد الأدب المسرحي الحديث (هنريك أبسن)! لقد أخذ (شو) عن (أبسن) وتأثر به وتتلمذ عليه، حتى أصبح النقاد لا يذكرون اسم هذا إلا مقترنا باسم ذاك، لما بين الاسمين من صلات الفن وقرابة الروح. . كل ما يأخذ النقد على (شو) أنه سخر فنه المسرحي لخدمة آرائه الخاصة ونقل أفكاره الخاصة؛ تلك التي تدور حول فهمه الخاص لمشكلات العصر وما فيها من قيم لا يرضى عنها وعادات ومعنى هذا أن الواقعية في مسرحيات الكاتب الأيرلندي واقعية لا يقبلها منطق الحياة في بعض الأحيان، لأن منطق الحياة هو منطق المجتمع العام في كل ما هو معروف ومألوف من المثل والأوضاع!

هذه كلمة لا تعطيك صورة واضحة لشخصية (شو) كما هي في واقع الفن وواقع الحياة، ولكنها تقدم إليك المفاتيح الصادقة لهذه الشخصية لتعالج بها ما شئت منأبواب. . وبخاصة وقد أصبح الرجل العظيم في ضيافة الخلود!!

أنور المعداوي