مجلة الرسالة/العدد 908/عسل النحل بين الطب والإسلام

مجلة الرسالة/العدد 908/عسل النحل بين الطب والإسلام

مجلة الرسالة - العدد 908
عسل النحل بين الطب والإسلام
ملاحظات: بتاريخ: 27 - 11 - 1950



للدكتور حامد البدري الغوابي

يقول الله سبحانه (وأوحى ربك إلى النحل أن اتخذي من الجبال بيوتاً ومن الشجر ومما يعرشون، ثم كلي من كل الثمرات فاسلكي سبل ربك ذللاً يخرج من بطونها شراب مختلف ألوانه فيه شفاء للناس، إن في ذلك لآية لقوم يتفكرون) صدق الله العظيم.

هذا هو إعجاز القرآن لا من جهة أسلوبه وما يملك من قوة ولسن وروعة فن؛ إنما هو إعجاز كشف الله به حجاب العلم.

فتأمل النحل وأحوالها، ومملكتها وأجنادها، وانظر إلى بيوتها وخلاياها مسدسة أشكالها، متقاربة أوضاعها، محكماً صنعها بنتها بغير مقياس أو آلة، إنما ألهمها ربها فنها، وأوحى لها أن اتخذي من الجبال بيوتاً ومن الشجر ومما يعرشون، فأطاعت أمر ربها، واتخذ فريق منها بيوتها في بعض الجبال سكنا، واتخذت طائفة أخرى الفجوات في الأشجار بيتا ومأوى، كما اتخذ فريق ثالث بيوت الناس حيث يعرشون أي حيث يبنون لها العروش.

ولكي نفهم هذه الآية حق الفهم، يجب أن نعرف شيئاً عن النحل ومملكته ونظامها فهي مملكة ذات نظام وتنسيق، وقد أولع بها العالم (مرالدي) فصنع خلية من الزجاج راقب فيها أفرادها فرأى عجبا أنطق لسانه بالإقرار بقدرة الخلاق.

كل فرد في هذه المملكة له عمل، لا تقاعد ولا كسل، وهذا النشاط في الخلية أصبح يضرب به الأمثال، مما دعا أحد الحكماء في نصحه لتلاميذه أن يقول (كونوا كالنحل في الخلايا فهي لا تترك عندها متبطلا إلا نفته وأبعدته وأقصته عن الخلية لأنه يضيق المكان ويفني العسل ويعلم النشيط الكسل) وهذا ما تفعله عاملات النحل بالذكور إذا أقبل الشتاء ببرده القارس واستعدت الخلية للبيات فتنقض على الذكور فتقتلها.

أجل!! ليت الإنسان قد أخذ من النحل في نشاطها المثل، فللنحل دوى ولكن يعمل؛ والإنسان قد تسمع له جعجعة ولا ترى طحنا.

وأفراد الخلية يطيعون الملكة ولا يعصون لها أمراً، وهي ملكة واحدة وظيفتها وضع البيض وتدبير العمل وتوزيعه على بقية الأفراد، ورحم الله شوقي حيث قال:

يا ما أقل ملكها ... وما أجل خطره قف سائل النحل به ... بأي عقل دبره

تجبك بالأخلاق وهي ... كالعقول جوهره

تغني قوي الأخلاق ما ... تغني القوى المفكره

ويرفع الله بها ... من شاء حتى الحشره

ثم يوجد في هذه المملكة بضع مئات من الذكور وظيفتها التلقيح، ثم توجد عدة آلاف من العاملات التي يدور عليها رحى العمل، فمنها التي تبني عيون الشمع بترتيب هندسي منظم يعجز عنه الفنان المعلم، وفي هذه العيون يخزن العسل وتضع الملكة البيض، ومنها التي تجمع الرحيق فيتحول بطريقة خاصة في معدتها عسلا ثم تلفظه شراباً فيه شفاء للناس، هو الشهد المصفى والسكر المكرر، ومنها التي تحمل الماء، ومنها المدافعات عن الخلية، فتلسع من يعتدي عليها سواء كان إنسانا أو حيوانا أو حشرة أو نحلة غريبة من خلية أخرى، ومنها ما تشتغل بتنظيف الخلية من الداخل، إلى آخر ما يرى من نظام في العمل بديع، وترتيب وتنسيق. والآن نتمم الكلام عن هذه الآية الكريمة، فبعد أن أوحى الله إليها بسكناها قال (ثم كلي من كل الثمرات فاسلكي سبل ربك ذللا) فالنحل تسلك في الوصول إلى الحقول حيث الثمرات طرقاً ملتوية، ولكنها لا تضل على بعدها السبيل إلى الخلية، بل هداها الله أدراجها، وآتاها أبراجها، وجعل سبلها سهلة ميسرة، فقد تسلك بضع كيلومترات ولكنها لا تستوعر طريقها، وبعد أن ترتشف من الأزهار رحيقها، ترده عسلاً صافياً يخرج من بطونها مختلفا ألوانه بين الأحمر والأصفر والأبيض، وذلك باختلاف الرحيق الذي ترتشفه، فإنها إن ارتشفت من أزهار البرسيم مثلا، كان العسل فاتح اللون، وإن وقعت على بعض أزهار الفاكهة كان العسل أغمق لونا.

العسل من وجهة الدين

قرر القرآن الكريم أن الشراب الذي يخرج من بطون النحل شفاء للناس من أدوائهم. وحدث رسول الله عنه فقال (العسل شفاء من كل داء، والقرآن شفاء لما في الصدور، فعليكم بالشفاءين العسل والقرآن) هذا وقد عالج رسول الله شكاة البطن بالعسل إذ جاءه رجل فقال إن أخي يشتكي بطنه فقال اسقه عسلا، ثم أتاه الثانية فقال اسقه عسلا؛ ثم أتاه الثالثة فقال اسقه عسلا؛ ثم أتاه فقال قد فعلت. قال صدق الله وكذب بطن أخيك، اسقه عسلا فسقاه فبرئ.

والآن سنرى أن الطب يرى في عسل النحل ما قرره القرآن من قبل، ويقر علاج الرسول لشكاة البطن.

العسل من وجهة الطب

وقبل أن نتكلم عن فوائد العسل الطبية نذكر طرفا عن تركيبه الكيماوي:

العسل به 16 ? ماء، ومن 30 - 45 ? سكر فواكه (ليفيلوز)، ومن 25 - 40 ? سكر العنب (جلوكوز)، و1 , 9 ? سكر قصب، وحديد وبوتاسيوم وصوديوم وكبريت ومغنيسيوم وحامض فسفوريك وحامض فورميك ومواد عطرية 3. 8 ?.

فنرى أن العسل يحتوي على مواد يحتاج إليها الجسم كالحديد والفوسفات وغيرها بخلاف ما فيه من سكريات.

أما الجلوكوز الموجود فيه فهو بيت القصيد، فهو يعطى الآن في الطب دواء وحقنا تحت الجلد وفي الوريد ويعطى حقناً شرجية أيضاً كمغذ ومقو، وهذه الحميات كالتيفود وغيرها، وهذه النزلات المعدية والمعوية وما يكتنفها من قيء وإسهال، وهذه الأمراض المزمنة كضعف القلب، وهذه التسممات من احتباس البول مثلا أو من مواد خارجية كالزرنيخ، كل هذه الأمراض يفيدها الجلوكوز ويسير بها إلى طريق الشفاء.

وكم رأينا من مريض منع في علاجه عن الأطعمة، فكان سكر الجلوكوز هو الغذاء والدواء، فهو سهل في امتصاصه سريع في فائدته.

وكم رأينا من طفل صغير أصابته الإسهالات التخمرية من استعمال المواد السكرية، فلما وضع له العسل في اللبن بدلاً من السكر، استفاد جسمه وتحسنت حالته، حيث أنه سهل هضمه، سريع امتصاصه، فلا يجهد الغدد في تحليلها، ولا الخمائر في تحويلها، كما أنه لا يسبب غازات بالأمعاء. وتلك ميزة عظيمة من ميزات العسل.

هذا فضلا عن أن العسل لا يتلف الأسنان كالمواد السكرية، بل أنه لتعالج به اللثة في الأطفال عند التسنين، وذلك بأن تمسح اللثة المحتقنة بالعسل، وما معظم الأدوية المسكنة للثة إلا ويدخل في تركيبها عسل النحل.

وكم رأينا من مريض بالبول السكري وهو من احتمى في غذائه من السكريات، إذا أصيب بغيبوبة من تسمم السكر كان الجلوكوز مع الأنسولين هو الدواء الوحيد المنقذ، وكأنما يسري عليه القول (وداوها بالتي كانت هي الداء).

حتى إن أولاد مرضى السكر عند بدء ولادتهم يعالجون بالجلوكوز، فإن الأم المريضة بالسكر يولد طفلها ونسبة السكر في دمه قليلة في الساعات الأولى من حياته، فيعطى سكر الجلوكوز فوراً لتعويض هذه القلة بمقدار خمس نقط في الفم من محلول جلوكوز خمسين في المائة كل نصف ساعة في الست ساعات الأولى من حياته، وإلا فإنه يكون عرضة للموت نتيجة قلة السكر في الدم.

وللعسل تأثير ملطف يزيد في إفرازات الفم فيفيد في حالات صعوبة الابتلاع وجفاف الزور وفي حالات السعال الجافة. ولذلك أدخل طبياً في تركيب كثير من الغراغر وأدوية السعال، وكان يصفه (جالينوس) في آلام الصدر، وسبق أن أرشد النبي عن ذلك فقال (نعم الشراب العسل يرعى القلب ويذهب برد الصدر).

والعسل ملين لطيف، فابدأ صباح كل يوم بتناول ملعقة كبيرة منه تستفد غذاء وتجد فيه مليناً.

وقد أثبتت التجارب التي عملت بمعهد باستير أن كيلو العسل يفيد الجسم بما يوازي 3 ونصف كيلو لحم و12 كيلو خضروات.

والعسل معقم ومضاد للفساد لأن أي ميكروب لا يستطيع أن يعيش فيه طويلا إذ أن درجة تركيز العسل تجذب الماء من أجسام الجراثيم فتبيدها.

وقد يسأل سائل لماذا لا يكون في الفواكه التي تشبه العسل في طعمها، ما في العسل من الفائدة؟ فنقول إن السكر الذي بها هو سكر القصب أو أنواع أخرى ليس لها ما للجلوكوز من مميزات علاجية؛ كما أن الفواكه لا تحتوي من الجلوكوز إلا على نسبة ضئيلة لا تغني شيئا.

ولا يفوتني هنا أن أنوه بسائل آخر يخرج من بطون النحل من مؤخرة الجسم عن طريق آلة اللسع وهو سم النحل، جعل فيه شفاء لبعض الأمراض، إذ قد لسع النحل بطريق المصادفة مريضاً بالروماتيزم بجوار مفصله المريض وكان عجباً أنه شفي بعد اللسع، ذلك حدا بعض المعامل إلى إجراء أمثال هذه التجارب على مرضى الروماتيزم واللمياجو (روماتيزم في الجزء القطني من الظهر) والسياتيكا (عرق النسا).

ثم هناك الشمع الذي تفرزه النحلة من غدة خاصة بين حلقات بطنها، فيخرج أولا كصفائح رقيقة صلبة تتلعقها النحلة في فمها وتمضغها فتلين من صلابتها ويسهل بذلك تشكيلها في صنع الحجرات الصغيرة السداسية ذات الشكل الهندسي الرائع.

وقد استعمل الشمع قديما في صناعة شموع الإضاءة وحديثا في الطب كأساس في صنع المراهم والدهانات المرطبة (الكريم).

وأخيراً وليس أخرا جرب الدكتور الأمريكي (ايكارت) علاج لسعة النحل بمسها بالعسل فهدأ الورم وسكن الألم.

سبحانك اللهم، ألهمت مملكة النحل فدبرت ملكها ونظمت جندها، ألبستها الخيرات وأطعمتها الزهرات وسخرتها للناس بالعسل طاهيات، فهي إن دوت روت، وإن طعمت أطعمت وإن لسعت نفعت.

فهل رأيت النحل عن ... أمانة مقصره

ما اقترضت من بقلة ... أو استعانت زهره

أدت إلى الناس به ... سكرة بسكره

سبحانك ربي هذا كتابك شفاء نافع ودواء ناجع ولكن ما أقل المستشفين به، وهو علم ونور يقف أمامه الجامد المنكر وقفة الأخيذ الحيران. وإلا فهل كان عند نزول القرآن منذ أكثر من ثلاثة عشر قرنا يعرف ما في عسل النحل من مركبات وهي لم تعرف إلا حديثاً، أم كان يعرف الجلوكوز وأنه سيستعمل يوماً، دواء للأدواء ولكنه علم من هو فوق كل ذي علم عليم.

وإلى فرصة أخرى لنوالي أحاديثنا عن الطب والإسلام تذكرة وعبرة لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد.

الدكتور حامد الغوالي

طبيب أول مستشفى رعاية الطفل بالجيزة