مجلة الرسالة/العدد 909/تحية إلى صديق راحل

مجلة الرسالة/العدد 909/تحية إلى صديق راحل

ملاحظات: بتاريخ: 04 - 12 - 1950



للأستاذ محمود رزق سليم

توفي الصديق الكريم، عبد العزيز المراغي، في صباح الخميس 16 نوفمبر عام 1950 م. فخبا بوفاته نجم لامع، وتوارت ومضات أمل ضاحك. وقد لاقى ربه بعد مرض لم يمهله، ولم يشفق عليه، وهو شاب القلب، فتى الفؤاد، يقظ الرأي، متوثب الرجاء، يعد نفسه إعدادا ممتازا لمستقبل سعيد يخدم به دينه ومليكه ووطنه.

وقد تلقى أصدقائه وعارفوا فضله خبر وفاته بقلوب فاجعة، وعيون ذارفة، ونفوس ولهى، وشعروا كأن ساعدا قويا قد اختطفه من بينهم على غرة، ويدا خالسة قد استلبته منهم على غير أهبة. ولكنه الأجل الوافي، والقدر المحتوم، والموت النقاد.

وقد نعاه الناعون ما بدا لهم النعي، ورثته الصحف ما عن لها الرثاء. وذكروا طرفا من أخبار حياته الحافة وبقى منها الشيء الكثير.

وقد كان عبد العزيز واسع الأفق في نواح من الحياة كثيرة. فقد هيأت له ملابساته - مع ذكائه وفطنته - أن تكشف له كثيرا من حقائقها، كما دفعته إلى تجربة الأمور وملاحظتها. فاكتسب من وراء ذلك مرانه وخبرة، وحنكة وحسن بصر بالأمور ومعالجتها.

وقد كان منذ صغره مشغوفا بأخيه الأكبر الأستاذ الإمام المراغي، ويرى فيه نموذجا ساميا يقتدي به. وقد جمعت بينهما ظروف الحياة، أكثر مما تجمع بين شقيقين. فرحل معه إلى السودان، وتعلم بكلية غوردون. ثم عاد إلى مصر فاندمج في سلك طلاب الأزهر، مبرزا بينهم حتى تخرج به بأرقى شهاداته حينذاك. وأرسل في بعثة علمية إلى إنجلترا، فلبث فيها زهاء خمسة أعوام، ازداد فيها علما بالحياة، ومعرفة بمذاهبها ومآتيها. وتخصص في دراسة التاريخ الإسلامي وتاريخ الأديان، وهما من أهم المواد الثقافية صقلاً للأذهان ودعما للتجارب وتبليغا إلى الحق.

ولما بلغ أخوه الأكبر مرتبة المشيخة الجليلة، للمرة الثانية، كان عبد العزيز - وبخاصة بعد عودته من إنجلترا - أشد سواعده القوية، ومن أقرب مستشاريه إلى نفسه. فحمل معه شيئا من العبء، على مقدار طاقته وجهده. وطبعي أن يصبح في ذلك الحين، موضعا للأمل والآملين، كما كان محطا للنقد والناقدين.

وقد استطاع عبد العزيز في هذه الحقبة - وهو على كثب من أمور الأزهر - أن يدرسها ظاهرها وباطنها، صريحها ومؤولها، وأن تتكشف له منها مواضع الداء، ويقدر الدواء. ولا أغلو حينما أذكر أن حدب عبد العزيز على الأزهر، وشغفه به، وأمله القوي في أن يسمق بنيانه، وترتفع أركانه، كان شيئا فوق مكنة الطالب الذي يعشق معهده، ويتعصب له

وقد عرف فيه إخوانه دماثة الخلق، والمرح، وبشاشة الوجه، وابتسامة الثغر، وعفة اللفظ على علانه - كما كان مطاوعا لكل ذي حديث، ولو كان فيه آمال، لا يصده عنه إلا بكيس ورفق - وربما نعى عليه بعض خلطائه أنه يلقى عدوه كما يلقى صديقه، فلا برم ولا تنكر - وما كانت هذه منه إلا لرحابة صدره وحسن سياسته، وحبه لتلافي ما يستطاع باللطف تلافيه. ولذلك ظل كثير ممن ينتقدونه ويحملون عليه، يبجلونه لذاته، ويحبونه لشخصه، ويلقونه لقاء الأخوة الكرام

ولما اختير إماماً للحضرة العلية الملكية تفتحت له من الحياة سبل جديدة، ازداد بها مرانه ومعرفة، وأخذ يخطو ويبرز نحو الصفوف الأولى بين رجالات الوطن. وكان إذ ذاك حركة دائبة. فيؤدي واجبه أمام مليكه، ويلقي دروسه وخطبه، ويذيع في المذياع، ويكتب في المجلات، في الأمور الدينية والاجتماعية والتاريخية

وقد كان عبد العزيز عالما أزهريا، بالمعنى الذي يفهمه التاريخ والعرف. ومرجع ذلك - فيما اعتقد - إلى حبه العميق للأزهر، وما في الأزهر من علم، وما له من تقاليد. فهو وإن بدا مترفا في بعض حياته، جانحا إلى الأخذ بأساليب العيش الحديثة. كان شديد الحنين إلى الحياة القروية الساذجة الهادئة التي تفضل البساطة في كل شئ من ملبس ومأكل ونحوهما، وهو سريع الجنوح إليها ما واتته الفرصة، ولهذا كان أحب الأيام إليه ما قضاه في بلده بالصعيد، والمراغة. . . بين عشيرته

وأهم خصوصيات العالم الأزهري - فضلا عن معرفة الشريعة الغراء - حبه الجدل والمناقشة، وقدرته على سوق الحجة والدليل، وعدم تسليمه لخصمه في سهولة ويسر. وقد كان عبد العزيز في ذلك، من الطراز الأول، لا يكاد المرء يدخل معه في نقاش حتى يفيض بالاعتراض والاستشهاد، وبالتدليل والتعليل، والموازنة والترجيح، حتى يصل إلى قرار الحق يشهد بذلك تلاميذه الكثيرون في كليات الأزهر، وأصدقائه، وأعتقد أن أصحاب الفضيلة الإجلاء أعضاء لجنة الفتوى، قد لمسوا فيه هذه الخصوصية، خلال عضويته بها.

وكان ضليعا في معرفة الشريعة السمحة وأحكامها، خبيرا بمذاهب أئمتها على اختلافهم، بصيرا بمذاب الكلاميين من فقهائها. وقد أخرج كتابا في حياة (ثقي الدين بن تيمية الحراني) ألقى فيه ضوءا على جهاد هذا العلامة في سبيل دينه، موضحا عقيدته، مبينا أنها عقيدة السلف، وأنها بعيدة عن مزالق المبتدعة من متطرفي الحنابلة. وقد سمعت ثناء مستطابا على هذا الكتاب من كثير من الفضلاء

وقد كان مؤرخا راعيا لتطورات التاريخ الإسلامي وتقلب دولته، منقبا عن ذلك في كتب التاريخ الإسلامي العربي منها وغير العربي

وكان أديبا بكل ما تحمله هذه الكلمة من المعاني. فقد أوتي حافظة قوية كنت أغبطه عليها، ملمة بشتى عصور الأدب وتقلباتها وحوادثها إلماماً محموداً، وكثير ما تجود بالأبيات والطرف الأدبية والأمثال ونحو ذلك، عند أدنى مناسبة - وكان يطرب للدعابة اللطيفة والنكتة الرائعة - 0واو على حسابه - ويأخذ حينذاك سبيله إلى المرح قائلاً (لقد قتلتنا كثرة الجد) ولكنه سرعان ما ينحدر إلى سوق الحكم والنعي على الدنيا، مع الرضا والاستسلام لقضاء الله وقدره.

وكان كثير البحث في مظان اللغة، يحفظ من ألفاظها عددا تكتنز فيه المعني، أو يعبر عن المعاني الغريبة أو المستحدثة، ويعنى بالألفاظ الطوافة في اللغات، وما كسبته في كل لغة من المعاني. وأغلب الظن أن في مسجلاته كثيرا منها.

هذا إلى أنه كان كاتبا حسن الكتابة، وخطيبا رائع الخطابة، وممن أوتى مقدرة طيبة على تدبيج المقالات دينية واجتماعية وتاريخية. وهذه مقالته في مجلة (رسالة الإسلام) وغيرها، خير شاهد

ولا نقول جديدا إذا نوهنا بدروسه الدينية وخطبه المنبرية، فإنه أسبغ عليها سمة من التجديد، وغذاها بما تفيض به نزعته الأدبية وثقافته الواسعة، فخرجت بجديد أسلوبها ومعناها، عصرية بريئة من السمت التقليدي القديم

ومنذ سنوات أخذ على عاتقه إخراج كتاب من أهم كتب الحديث والفقه والقضاء الإسلامي، وهو كتاب (أخبار القضاء) لمحمد بن خلف بن حيان، المشهور بوكيع. استعار نسخته الشمسية الوحيدة - على ما اعتقد - وأنفق فيها النفيس من وقته، والمرجو من راحته، حتى استقام له تقديمها إلى المطبعة. فأنجزت منها جزأين وبقى جزآن، وقد تسنى لي الاطلاع على الجزأين المطبوعين - وإن كانا لم يخرجا إلى السوق بعد - فوجدته قد عنى في الكتاب بالتصحيح والتعليق وشرح الغامض وتخريج الأحاديث، بما يشعرك بعلمه الغزير وأدبه الجم وإحاطته بمسائل الفقه ومواضع الحديث ومظان الأدب. وبما يشعرك بصبره وبالغ جهده في سبيل خدمة دينه وشريعته - ولعل أحد خلصانه وأحبابه ينجز من الكتاب ما بقى، حتى يخرجه إلى القراء، ويكون لهما أثرا خالدا وذكرا طيبا.

وقد عنى الفقيد أخيرا بموضوع من أجلْ الموضوعات وأشقها، (وهو تطور الفقه الإسلامي متأثرا بأحوال الدول الإسلامية) وكان كثير التفكير فيه، والحديث من نواحيه، ولا أدري إلى أي مرحلة من مراحله بلغ.

وبعد، فهذه عاجلة في ذكرى الفقيد العزيز دفعتني إليها مقتضيات صداقة كريمة دامت عشرين عاما على أنبل ما تكون الصداقات

رحمك الله أيها العزيز رحمة واسعة، وعزى فيك الوطن والأصدقاء.

محمود رزق سليم

مدرس الأدب في كلية اللغة العربية