مجلة الرسالة/العدد 91/الفردية علتنا الأصيلة
مجلة الرسالة/العدد 91/الفردية علتنا الأصيلة
لا تزال الفردية أبين الصفات المميزة للعرب؛ ولا تزال هذه الصفة
أجلى ما تكون في مصر! فان المرء ليغالي في فرديته حتى ليوشك أن
يكون أمة وحده!
غلبت هذه الشيمة على العرب الأولين لقلة المرافق المشتركة، وأثرة الطبيعة الشحيحة، ووحدة الحياة الرتيبة، واستقلال النفس القوية، فالرجل منهم كان يحصر الدنيا في خيمته، ويجمع العالم في قبيلته، ثم يختصر القبيلة في نفسه فيجعلها قاعدة لتمثاله وإطاراً لصورته! فهو لا يحيا حياة بهائم الأنعام تحمي ضعفها بالاجتماع، وإنما يعيش عيش سباع الطير والوحش لا تشبل على أفراخها وأجرائها إلا ريثما ترتاض وتضرى. فلما اختيروا إلى الدعوة الكبرى استجابوا لقوة القوى، واطمأنوا لألفة الروح، واستجروا لحكم الجماعة، حتى بلغوا رسالة الله، ثم تحرك فيهم الهوى الموروث، وتيقظ الطبع الأثر، فهبت الفردية تحلل العقدة وتشتت الوحدة، حتى قسمت الوطن بلاداً، ومزقت الشعب أفراداً، خضعوا لسلطان المغير وداوا لقوة الغاضب!
لا تزال هذه الفردية القبيحة وتوابعها من شهوة الرياسة وحب الاستئثار ودناءة الحرص، تقطع أوشاج المجتمع في أقطار العرب، فتفد كل موضوع، وتبطل كل مشروع، وتشعث كل ألفة. وفي مصر أحد تلك الأقطار تستطيع أن تعرض جملة أمرها على رأيك فتجد المثال الذي لا يبعد والحال التي لا تختلف.
فالسياسة هنا وهناك لا تكاد أحزابها تقوم على فكرة جامعة ومبدأ متحد، إنما هي فرد ينبه في الخير أو ينبع في الشر، فتأتلف عليه الأفراد المختلفون، فيكون منهم مكان النظام من العقد، يمسكه ما دام حياً قوياً، فإذا ما انقطع ذهب الحب أباديد. والاقتصاد هنا وهناك جهود فردية تخشى المنافسة وتتعجل الربح وترضى بالنصيب الأخس، لأن الفردية قتلت فينا الثقة فلا نساهم في رأس مال، وأضعفت شعورنا بالخير العام فلا نشارك في مشروع، ونشرت بيننا داء الحسد فلا نستقيم على رأي جميع؛ وما النهضة الاقتصادية الحديثة إلا نبوغ فرد أنس الناس بناحيته، واطمأنوا إلى كفايته، فأخلدوا إليه بالثقة، وألقوا في يديه المقاليد. والأدب هنا وهناك لا تزال دوافعه فردية ومراميه خاصة؛ فالقصيدة عواط الشاعر لا تكاد تخرج عن دخائل نفسه ومدارج حسه، والمقالة خواطر الكتاب لا تكاد ترمي إلى غرض محدد ولا تجري في مذهب معين، والأغنية لواعج المغنى فلا تعبر عن المعاني العامة، ولا تهتف بالأماني المشتركة. أما الملاحم القومية، والقصص الاجتماعية، والأناشيد الشعبية، فتلك أغراض لا تزال منابعها ناضبة ودوافعها دخيلة
يأخذ المرء حال من الوجد أو الشوق أو الطرب، فيجد من القصائد والأناشيد ما يترجم هذه الحال، فيدندن ويتغنى؛ وتكون الجماعة منا في مجمع من المجامع، أو ملهى من الملاهي، أو موكب من المواكب، فيأخذها انفعال مشترك من ابتهاج أو احتجاج أو افتخار أو تحمس، فتريد أن تعبر عن ذلك بقول واحد وصوت واحد ونغم واحد، فلا تجد إلا خلجات تتوقد، ونظرات تتردد، ثم سكوناً بارداً كعرق المبهوت الخجل! حتى السلام الملكي الرسمي نعرفه نغماً ولا نعرفه كلماً كأنما وضعوه لأمة بكماء!
كذلك الفن هنا وهناك لا يجد من حرج الفردية مكاناً للتنوع ولا مجالاً للتقدم، فالتصوير كالشعر قلما يتعدى صورة الفرد وعاطفته، والرقص حتى الرجال لا يكون إلا من فرد، ولا يظهر من هذا الفرد إلا متعاقباً على أجزاء خاصة من جسمه، كالعجز والبطن والثديين والعنق، فهو حركات متقطعة مستقلة كأبيات القصيدة القديمة لا تربطها علاقة ولا تجمعها وحدة! والغناء والموسيقى يقعان دائماً على أصوات مفردة، وتقاسيم مرددة، وفرديات (مونولوجات) متشابهة، ومعان متكررة! فليس لنا - حتى ولا للقرويين - غناء جماعي ولا رقص جماعي يعبران عن شعور الجماعة ساعة الطرب أو الغضب أو النصر بكلمات موقعة وحركات موزونة؛ ولكل أمة من أمم الأرض أفنان شتى من ذلك حتى الزنوج!
إن الفردية تعلو فتكون الاستبداد، وتسفل فتكون الأنانية؛ وأن الجمعية ترتفع فتكون الإنسانية، وتنخفض فتكون العصبية؛ وإن بين الإنسانية والعصبية شعباً يعز، وأمة ترقي، وذكراً يبقى، وأثراً يخلد، ولكن بين الاستبداد والأنانية تحكم الهوى وشقاء العيش وذل الأبد. فإذا رأيت الأحزاب تتناقض وتنحل، مشروعات الشباب تضعف وتعتل، وإدارة الحكومة تسوء وتختل، فأبحث علل ذلك - غير مخطئ - في هذه الفردية حين تتعلى فتستبد، أو حين تتدلى فتستأثر. فلولا هذا الطبع الأصيل الذي طغى على الشعور، وبغى على الفطرة، لتنبه فينا الضمير الاجتماعي فأخلصنا للأمة كما نخلص للأسرة، وعملنا في الديوان كما نعمل في البيت، وأحببنا لعامة الناس ما نحب لخاصة النفس؛ ولكن الفردية داء دخيل لا يحسمه إلا الدين الذي حسمه عن نفوس العرب حين اتبعوه، فهل إلى رجوع إليه من سبيل؟
أحمد حسن الزيات