مجلة الرسالة/العدد 91/من هنا ومن هناك

مجلة الرسالة/العدد 91/من هنا ومن هناك

ملاحظات: بتاريخ: 01 - 04 - 1935



كتاب عن مقاهي باريس

أجل كتاب عن مقاهي باريس صدر أخيرا بقلم مسيو فرانسوا فوسكا، وعنوانه (باريس قريتي) وانه لنوع طريف من الأدب أن يعنى كاتب بهذه الناحية من الحياة مدينة عظيمة؛ فكما أن باريس تزخر بمتاحفها وكنائسها وآثارها العظيمة، فهي أيضا تزهو وتتألق بمقاهيها ومنتدياتها الليلية. وقد تناول مسيو فوسكا في كتابة صور المقاهي الباريزية الشهيرة في العهد المنقضي والعهد الحالي، ووصفها وصف خبير طاف بأرجائها وتسكع في أركانها؛ فمن مقاهي بروكوب دي ديكلو، والريجانس، إلى مقاصف البالية رويال، وسورس دي فرلين، وفاشيت دي موريا، وفبير، وبار دي لابية، وتولية وغيرها إلى منتديات اليوم ومعاهده. وهي صور تثير في نفس الباريزي الحق شجنا وذكريات عزيزة، ولا سيما حين يتصفح أسماء وصورا كانت بالأمس متألقة شهيرة ملء الأبصار والأسماع، وكان يهرع إليها ويتخذ مكانة بها ويقضي فيها ساعات لذيذة، قبل العشاء أو بعد المسرح، ثم اختفت اليوم صورها وأثوابها القديمة المحبوبة لتفسح مكانا لأثوابها الجديدة، وأي باريزى حق لا يتأثر حين يستعرض ذكريات (قهوة الإنكليز) (كافيه ديزانجليه) الشهيرة التي كانت قطعة من حياة كثيرة من أقطاب السياسة والقلم في أواخر القرن الماضي، والتي أضحت أثرا بعد عين، ثم (مقهى نابولتان) الذي غيرت معالمه ومظاهره، وكذلك مقهى فبيروباردىلابيه. لقد ذهبت هذه المعاهد القديمة، واكتسحها تيار التحول الحديث، فأسبغ عليها تخطيطاً خشناً، وأنوارا مؤذية، وترفاً سخيفاً، ورفع عنها ذلك الجو العائلي الذي كان يشعر به الرواد من قبل. بيد أنه ما زالت توجد طائفة من المقاهي القديمة، الفرنسية حقاً، وهذا ما زالت كعبة الباريزيين المحافظين الذين يسحرهم المكان والمجلس بأكثر مما يسحرهم المأكول والمشروب

وينوء مسيو فوسكا في كتابه بما كان لهذا المقاهي الباريزية الشهيرة من أثر في تكوين الأوساط الأدبية والفنية؛ فقد كانت مقصد الكتاب والفنانين والشعراء من كل ضرب، وكانت مجمعهم، وكثيراً ما كانت مركزاً للحلقات الأدبية والفنية الشهيرة، وكثيراً ما كانت مصدر الوحي لكاتب أو شاعر أو فنان. ومن ثم كان كتاب مسيو فوسكا قطعة اجتماعية أدبية فنية فياضة السحر والمتاع

كتاب عن الأبهاء الأدبية

صدر أخيراً بالفرنسية كتاب طريف فريد في نوعه وموضوعه للسيدة ماري شكيفتش عنوانه (ذكريات عصر مضى)، وفيه تتحدث المؤلفة عن حياة المجتمع وأبهاء الأدب والاجتماع قبل الحرب، ولا ريب أن كثيراً من نواحي الحياة الاجتماعية قد تغير تغيراً عظيماً، وأصبحت تلك الحياة الذاهبة نكرة بالنسبة للجيل الحالي، والحياة تتغير دائماً بلا ريب، ولكن المرحلة التي استحالت إليها الحياة الاجتماعية بعد الحرب كانت سريعة عنيفة، وكان الانقلاب ثورياً لم يتخذ أسلوب التطور العادي. فمن يقرأ كتاب السيدة شكيفتش من شباب العصر يكاد يعتقد أنه يقرأ عن مجتمع غاضت كل آثاره وكل ألوانه الأولى. على انه مما يلاحظ أن الحياة الاجتماعية ولا سيما حياة الأبهاء الأدبية تسير أيضاً إلى تطور مستمر؛ ولقد كان أولئك الذين عرفوا هذه الحياة أيام روسو ومدام ديبناي مثلاً، ينكرونها بعد ذلك بنحو نصف قرن، أيام عود الملوكية في أوائل القرن التاسع عشر. وكان أولئك الذين عاصروا مدام ريكامبية وشاتو بريان وتذوقوا الحياة الاجتماعية الأدبية في ذلك العصر يرون في أطوارها وأساليبها التي اتخذتها في عصر الإمبراطورية الأولى حياة جديدة لم يعرفوها؛ على أن هنالك ظاهرة يجب الالتفات إليها، وهي أن صور الحياة العقلية في ذاتها لم تتطور كثيراً من الوجهة الاجتماعية؛ وفي وسعك أن تتصور أن الكتاب والمفكرين في العصور الخالية كانوا يجتمعون في حلقاتهم أو أبهائهم لمثل ما يجتمع له الكتاب والمفكرون في عصرنا؛ غير أن أساليب الاجتماع ذاته قد تغيرت؛ وتبوأت المرأة في العصور الحديثة مقامها اللائق في الأبهاء الأدبية والحلقات الاجتماعية فنفثت فيها من نفوذها وسحرها ألواناً قوية أضحت اليوم من أظهر خواصها الاجتماعية. وحياة الأبهاء الأدبية من أهم عناصر الحياة الفرنسية الاجتماعية في جميع أطوارها الحديثة؛ وإنك لتقرأ في مذكرات سانت سيمون، أو رسائل مدام سفنييه ما تقرأه اليوم في ذكريات مدام شكيفتش من ألوان هذه الحياة الاجتماعية والأدبية الساحرة، وقد لاحظ كاتب كبير بحق أن أهم ظاهرة في الأدب الفرنسي هي أنه اجتماعي، فكل ما فيه كلام عن المجتمع، وكل ما فيه موجه اليه، والحياة الفرنسية في ذاتها تقوم على الاجتماع والروح الاجتماعية قبل كل شيء؛ وسحر مؤلف مدام شكيفتش في أنه يصور هذه الروح أقوى تصوير

جيته وفن الحياة

نعرف أن شاعر ألمانيا الأكبر (جيته) قد ترك فيما ترك محادثاته التي تملأ عشرة مجلدات ومذكراته اليومية ومراسلاته العديدة؛ ومن الصعب اليوم، في عصر السرعة والحياة المثقلة، أن يتفرغ المرء لقراءة هذه المجلدات العديدة وأن يستمرئ كل ما فيها من المعاني والصور، ولكن كاتباً فرنسياً هو المسيو ربوز داركور استطاع أن يدرس هذا التراث دراسة مستفيضة وأن يضع كتاباً بخلاصة دراسته بعنوان (جيته وفن الحياة) ' يحاول المؤلف في كتابه أن يلخص تراث جيته أو يردده، ولكنه يحاول أن يقدم للقارئ مجموعة الحكم والصور والمواعظ التي تتخلل تراث الشاعر الأكبر. وتسمية الكتاب بهذا العنوان ترجع إلى اللقب الذي يطلقه الألمان أنفسهم على جيته، فهم يسمونه (فنان الحياة)

والواقع أنه قلما يوجد بين عظماء الرجال من يضارع جيته في حياته المنظمة المركزة حول غايات معينة؛ فقد عاش جيته تحدوه إرادة راسخة في أن يعرف وأن يشبع حاجات النفس وحاجات الخلق، وأن يباعد بين نفسه وبين ما تتأذى منه، وأن يرتفع بكرامته إلى الذرى؛ وقد فطن جيته إلى ذلك النقص الاجتماعي الذي يبعثه تشبع الناس بفكرة حقوق الإنسان نحو المجتمع، وأدرك أن للإنسان نحو نفسه حقوقاً خاصة، هي أن يرتفع بخلاله وأن يسعى إلى الكمال، وفي عصرنا لا يكاد يفطن المرء إلى هذا الواجب، لأن مشاغل الحياة وحمى الشهوات البشرية تستغرق كل عنايته وتفكيره؛ وقد كان جيته من أشد الناس عملاً وانشغالاً، ولكنه لم ينس أن يعمل لنفسه من الناحية الخلقية والمعنوية، وأن يكونها حسبما توحي به المثل العليا. غير أنك تشعر خلال هذه الصور الممتازة التي يقدمها إليك كفاح جيته في سبيل الكمال بنقص بين، هو ما تأنسه في كل أقواله وأفعاله من ضروب الأثرة؛ فقد كان يحرص على ألا يعكر حياته معكر، وألا يثير عواطفه شيء، حتى لا يضعف أمام النوازل والحوادث؛ وهي فلسفة الجمود والقسوة التي تبعد كثيراً عن مثل الإنسانية الرفيعة. هذه الصور والحقائق يدرسها مسيو داركور دراسة فياضة ممتعة، ويقدم إلينا حياة الشاعر الأكبر على ضوء المبادئ والفلسفة التي تكونت فيها

ذكرى يوهان باخ تتأهب الدوائر الفنية والموسيقية في ألمانيا وفي جميع أنحاء العالم للاحتفال بذكرى الموسيقي الأكبر يوهان سبستيان باخ وذلك لمناسبة مرور مائتين وخمسين عاماً على مولده. وباخ من أعظم أبطال الفن والموسيقى لا في ألمانيا وحدها، ولكن في العالم كله. وقد كان مولده في مدينة إيزناخ سنة 1685، من أسرة عرفت بمواهبها الموسيقية، ونبغ منها أكثر من موسيقي كبير، وقد كان لهذا الظرف أثره في تربية باخ وفي تكوينه، وظهر هيام باخ بالموسيقى مذ كان طفلاً في العاشرة، وكانت أسرته تخشى على مستقبله من هذا الهيام وتخفى عنه المؤلفات الموسيقية ولكن باخ كان يبحث عنها وينقلها لنفسه على ضوء القمر، وكان للغلام صوت بديع لم يلبث أن استرعى الأنظار، فعين مرتلاً في مدرسة لينبرج؛ ولما ساء صوته بعد ذلك عين عازفاً على القيثارة؛ ثم ظهرت مواهبه الموسيقية بسرعة، وكانت رائعة، فاستدعى إلى بلاط فيمار وعين موسيقياً ملكياً، وهنالك استطاع أن يدرس الموسيقى الإيطالية؛ ثم عين بعد ذلك عازفاً على (الأرغن) في كنيسة ارنشتاث، ومن ذلك الحين أعني مذ كان باخ في نحو العشرين فقط، أخذ في وضع القطع الموسيقية؛ وكانت أولى قطعه (رحيل أخي الفجائي) من أبدع ما عرف التأليف الموسيقي، وقد استلهمها من رحيل أخيه عن وطنه ليلتحق بالجيش السويدي، وتزوج باخ بابنة عمه ماريا بربارا، وعاد بعد عامين أو ثلاثة إلى العمل في بلاط فيمار؛ وهنالك أقام نحو تسعة أعوام، ووضع أبدع قطعه الموسيقية، وتأثر في دراسته بالأساتذة الإيطاليين أعظم تأثر. وفي سنة 1720 توفيت زوجته ماريا فتزوج من بعدها (أنا فلكنس)، وكانت ذات مواهب موسيقية بديعة، فعاونته في عمله؛ وفي ذلك الحين ابتدأ باخ يضع قطعه الشهيرة المعروفة (بالتوابع). ثم عين باخ أستاذاً للغناء في مدرسة توماس في ليبزج، وهنالك وضع معظم قطعه وأناشيده الغنائية ومنها أناشيد قصة (الآلام)، وقدم في ذلك الحين بعض قطعه إلى أوجستوس ملك سكسونية فأنعم عليه بلقب (مؤلف البلاط). وفي سنة 1747 زار فردريك الأكبر في بونسدام ونال عطفه ورعايته، ثم أصيب باخ بضعف في بصره انتهى بالعمى، وعقب ذلك أصابه الصرع؛ وكانت وفاته (سنة 1750). وكان باخ فوق نبوغه الباهر في التأليف والموسيقى مخترعاً موسيقياً أيضاً، ومن اختراعاته الوضع الإصبعي الحديث، وتنظيم (البيانو) بحيث يتسع للعزف بجميع الأوضاع والأصوات