مجلة الرسالة/العدد 911/القصص

مجلة الرسالة/العدد 911/القصص

ملاحظات: بتاريخ: 18 - 12 - 1950



الشعر

للأسباني أنطونيو دي ثروبيا

للأستاذ م. أمين (البندقي)

لصاحبي يوسف أرض غير واسعة، فيلا فيتزبوزا بناحية من نواحي أيدونا، فهو يقضي فيها من زمان الربيع أياماً، ومن الصيف أياماً، ويصب جهده على الزرع، يحدو به شديد الميل أكثر مما تحدو به الحاجة.

وقد جرى على حنة امرأة يوسف، وهي أفضل الأزواج والأمهات شيء كالذي جرى على شخص من الشخوص في قصة من القصص المسرحي طوى الحياة كلها وهو يمثل، وما أحس قط أن له على التمثيل قدرة رائعة، قل أن يكون لها شبيه. ذلك أن حنة كانت مدى العمر شاعرة، وهي لا تعلم، بينا الكثيرات غيرها قد لبسن لبوس الشعر وليس بينهن وبين الشعر أوهى سبب.

كان النهار قد انتصف بيوم أضوء من أيام يوناو صاف أغر حين بلغت إلى بيت صاحبي يوسف. وإذ رآني ليون كلبه وكان هو الأخر من صحبي بادر إلى يلقاني وأنا مازلت على مبعدة من الدار، وراح يحييني بالوثب واللعب. ومالت شجرة من أشجار الكريز كانت تراءى على حائط البستان تستهوي بأثمارها قلوب الصغار، فضربتني على قبعتي حتى أذكر أنها هناك قد أطلت. . ولما أن صعدت السلم بدا لي أني سمعت قراءة، إلا أن خطاي قد جعلتها تنقطع.

وكانت ثم حجرة رائعة الجمال يهبط منها الهابط إلى البستان على سلم صغير من الخشب، فوقه كرمة مصفوفة تلقى عليها الظلال،

وقد ضمت الحجرة حنة ومريم وليجني ويبينو معاً. وكانت حنة عندئذ تخيط ثوباً. وكانت مريم وهي صبية في الخامسة عشر وجهها الوضاح تمنيت لو أراه أمامي في كل نائبة، وقد أمسكت بكتاب أغلقته قليلاً وأما لو يجي وبيينو، وهما طفلان بين الرابعة والسادسة، فقد كانا يعالجان رأس تمثال من الطباشير ليفصلاه عن سائر الجسد.

ورآني الطفلان فبادرا إلى لقائي، وسألتهما أكانا من الطيبين الهادئين؟ فكان جوابهما أن راحا يسألاني هل جئت أليهما بالحلوى؟ ألقيت بالتحيات ألقت علي التحيات. ثم قالت لحنة إن زوجها قد ذهب إلى السوق في مكان لا اعرفه - غير انهم ينتظرون عودته في نفس الليلة.

- أكنتم تقرءون؟

- أجل

- وماذا كنت تقرئين يا مريم؟

- كتاباً من الشعر ألفه شاعر في مدريد

- ومن هذا الشاعر؟

- شاعر يأتي كل عام لينصب المراوح يوم عيد الثيران

- أشاعر ينصب المراوح؟ لقد أصلبك الخبل

- نعم ينصبها. وما ذاك إلا إنه مولع بمصارعة الثور

- أذن فما هو بالشاعر

- بلى إنه لشاعر

- وكيف علمت إنه شاعر؟

- إنه إذ يتحدث فحديثه النظم، وإذ يكتب لا يكتب شيئاً سوى النظم

فأخذت الكتاب الذي كان في يد مريم فقرأت فيه بعض الأبيات. ولما كان القليل يدل على الكثير فقد قلت لها:

- إني لا أراه شاعراً ولا أرى في هذا الكتاب شعراً

- وماذا فيه إذن؟

- فيه النظم

- وهل كان الشعر والنظم إلا شيئا واحدا؟

- ليسا بالشيء الواحد

- إني أراك تسخر مني يا انطون. أليس الشعر والنظم شيئاً واحداً؟

- كلا فقد يكون في الكتاب نظم ولا يكون فيه شعر. وقد يكون فيه الشعر دون النظم

- رويدك فما النظم إذن؟ - إني أود أن أسألك سؤالا قبل أن أجيب. مريم كم عندها من الثياب؟

- عندها من الجديد ثوبان. أحدهما أخضر لونه والأخر أزرق

- وأي الثوبين انسب إليها؟

- الأزرق. والمحتالة التائهة لا تغفل عن ذلك. فهي تؤثر أن تلبس الأزرق دون الأخضر

- إذن فاعلمي أن الشعر ليس له غير ثوبين يناسبانه. أحدهما النثر والأخر النظم. ولما كان النظم أنسب له من النثر فهو يؤثر الأول على الآخر

- وإذا لم يكن النظم هو الشعر، وإنما هو الشكل الذي يناسبه أكثر مما يناسبه سواه، فما الشعر إذن؟

وإن حنة لتطرح علي هذا السؤال إذ نسمع صوتاً ضعيفاً ناحية السلم يهتف:

- حسنة لله. فمالي أب ولا لي أم.

فيبادر لويجي وبيينو إلى السلم:

أماه! إنها طفلة تأكل رأس كرنبة. ألا ما أقبحها!

- أدخلاها

وما هو إلا أن دخلت الحجرة طفلة في السادسة أو نحوها تكاد أن تكون عارية، وهي تنحت بأسنانها حقاً في رأس كرنبة فقالت حنة وهي تنزع من يد الطفلة ذلك الرأس وتمضي بها نحو الحقل:

- لم تأكلين هذا القذر؟

فأجابتها الطفلة وعيناها نديتان بالدمع:

- إني جائعة

فهتفت مريم وهتفت حنة، في آن معاً:

- الله للمسكينة!

ثم سألتها حنة:

- من أين أقبلت؟

- من نافلشا نيرو

- وأبواك؟ - ليس لي أب ولا أم. فقد ماتا من الكوليرا

فهتفت حنة:

- أواه يا بنية!

وجادت بالدموع السواجم عيناها وهي تقبل الطفلة، دون أن تبالي بأقذار كستها وقالت:

- ليت الله كان أخذ الضعيفة حين أخذ أبويها! ألا يا بؤسي لها!

وأسرعت حنة إلى المطبخ وهي تزفر الزفرات الحرى، فما لبثت أن أعدت طبقاً من الثريد بأحسن ما كان عندها من الحساء. وجاءت تسعى به إلى الطفلة، ومعه قطعة من اللحم ضخمة، وعنقود من العنب.

ثم انطلقت، والطفلة مقبلة على الطعام، فراحت تبحث عن رداء وثياب أخرى كانت مريم وهي في سن الثامنة قد كفت عن لبسها وهي لم تزل جديدة، وما ذاك إلا أنها كانت ضيقة.

فلما فرغت اليتيمة من طعامها غسلت لها وجهها وبدلت لها أطمارها بتلك الثياب ثم شيعتها بالدعابة والرفق الجميل العذب وعادت تصل ما انقطع فهتفت:

- لنستأنف حديثنا، ما الشعر؟

فأجبتها:

- الشعر هو هذى الدموع التي لا تزال تندى بها عيناك، وهذى الزفرات التي تصاعد ألان في صدرك، وكل ما يختلج في قلبك هذه الساعة

فقالت:

آه!

نطقت بها همساً، وقد بدأت تدرك شيئاً مما كنت أحاول أن أشرحه

م. أمين

(البندقي)