مجلة الرسالة/العدد 913/صلواتي

مجلة الرسالة/العدد 913/صلواتي

ملاحظات: بتاريخ: 01 - 01 - 1951



للأستاذ كامل محمود حبيب

من أعماق قلبي أناديك يا ربي!

فهل يستطيع صوتي الضعيف أن يبلغ موطئ عرشك؟ إنني أخشى أن يتلاشى صوتي في ظلمات ذنوبي فلا تنفتح له أبواب رحمتك.

ولكن عظمة أسمك الكريم تزلزل قوتي وتعصف بجلدي فأخر ساجداً وقد أخذتني وغمرني الخشوع واغرورقت عيناي بالدموع في توسل علىأستطيعبضمفي أن ألج بابك. باب الرحمة والغفران.

فلا تغلق من دوني باب رحمتك وأنا أناديك من أعماق قلبي: يا ربي!

إن حبي لك، يا إلهي - يتغلغل، أبداً، في أغوار روحي فتصفو من كدر.

وإن روحي تصفو أبداً لأنني لا أتعبد إلا لك أنت وحدك، يا إلهي وحين تصفو روحي تسمو فوق هذا العالم الأرضي.

فأرى من خلال حبي عظمتك الخالدة نوراً يسطع فيضئ العالم كله.

وأتنشقها أنفاساً ندية عطرة تنتشي لها خواطري وأسمها لحناً موسيقياً سماوياً يتطرب له فؤادي وأحسها حياة طاهرة نقية تتدفق في دمي وأشعر بها تضمني إليها في رفق فأخر ساجداً في خشوع وقد اغرورقت عيناي بالدموع في توسل وأنا أناديك من أعماق قلبي: يا ربي!

يا إلهي لا تدع شواغل الحياة الأرضية تجذبني إليها بأمراس غلاظ، فأنا أطمع أن أكون إلى جانبك أبداً.

واصرفني عن الأمل الخلاب الزائل الذي لا يجذب إلا النفوس المتداعية ليسمها بميسم التراب. . . اصرفني عنه إلى الفكر السامية التي تخلق الخلود.

ولا تدع نفسي تدنسها الخواطر الوضعية أو تلطخها الأكاذيب التافهة.

ولا تدع قلبي يخطفه ألق الرذيلة أو يشغله بريق المتعة ولا تدع روحي تسيطر عليها شيطانية المارة فتنزعها من صفاء السماء.

فأنا أطمع أن أكون إلى جانبك أبداً لأنني أخشى أن يتلاشى صوتي الضعيف في ظلم ذنوبي فلا تنفتح له أبوب رحمتك حين أناديك من أعماق قلبي: يا ربي

أنا - يا سيدي - لا أخشى البطشة الكبرى لأنني أطمع في رحمتك العظمى.

ولا أخاف الثورة العاتية لأنني أرنو إلى بسمتك الرقيقة ولا أتهيب العاصفة الهوجاء لأنني أهفو إلى صفائك الرقراق ولا أفرق من كسف الظلام لأنني أنظر في شغف إلى فلق الإصباح.

فأنت علمتني أن القوى لا يعبأ بالضعيف، وأن العظيم لا يتحدى الضئيل.

وأنت علمتني أنني شعاع من فيض نورك الذي يغمر العالم وأنني نغمة من اللحن الساحر الذي ينبعث - دائماً - من بابك الخالد.

وأنت لم تعلمني الدين الذي يبذر في القلب الرهبة ويغرس في النفس الخنوع وينبث في الروح الخوف ويقيد بالاستسلام بل علمتني الدين الذي يبذر في القلب الجرأة ويغرس في النفس العظمة وينفث في الروح الشجاعة ويدفع الهمة إلى القمة فدعني أحس من عطفك في أوتار قلبي حين أجلس إليك في خلوة.

فأنا أخشى ألا يبلغ صوتي الضعيف موطئ عرشك حين أناديك من أعماق قلبي: يا ربي!

أزح عني خبث الطمع الذي يستلب الإنسان من الإنسانية ونقني من شوائب الأماني الزائفة التي تطفئ من النفس الأنوار الروحانية.

وادفع عني الكبرياء التي تسم الروح بالغرور ونجني من الخديعة التي تنحط بالرجل عن معاني الرجولة واجعلني - في أخلاقي - طفلا لم تدنسه الحياة فالطفل لا يعرف المعاني الشيطانية في العداوة والبغضاء والغيظ، ولا يعرف الأحقاد التي تحيل الحياة الناعمة إلى جحيم يتلظى اجعلني - في أخلاق - طفلا لم تدنسه الحياة ثم لا تثقلني بأعباء الرجل الذي يتمرغ دائماً في الثرى الأرضي.

فأنا أطمع أن أكون إلى جانبك أبداً ليرقي إليك صوتي الضعيف حين أناديك من أعماق قلبي يا ربي!

لقد قضيت عمراً طويلاً على نفسي، وأخلو إلى عبادي وأسكن إلى تسابيحي وانطوت سنوات وصوت السماء يناديني: يا عبد؛ إن الألوهية لا تعيش بين الجدران، فانطلق في فجاج الأرض لترى العظمة وتلمس القوة وتسمع الألحان العذبة. . ولتجد الحقيقة.

ولكن ذنوبي كانت قد طمت على روحي فلم أعد أسمع الحق فلما صفت روحي من الخبث وتطهرت نفسي من الرجس، طرت من خلوتي لأراك - يا إلهي - وألمسك وأسمعك

حينذاك، عرفت أنني ضيعت عمري في شيء لا غناء فيه، فاغفر لي - يا إلهي - جهلي وغفلتي.

آه، يا قلبي، إن إيمان الراهب هو إيمان شيطاني أبله فدعني يا إلهي أكفر عن رهبانيتي الحمقاء بالكد والجهاد في لظى الحر وزمهرير البدر، لأكون إلى جانبك أبداً فيرقي إليك صوتي الضعيف حين أناديك من أعماق قلبي: يا ربي!

امنحني - يا إلهي - القوة لأحمل آلاءك العظام وامنحني الهدوء الذي يسع حماقة أهلي وجهل أخي وامنحني العقل الذي يغفر زلات أقاربي وبغضي عن أخطاء رفاقي.

وامنحني القدرة على أن أقيل عثرات جارى

وامنحني العزة التي تترفع عن تفاهات الحياة

وامنحني الكبرياء التي تسمو النزوات الطائشة

وامنحني الخضوع الذي لا أتعبد به إلا لك أنت وحدك فأعيش فوق الناس جميعاً، ثم امنحني العطف الذي يتدفق من لدنك ليمس أوتار قلبي في رقة وأنا أناديك من أعماق قلبي: يا ربي

كلما ذكرتك يا إلهي - أحسست بالراحة والهدوء والسعادة فعلمني كيف أناديك نداء رقيقاً تنفتح له أبواب رحمتك وعلمني كيف أنطلق في هدوء إلى محرابك أتنظر فيض نورك وألهمني النشيد الإلهي العذب لأوقعه على أوتار قلبي في خشوع فيملأ حياتي بالسعادة ويفعم روحي بالطمأنينة.

ثم احبني بالقيثارة السماوية لأعزف عليها النشيد الإلهي العذب كما ذكرتك عسى أن نغماتي موطئ عرشك كلما ناديتك من أعماق قلبي: يا ربي!

وإذا شئت - يا إلهي - أن تقطف هذه الزهرة الغضة النضيرة - حياتي - لتطهرها من الدنس الأرضي وتضمها إلى أزاهير جنتك الوارفة، فلا تقطفها حين تعصف بها لإواء الحياة وشدة الأسى وغلظة اليأس؛ ولكن أقطفها وهي غضه تمرح بين ندى الصباح وبسمات الفجر، وقد هزها الطرب وأفعمها النشاط وتأريج منها العطر وتألق فيها النور، لتعيش في جنتك فتية زاهية تقوى على أن تناديك من أعماق قلبها: يا ربي!

كامل محمود حبيب