مجلة الرسالة/العدد 914/القصص

مجلة الرسالة/العدد 914/القصص

ملاحظات: بتاريخ: 08 - 01 - 1951



قلب الابن

للأستاذ كمال رستم

مهداة إلى سعادة الأستاذ محمد كامل البهنساوي بك صاحب

الأقاصيص المأثورة

. . رقى إبراهيم إلى العربة وقال مخاطباً الحوذي

- عيادة الدكتور رأفت

وساط الحوذي جواده فتحامل الحيوان الجاهد على نفسه وجرر أقدامه في تثاقل وبطئ وهو يكاد أن يتكفأ من التعب والأنين. . .

وتنهد إبراهيم تنهدة عميقة وهو يرقب العربة تتحرك في هينة ورفق كأنما قد خرج بها إلى نزهة وليس إلى أمر ذي بال. . وهمه أن رأى العربات تمضي بعربته سريعاً كأنما جيادها شياطين جن وأزمع أن يصرخ في الحوذي ليحدث جواده المتهالك على السير. ولكن الرجل كان قد برق في ذهنه نفس الخاطر وأهوى سوطه على ظهر الحيوان في قسوة وعنف فحث خطاه وأنفاسه حشرجة محتضر. . .

ولكن الجواد وقد حسره السير تباطأت خطاه مرة أخرى وتقاربت فعاد الحواذي يلهب بالسوط ظهره والسباب يطفح من فمه وانصرف إبراهيم بذهنه عن الرجل وجوده وأوى إلى أفكاره يعايشها. . أنه ترك أمه في البيت طريحة الفراش. . وقد تعناها المرض وتحلل بها حتى ليوشك أن يوردها موارد الموت. . .

وبدا له غريباً أن يحدث هذه لأمه. . وأن تفارق روحها بدنها الناحل وهي مسمرة به. . وومضت صورتها لحظة في ذهنه. . هذه الأم التي علت بها السن وهي بعد موثقة الخلق شديدة الأسر كفتاة في العشرين، فاستكثر أن تعنو هذه الحياة الكبيرة لمرض فموت. ولكن الحقيقة أن أمه كانت تعاني المرض. . وأنه أقعدها لأول مرة في حياتها عن أداء وأجبها. . وذكر أنها كانت وهي مدنفة تشرف على البيت مملكنها الصغيرة تناقش الزوجة وتراجع الخادم كما تفعل كل يوم. . دون أن تترك للمرض الوافد فرصة للتغلب عليها. . .

كان البيت بيتها، هي ربته تدبر حركته وتصرف أموره على النحو الذي ترضاه، وتأبى على الزوجة أن تطلق يدها في شأن من شؤونه. . كانت تنهض من فراشها في الصباح الواعد فتبعث بالخادم إلى السوق لشراء حاجات الطعام، فإذا عادت من السوق وقد امتلأت سلتها بالخضر والطماطم واللحم دار بينها بادئ الأمر حديث هادئ كان لا يلبث صوت أمه بعده أن يرتفع في ثورة وغضب، لأن الخادم - في وهمها - سرقت نصف قريش. . .

وحينما تتهيأ لطهو الطعام ويعلو صوت (وايور الغاز)

كانت تتمشى على شفتها الرضا والسعادة، فصوت الوابور يحكى عندما صوت الموسيقى تنتشي له وتطرب. . وعندما كان ابنها يعود من عمله مجهداً مكدوداً كانت تستقبله بابتسامة حلوة وتقول له.

- أعددت لك اليوم فاصوليا تأكل معها أصابعك. . .

وكان يجيبها وهو يربت على كتفها قائلا:

- نعم الطعام طعامك يا أمي! لا عندما يديك. . .

وتنثني راجعة إلى المطبخ وقد استغرقتها السعادة لمديحه وإطرائه. . بينما يدلف هو إلى غرفته ينضو عنه ثيابه. وكانوا يجلسون ثلاثتهم إلى المائدة يتنازلون الطعام ويشققون الأحاديث. . .

وعندما كانوا يفرغون من تنازل طعامهم كانوا يأوون إلى أسرتهم يغفون القيلولة ولا يبارحون إلا على أذان العصر فتجهز له أمه القهوة، وبعد أن يتنازلون لها كما يرتدي ملابسه وينطلق إلى الطريق. . .

ولكن هذا لم يكن يحدث في كل وقت. . . فالغالب ألا يمضي اليوم هكذا هادئاً دون أن يفكر صفوة نزاع أو شجار يقوم بين زوجه وبين أمه. . . ولقد اعتاد أن ينصت إلى شكايتهما. . ويحاول جهده أن يصلح بينهما دون أن يتحيز إلى أحدهما. . ولكن موقفه هذا كان لا ينجيه من غضب الاثنتين جميعاً. . فأمه ترميه بمحاباة الزوجة. . والزوجة تتهمه بمظاهرة الأم. . ويمضي به اليوم أبأس ما يكون اليوم. . . ولم يكن هذا النزاع بين زوجه وأمه لينتهي أبداً. . وأبهظت هذا الحال أعصابه. . وأمضته فكان ينفر من البيت وينطلق إلى الطريق يقتل وقته في المقاهي والمشارب يسلو ويتعزى. . وكان يعود متأخراً إلى البيت فيجد في انتظاره زوجته غضبى. . تشكو له أمه وتنعى عليها أنها سبب شقائهما في حياتهما كزوجين. إنها تعرف أن أمه لا تحمل لها إلا البغض. وهي لا تنسى أنها عارضت في زواجه منها. . . لأنها كانت تأمل أن تزوجه من أبنة أختها. . . ولكن إبراهيم ركب رأسه وأصر على أن يتزوج منها هي لأنهما كانا متحابين. . . وأنها لذلك تسعى إلى تعكير ما ينهما من صفو لتحملها على مغادرة البيت. . . ولقد تبينت خطأها آخر الأمر. . . فما كان ينبغي أن تقبل على أن تبني به وأمه لا تبارك زواجهما. . . وكان ينهض من فراشه في الصباح خائراً مكدوداً فيمضي إلى أمه يقرئها تحية الصباح فتردها عليه فاترة. . . وتقول له إن زوجه أدارت رأسه. . . وأنها تعمل على إفساد ما بينهما. . . وتذكره بأنها أمه. . . أمة التي حملته في بطنها. . . وقامت على تربيته إلى أن غدا رجلا. . . إنها أعدته للزمن أمناً لها في شيخوختها. . ولكن امرأة لن تتعب في تربيته. . امرأة أجنبية. . تبعث في قلبه العقوق وتنفره منها وهو صامت لا يتكلم. . . إنها تعلم أن زوجة تريد أن تقسرها بعنادها على مبارحة البيت ليصبح لها على أتساعه. . . وستفعل هي ذلك يوماً ما دام أنه يظاهر زوجه عليها. . وستمضي إلى شقيقها عنده ما تبقى من أيامها وإنها لقلائل وتدعه لزوجه تهنأ به. . . وحينما ينطلق إلى الطريق محتضنا أفكاره كان يفكر في حياته الشقية هذه. . . أنه لا يذكر أنه شعر بالهدوء يوماً ولا بالراحة منذ أن تزوج. . . إن أمه كان يعز عليها أن يشرك في حبها زوجته. وكثيراً ما كان يهم بأن يطلب منها أن تعدل أسلوب معاملتها لزوجه، ولكنه كان لا يلبث أن يضعف ويستحذي ويقنع نفسه بأنها ستفعل ذلك من تلقاء نفسها حالما تدرك أن سلوكها هذا يتعسه ويشقيه. . . ولكنها لن تشأ أبداً أن تقدم على هذه الخطوة من جانبها. وبات النزاع بينها وبين زوجه لا ينفض إلا ريث أن يعود من جديد. . . وآخر مرة هددته زوجه بأنه إن لم يوقف أمه عند حدها فإنها ستغادر بيته إلى الأبد. . . ولكن ها هي ذي أمه - طريحة الفراش لا تقوى على حركة. . . واندس خاطر جري بين خواطره له همس حبيب. . . (لو أن أمه تموت!). نعم فإنه يود أن يتحرر من إسار بنوته ويخلص إلى زوجه التي لم ينعم بحبها لحظة واحدة. . . وومضت في خياله صورة زاهية لمستقبله الهانئ مع زوجته. . . إنهما يعيشان في البيت وحدهما. . . يتذاكران الماضي ويستعيدان مشاهده. . . ثم انتقلت خواطره إلى أن وقفت به عند أمه. . . فأقنع نفسه بأنها أخذت حظها من الحياة، وأن الخير في أن تمضي عن الدنيا الآن وقبل أن يمتد بها المرض. . .

وأخرجه من تأملاته صوت الحوذي يقول

- عيادة الدكتور رأفت يابك. . .

فهبط معجلا. . .

ولما عاد إلى المنزل مع الطبيب تقدمتهما زوجه إلى غرفة المريضة. . .

هناك رأي أمه ممددة على الفراش منهوكة القوى مهدومة. . .

وكانت عيناها مغلقتين. . . وصدرها المسيح يخفق وأنفاسها الحارة تتلاحق. . .

وبدأ وجهها المعروق وقد زايلته حمرته. . . وشاعت فيه بدلا منها صفرة الموت. . .

وتقدم الطبيب من مهادها وأمسك بجمع يده. . . يدها المتقدة، ففتحت عينين أنهكهما المرض وكحلهما السهد. . . وفحصها. . . ووصف الدواء. . .

وخلا إلى الزوجين وقال لهما:

- لا معدي من إجراء جراحة فهي الأمل الوحيد لإنقاذها. . .

وليس من الأطباء من أضمن أن يقوم بإجرائها بنجاح إلا الجراح الكبير (محمود باشا سامي). . . فإذا أمكن أن ننقلاها غدا إلى مستشفاه بالقاهرة فلا تتردد. . . وإلا ضاع الأمل في إنقاذها إلى الأبد. . .

وصافحهما ومضى. . .

وقالت زوجه:

- لتحضر لها الدواء. . . وليفعل الله بعد ذلك ما يشاء. . . إنك لا طاقة لك بنفقات جراحة لا طائل تحتها. . . وأنت تعلم من محمود باشا سامي. . .

وأمن الزوج على قولها وقال:

- نعم ليفعل الله ما يشاء. . .

وخرج يحضر الدواء. . .

وراح ذهنه طول الطريق يبرق بشتى ألوان التفكير. . .

وفجأة. . . أحس بشعور جديد وافد. . . يطرق قلبه. . .

إنه الألم. . . الألم الذي راح يغلف روحه في غير هوادة. . .

بدا له أن أمه عزيزة عليه. . . وأنه يحبها كما لم يحبها من قبل. . .

وتراءت له صورتها الحبيبة. . . يوم أن كانت تملأ حركتها البيت. . .

وراح يقابلها بصورتها وهي مسجاة على الفراش. . . لا تقوى على حركة. . . فزخرت بالألم نفسه. . . وناش الحزن صدره، وخيل إليه لحظة أنه لا يطيق العيش بعدها. . . هذه الأم التي أحبته من أعمق قلبها. . .

وشعر بالخزي والعار لأنه تمنى لها الموت. . .

وكان قد بلغ الصيدلية فاتباع لها الدواء وانقلب عائداً إلى البيت محتضنا أفكاره. . .

ودخل غرفتها. . .

وكانت أمه مسترخية على الفراش وقد تآلف جفناها. . . وتباطأت دقات قلبها. . . ووهنت أنفاسها. . .

وكاد مشهدها أن يستل روحه من بين أضالعه

ووسد راحته جبينها الصلت. . . وقال في صوته الخفيض

- أماه! ألا تزالين نائمة. . .

وفتحت جفنيها المطبقين. . . وكما لو كانت الحياة دبت فيها من جديد. . . تمشت على شفتيها بسمة واهنة وهمست

- إبراهيم؟

- نعم يا أماه. . . لقد أحضرت لك الدواء. . . وسيمسح الله ما بك. . . وتعودين إلى طهو الطعام لأني لا أسيغه من غير يديك. . .

ووهنت ابتسامتها حتى كادت أن تتلاشى وقالت في صوتها الهامس. . .

- لقد ضعفت يا إبراهيم. . . لا تأس. . . إنني أحس بأن حياتي انتهت. . .

وخنقته العبرات وهو يقول

- لا تقول ذلك يا أماه. إنك في خير وعافية

. . . ولم تتكلم. . . وراح ابنها يحدق في وجهها الحبيب الذي طالما طالعنه ابتسامته. . . وخيل إليه في لحظة واحدة أنه على استعداد لأن يضحي كل شيء في سبيل أن تبقى. . .

أن تعيش. . . أن يراها مرة أخرى تملأ البيت. . . وأن تستقبله بابتسامتها العريضة. . . وأن تجلس إلى المائدة تطري الطعام الذي صنعته له. . .

وفكرت في غمرة ألمه وحزنه أن يفعل شيئاً سريعاً لإنقاذها. . .

إنه سيسحب في الغد من صندوق التوفير نقوده كلها ويوقفها على شفاء أمه. . . على برئها. . .

وانحنى فوق وجهها الناحل يقبله في حنين وهو يقول:

- أماه. . . سنسافر غداً إلى القاهرة. . . وسأقوم إلى جانبك إلى أن يتم إجراء الجراحة لك وتبرئي من مرضك. . .

وتمشت على شفتيها ظلال ابتسامة. . . وبدا له أنها متعبة مكدودة. . . إذ تآلف جفناها فجأة. . . فتراجع إلى غرفته. . . والدموع ملء عينيه. . .

كمال رستم