مجلة الرسالة/العدد 915/الكتب

مجلة الرسالة/العدد 915/الكتب

ملاحظات: بتاريخ: 15 - 01 - 1951



من بلاغة القرآن

تأليف الأستاذ أحمد أحمد بدوي المدرس بكلية دار العلوم

للأستاذ الظاهر أحمد مكي

بمن الجزئية صدر الأستاذ أحمد أحمد بدوي عنوان كتابه وكان موقفاً، فإن التصدي لبلاغة قرآن كلا شيء فوق طاقة الفرد وجهد العقل. ولهذا الكتاب قصة بدأت في يوم من العام الماضي بدار العلوم، حين أختط الأستاذ لنفسه منهجاً جديداً في تدريس البلاغة لطلابه، فقد آثر الناحية التطبيقية، على تدريس القواعد البلاغية، كما تركها لنا القدامى، ممزوجة بالفلسفة، أو متأثرة بالمنطق، وقد أصاب فيما أرتاى وما ابتدع، فإن البلاغة ذوق وفن، ومران وصقل، وملكة وحاسة، وهي عدد تنمها القراءة الرشيدة، والدراسة الحرة، والاطلاع والواسع، والعزوف عما فتن لها من القواعد ونظم لا يتصل أغلبها بالذوق السلم.

فالأستاذ أحمد بدوي إذن أراد أن يدرس لطلابه البلاغة في القرآن، ولم يفرضه عليهم، وإنما استشارهم فيه، وكان لكاتب هذه السطور رأى يخالفه، مؤثراً دراسته شاعر أو نتاج أديب، ليكون مجال العقل أوسع، وميدان النقد أرحب، وتطبيقاً لمناهج البحث الحديثة، من تناول الموضوع خلوا عن أي فكرة سابقة، وما في استطاعة مسلم أن يجرد نفسه من العطفة، ومن ظلال القدسية، حين يعرض لدراسة القرآن الكريم!

وثمت أمر آخر أشد خطورة، هو أن القرآن ليس نتاجاً عادياً، فيخضع لقوانا وأبحاثنا، فمن الخير أن ندمه في عليانه، نمسة بعواطفنا ووجداننا، ونغدي به حواسنا وشعورنا. ونستلهم فيما نكتب أو تفكر، دون أن نحاول البحث عن السبل التي سلكنا أو القواعد التي نهجها، ولكن أستاذنا الفاضل، رأى غير ما ارتأينا، فدرس لنا الموضوع فعلا، وأخرج نتائج بحثه مؤلفاته ضخما، يذل فيه مجهوداً كبيراً كنا نشفق عليه منه، فقد تصدى لحمل رسالة بنوء بها أعظم الناس عقلا، وأكثرهم تفرغا لذات الموضوع، فما بالك وهو يشارك في أكثر من ميدان علمي، دارسي أو مؤلفاً أو محقفاً، وله أكثر من كتاب صدر في نفس العام تحمل دراسات قيمة، توج واجداً منها مجمع فؤاد الأول للغة العربية، وهو دراسة عن (رفاعة الطهطاوي) فنال عنه الجائر الأولى في المسابقة الأدبية التي أقامها لعام 1950.

ولكن إلى حد نجح أستاذنا في محاولة؟. . . إنه عرض علينا صورا طيبة، لدراسة عالية أساليب (القرآن) تحمل العمق والجدة، والإحاطة والشمول، والإلمام الواسع باللغة في شتى مناهجها، أما النتائج التي قصدنا إليها فلم نبلغ منها إلا القليل، ذلك أن قاعدة واحدة من قواعد النقد الأدبي أو النحو أو البلاغة، أو حتى الصرف، تستطيع أن تطبقها على القرآن أو تستخرجها منه، دون أن تصطدم بما ينقصها في مكان آخر. لأن القرآن لا يلتزم في نهجه طريقاً واحداً، حين يغزو المشاعر والأحاسيس، مادحاً أو قادحاً، مهاجماً أو دافعاً، مرغباً أو مزهداً واعداً أو موعداً. ومن ثم فقد أضطر أستاذنا إلى نفس الطريقة التي لجأ إليها أسلافنا من التأويل والتخريج، وصرف الكلام عن ظاهره، وهي طريقة إن صحت في ميدان التشريع والتفسير فلا تحمد في ميدان البلاغة بحال.

على أن للكتاب أهمية قصوى، لا تتأنى من عرضة لصحائف من القرآن في صورة جديدة فحسب، وإنما لإثارته أكثر من قضية أدبية، فهو يحدثنا عن هدف الأدب (ص12) فيقول (والحق أننا نقف بهذا الهدف، عند حد الإثارة الوجدانية، فلا نطلب منه أن يمدنا بأفكار صادقة عن الحياة) وهو كلام يستدعى النظر طويلاً. أما أن الأدب إثارة وجدانية فأمر لأمراء فيه وأما عدم اشتراط الصدق، يرفضه الأدب بمعناه الحديث لأن البساطة والصدق هما أخص مميزاته، أما الأدب المنافق المرائي الذي شهدته العربية وتشهده، في عصور الضعف والاستعباد فمرهون بظروفه، وسينتهي فمرهون بظروفه، وسينتهي يوم تشيع الحرية والكرامة في أرجاء هذا الوطن العزيز. . .

ثم، ما هو التعبير الإباحي لا يعده الأستاذ من الأدب أو الفن الجميل (ص18) وما الفرق بين الإثارة الروحية والإثارة الجنسية؟ إن الكاتب قد يعرض لموضوع جنسي، محللاً في قصة، أو مبحوثاً في مقال، فيقرأ من سمت تربيته فلا يراه إلا روحيا خالصاً، ويقرأه من عاش في بيئة متحللة، فلا يلمس فيه إلا استفزازاً جنسياً، فليس هناك تعبير وتعبير روحي، وإنما هناك قابلية روحية وقابلية جنسية، وهو يحدثاً عن المنهج الأدبي في القرآن (ص37) (وأعني بالمنهج الأدبي هذا الذي يتجه إلى إثارة وجدان القارئ، إثارة روحية رفيعة) ثم يستشهد له بما يمت إلى الروحية إلا بسبب واهن ضعيف، في آية (ومن يطيع الله والرسول فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقاً. . .) لأن صحبة الأنبياء ورفقائهم هنا، ليست مرغوبة لذاتها، وإنما لأن هؤلاء مأواهم على درجات الجنة، فمن صحبهم كان معهم. والجنة ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر، فلإثارة هنا مادية لا روحية فيها. . .

والحق إن إثارة القرآن كلها من النوع الهادي، فقد نزل يخاطب قوما ماديين، ومن ثم فقد أصحب كل وعودة ومواعيد، الجنة بما فيها من خيرات، والنار بما فيها من عذاب، فهو يدعوهم إلى الخير لا لأنه فضيلة في ذاته، وينهاهم عن الشر لا لأنه رذيلة في ذاته، ولو فعل ذلك لما وجد سميعاً، وإنما يدعوهم إلى الخير لأنه يؤدي إلى الجنة، وينهاهم عن الشر لأنه يؤدي إلى النار، والقرآن حين يحدث مخاطبيه عن الجنة، لا يحدثهم عن أي جنة وكفى، وإنما يقول (مثل الجنة التي وعد المتقون فيها أنهار من لبن لم يتغير طعمه، وأنهار من خمرة لذة للشاربين، وأنهار من عسل مصفى، ولهم فيها من كل الثمرات. . .) ثم بعد ذلك (. . . ومغفرة من ربهم) فهل هناك إثارة مادية أبلغ من هذا؟ ولم يفت أستاذنا هذا الوضع، فراح يستثنيه مع أنه الأصل، ويؤوله ليستقيم مع حكمة الأول، من أن إثارات القرآن كلها وجدانية روحية خالصة.

والقرآن معجز، وإخفاق العرب عن الآنيان بشبيه له أو ضريب - وإن قل - حديث مستفاض، ولكن وراء هذه القضية أكثر من علامة استفهام، فإن الذين وما هم القرآن نفسه بلدهم وشدة خصومتهم، لم يحفظ لنا التاريخ من حججهم شيئاً، ماذا كان ردهم على القرآن؟. . ما هي أنماط المحاولات التي فشلت؟ على أي أسلوب جرت؟. . من هم الذين قاموا بها؟. التاريخ يصمت، ونحن نتابعه في صمته مسوقين، وأستاذنا يخطئ مذهب الصرفة (ص49) (إنه لو عجز العرب عن المعارضة بالصرفة، لما استعظموا من بلاغة القرآن، وتعجبوا من فصاحته، كما أثر عن الوليد بن المغيرة حيث قال: (إن أعلاه لمورق، وإن أسفله لمغدق، وإن له لطلاوة، وإن عليه لحلاوة) وقصة الوليد هذه تصطدم بها في كل كتاب وكل بحث، وقد تجد لها شبيهاً في قصة إسلام عمر، ولكنك لن تجد للقصتين ثالثة، ترى هل كان الوليد بن المغيرة كل شيء في مكة حتى يؤخذ سوادها برأي ارتآه؟ قضية علمية كانت تستلزم أكثر من هذا المرور السريع! ثم هذه الآية التي عرض لها (ص62) ثم غفل عن المشكلة التي صحبها، من يوم أن قرأها المسلمون حتى اليوم، آية (إن هذان لساحران) ماذا وراء هذا الرفع المنصوب؟ أهي لغة أهي لهجة؟ إنها لم ترد في القرآن على هذه الصورة إلا مرة واحدة، وما كنت أريد بتعرضه لها أن يعيد على أسماعنا تأويلات النجاة الفجة، وإنما كنت أريد لها تفسيراً جديداً ي ظلال الإمكانيات الواسعة التي يتمتع بها العالم الآن!

وفي فصل (الفاضلة) بحث قيم مفيد، ونهج جديد مشكور، ولكن محاولة إخضاع الفواصل في طريقها لقاعدة، أجهدت الأستاذ كثيراً، ثم انتهينا إلى لا قاعدة، ففي (ص77) (وإن يريدوا خيانتك فقد خالوا الله من قبل فأمكن منهم والله عليم حكيم) فهو عليم بخيانتهم، حكيم في التمكن منهم. ترى لو استبدلنا العلم بالعزة، فقلنا (والله عزيز حكيم) عزيز لا ينال، حكيم في التمكن، هل يحدث ارتباك ما؟ هل يشعر القارئ أن هنا لفظاً مضطرباً؛ أو كلمة قلقة، أو معنى غير موائم؟. .

وفي فصل (الغريب) جملة تحتاج إلى شيء من التقدير (ص89) (فكان العرب في عصر نزول القرآن يمضون إلى كبار الصحابة، يسألونهم عن المعاني، مستشهدات بأبيات الشعر. والواقع أن قدرة الصحابة على فهم القرآن لم تكن في درجة واحدة: فكان منهم المثقف ثقافة أبية ممتازة، لم يكن ما نسميه الآن غريباً بغريب عند هؤلاء الذين تجداهم القرآن، فلم يكن استخدامه حينئذ معيباً ولا مستكرها، ومثال ذلك استعمال عباقرة الشعراء ألفاظاً يعرفها جمهور المتأدبين، ويتذوقون جمالها، وإن كانت دائرة على ألسنة العانة) فكيف كان بعض العرب يمضون إلى الصحابة يسألونهم عن الغريب، وكيف أن ما نسميه غريباً لم يكن بغريب عند هؤلاء الذين تحدهم القرآن؟ ويستشهد أستاذنا لقضيته بما يستعمله عباقرة الشعراء، وهو قياس مع الفارق الكبير، فلم تكن هناك فوارق شاسعة بين لغة الأدب ولغة المحادثة، ولم تكن هناك لغة خاصة وأخرى دراجة، وحين نفترض الشاسع بين اللغتين، تكون المشكلة التي تعرض لنا أضخم وأدق، هؤلاء العامة الذين لم يكونوا يلمون بالعربية حقا ليسوا أهلا لأن يتحداهم القرآن، لأنهم لا يملكون وسائلة.

وفصل (الزائد) (ص95)، ولكن، من الذي أوصل النجاة إلى ذلك؟ وضعوا قواعد، فلما اصطدمت هذه الكلمات بما قصدوا، فلم يعترفوا بعجز أو تقصر، وإنما نسبوا إلى القرآن ما ليس فيه، ثم أتى البلاغيين يدفعون قولهم، قضية مفترضة لا تحتاج إلى جهد أو عناء. . . القرآن في ذروة البلاغة، هذه قضية نسلم جميعاً. فعلى النجاة يريدون أن يخضعوا القرآن لقواعدهم أن يعدلوها بما يسايره، دون أن يضطرونا إلى التأويل والتخريج، وإلا فهم الواهمون!. .

أما (التشبيه في القرآن (ص187) فأثمن ما في الكتاب وأجدر فصوله بالاطلاع فيما استنوه للتشبيه من قواعد، فمضى يهدمها في رفق وهدوء وأناة. ولكنه لم يذر لهم مما قننوا شيئاً. فليس صحيحاً أن أبلغ التشبيه على النفس وشعورها به سروراً أو ألماً، وهو كلام صحيح قوى إلى حد بعيد!

وشبيه بهذا (التصوير بالاستعارةص217) (ومجازات القرآن ص223) والأسلوب القرآني ص244) وفي كل منها دراسة قيمة وعرض جذاب لم يسبق إليه!. .

ثم تأتي (القصة في القرآن ص267) عرضها لنا الأستاذ الفاضل تفسيراً، لم يعرض لمشكلة القصة ذاتها من قريب أو بعيد، قصة صدقها حرفياً، هل هي وقائع حدثت كما صورها القرآن تماماً؛ فلم يتصرف فيها بحذف أو زيادة، وفقاً لما يهدف إليه من عظة واعتبار؟. .

وأخيراً يعرض (لبعض صور الحياة الجاهلية) في القرآن (ص379) ونحن نعلم أن الإسلام جاء فشوه وهدم كل ما هو عربي وثنى، وكان نقده وتقريعه منصبا على رءوس المسائل الكبرى وأصولها، أما جزئياتها، أما حسنات هؤلاء القوم، فقد سكت عنها القرآن سكوتاً تاما، لا. . . بل يبدو أن الإسلام كان عاملا في القضاء على التاريخ الجاهلي بحسناته وسيئاته على السواء، فلم يعرف عنه أي شيء، وظل العرب الأول والمعاصرين مولد الإسلام، شعباً بلا تاريخ والعقبة الكبرى هي الوصول إلى هذه الحقائق، وعلى ضوء ما يتكشف منها، يكون التفسير للآيات القرآنية التي عرضت للحياة الجاهلية، وتبين ما فيها من بلاغة وإعجاز، أما السماع للحجج من طرف واحد، فيجعلنا عاجزين عن فهم كل شيء.

وبعد. . . فقد تختلف في الرأي، ونتباعد في النظرة، ولكنا نلتقي دواماً عند هدف واحد، علمنا أستاذنا إياه، هو أن نقول كل ما نعتقد حين نعرض لشيء جديد، بالروح السمحة التي كنا نلتقي بها الدرس، قد عرضت لمؤلفه الجديد، ولن يقعد بي مرض في الرأي، أو غرض في القصد عن الإشادة بهذا الكتاب، بهذا الكتاب فهو دراسة عميقة حديثة، لموضوع قد تعرض له الكتب القديمة، ولكنه لم يحط في دراستنا الحديثة بأي نصيب، وهو يتسم - ككل ما كتب الأستاذ أحمد بدوي - بالعبارة الرصينة، والأسلوب الجزل، والعرض البارع، والدرس العميق. . .

وإلى اللقاء مع أستاذنا في مؤلفه الجديد القادم، سيصدر عما قريب!

الطاهر أحمد مكي

كلية دار العلوم - جامعة فؤاد الأول