مجلة الرسالة/العدد 915/بجانب مدينة تنجر

مجلة الرسالة/العدد 915/بجانب مدينة تنجر

ملاحظات: بتاريخ: 15 - 01 - 1951



عصر الحرية

للأستاذ إبراهيم البطراوي

التحرر نزعة فطرية تلازم الإنسان والحيوان في مختلف أطوار حياته بدرجات تتفاوت قوة وضعفاً تبعاً لتفاوت مداركه ونوع سلوكه بالنسبة للبيئة التي يعيش فيها الولد هذه النزعة مع الطفل وتبدأ في التعبير عن وجودها بالقدر الذي تستطيعه أعضاؤه من تلبية: فهو حين يمتنع عن ثدي أمه لحظات ألنه أو عدم انسجامه رغم جوعه، وهو حين يركل الغطاء برجلة ويحاول التخلص من ملابسه ومن كل حاجز يكنه أو يحد من حركنه ونشاطه، فإنما يستجيب بهذا السلوك لنزعة الحرية فيه والحيوان حين يفلت من القفص أو الربقة وينطلق مسرعاً في طيرانه أنه أو جريانه، والوحش حين يفترس مريضه إنما يستجيب بهذا السلوك لنزعة الحرية فيه كذلك.

تبلغ هذه النزعة أشدها في أوقات نضوج القوى الجسمية والعقلية بالنسبة للأفراد، وفي أوقات نضوج العمران والمدينة بالنسبة للأمم؛ ولذا تجد دعاة الحرية ومعتنقيها والمتحمسين لها بين الشباب والكهول أكثرها ما يكونون، وتجد أن هذه النزعة في الأمم الراقية المتدينة أظهر ما تكون أيضاً.

ولكن شيئاً واحداً قد فات دعاة الحرية ومعتنقيها على مر العصور منذ طفولته التاريخ إلى يومنا هذا وأقصد به الفهم الصحيح لمعنى الحرية، ولهذا كان وجودهم في كل عهد وجدوا فيه مظهراً من مظاهر التفكك والفوضى، ومقدمة لنهاية عهد وبداية عهد جديد.

الحرية حريتان: حرية طبيعية وحرية ترفيهية؛ فالحرية الطبيعية هي تلك التي تدفع الإنسان دفعاً قويا لالتزام كل سلوك من شأنه أن يحفظ لذلك الإنسان ذاته ودينه وتقاليد وعاداته وكل متعلقات من تحكم الأجنبي واستعباده؛ فهي نوع من الحفاظ أو لدفاع عن الذات لا أكثر.

أما الحرية الترفيهية فعلى النقيض من ذلك، إذ هي مغالاة في سلوك المحافظة على الذات وانحراف بهذا السلوك بقصد النيل من الغير واستباحة ذاته وانتهاك حرمنه والتحكم في تقاليده وعاداته، فهي نوع من الهجوم واسترقاق الآخرين كما يبدو، أو هي نوع من ترف الأقوياء بعبارة أخرى.

والناس على اختلاف الأزمنة والأمكنة - يخلطون بين هذين النوعين من الحرية خلطاً يدلنا على جهل تام بمعنى الحرية، ولهذا كانت (الحرية) مرادفة للفوضى والإباحية والثورات والانقربات على نحو ما قدمنا. ولم تجد الحرية الطبيعية سبيلها للظهور إلا نادراً وبين قوم أقوياء سرعان ما نعصف برؤوسهم حميا القوة فتنزو بهم نحو الحرية الترفية، ومن هنا - كما يغلب الظن - جاء حكم ابن خلدون يرم قرر في مقدمة تاريخه أن ازدهار المدينة وزيادة الترف في أمة من الأمم أو عصر من العصور - إيذان بانهيار تلك الأمة ونهاية ذلك العصر. ومن هنا أيضاً كانت مصلحة المغلوبين في الاستقامة الخلفية والتمسك بما لديهم من تقاليد ونظم، وتقديس ما ورثه من دين ومثل. وبعبارة أخرى في العمل علة تحقيق الحرية الطبيعية. ومصلحة الغالبين تجيء على العكس من ذلك بالنسبة للمغلوبين وحدهم، أما بالنسبة للغالبين أنفسهم فلا بد لهم من تقديس نظمهم وتقاليدهم وأديانهم إذا أرادوا لذاتهم بقاء، ولهذا رأينا ساسة الدول الديمقراطية الكبرى - على اختلاف نزعاتهم - في هذه الأيام يكررون نداءاتهم بوجوب المحافظة على الفضيلة والتمسك بالأديان حتى تتحقق لهم بذلك القوة تتمكن من مواجهة الشيوعية والصمود أمام طغيانها.

وفي هذه الأيام أيضاً نجد الصهيونيين يبذرون بذور الفساد والإباحة والإلحاد باسم الحرية في مختلف البقاع حتى يكتسبوا من ضعف الناس قوة يعيشون بها ومدداً ويحقق لهم أمانيهم في أرض الميعاد؛ وما هذه الأرض إلا العالم أجمع كما يفهم من (تلمودهم) المقدس. ونظرة واحدة إلى تحكمهم في سياسة دولة كأمريكا، وإلى نوع حياة أبناء صيهود وبناتهم فيها، وكيف يغرون الأمريكان ويرونهم إلى ما يشاءون، ونظرة أخرى إلى الأدوار المماثلة التي يقوم بها بناتهم وأبناؤهم في فرنسا إيطاليا وتشيكوسلوفاكيا وبولندا بل وفي إنجلترا نفسها وغيرها من الدول ترينا خطر سياستهم على العالم أجمع ومقدار أثرها السيئ في توجيه السياسة العالمية وفي التأثير على كثير من النفوس.

وقد اتخذ هؤلاء الصهاينة لأنفسهم في الأيام الأخيرة اسما تنكريا آخر ظهروا به في عالم الفكر والفلسفة وصارت لهم دولة في هذه العالم عرفت باسم (الوجودية) ونعني بها الوجودية السارترية في فرنسا تلك التي تعد أخطر مذهب صهيوني ظهر إلى الوجود في فرنسا تلك تعد أخطر مذهب صهيوني ظهر إلى الوجود حتى الآن وأية خطوة على المجتمع الإنساني بل وأي جنون أدهى من الحرية في (وجوده وعدمه)، وفي مواضع عدة من مؤلفاته بأنها (التلبية المطلقة التي يتلاشى عندها كل شعور بالأثم).

كل شخص يصادفك في هذه الأيام لا تجد له حديثا سوى (الحرية) وضرورة الحرب من أجل هذه الحرية سواء أكان هذا الشخص موظفا أم تاجر أم صانع أم صحفيا أم مزارع أو سياسيا أم رجل دين؛ لأن لكل كائن حي رغباته وأطماعه وحاجاته التي لا تنقضي كما يقول الشاعر العربي القديم، ولكل فهمه الخاص لهذه الحرية، ولكل شرعته الخاصة في تحقيقها. حتى المرأة النوكاء بلغ بها هوس طنطنة التحرر المعاصرة حدا أو همها أن الأمومة والتدبير وشؤون الزوجية والبيت كلها قيود وعبودية فرضتها عليها قوة الرجال، وأن الحرية في أن تنبذ هذه القيود ليحملها الرجل طوعاً أو كرهاً كي تتزيا وتتفرع عي للأحداث الدولية والشؤون العالمية ووضع القانون الذي به تلي القضاء والإفتاء، وتسوس الرعية وتعل ما تشاء. . .

كل شيء يفعل باسم الحرية في هذا العصر: فاللص يسرق باسم الحرية، والفجور الدعارة بروج لها باسم الحرية، والتاجر يطفف ويغش باسم الحرية، والموظف يدلس ويهمل ويضرب باسم الحرية، والطالب يخرج معهد ويتسكع في الطرقات باسم الحرية، والفتاة تغشى الندوات وتتخذ الآخذان وتفعل المجون باسم الحرية، ورجل الدين يسكت عن المنكر أو يلحد هو في الدين باسم الحرية، والصحفي يستبيح الحرمات ويهدم التقاليد باسم الحرية، وهكذا كل محرم يوتى باسم الحرية، والأمر في حقيقة لا يعدو كونه انحلالا واستباحة وهدما، وفي كلمة واحدة لا يعدوا كونه (انتحارا).

وإنك حين تدقق النظر ي هذه الحرية الترفيه تجد لها جانبين في غاية الخطورة: إحداهما سلبي يقوم به صنع الاستعمار في الأمم التي يراد القضاء عليها بترويج تلك المفاسد وتزييف هذه الأثناء مما يفت في عضد هذه الأمم ويقوض أركان تقاليدها ومجتمعاتها، والآخر إيجاد فيه ينقض المستعمر على هذه الأمم بحجة تقويمها وإصلاحها أو الذود عن الهيئة الحاكمة فيها. وما إلى ذلك من مبررات لا حصر لها، ولكل منهم عذره أو كذبة الجميل المستساغ. فلإنجليزية يحتلون مصر دفاع عن الخديوي، ويظلون في الهند حماية للطوائف، ويستأثرون بالسودان رحمة بأهله، ويستعبدون مع الفرنسيس أفريقيا لنشر العلم والمدينة، والأمريكان يقحمون أنفسهم في كوريا احتلال العالم كله لنشر الحضارة والسلم في ربوعه. . وهكذا كل أمة تجد أن تسود العالم وتتحكم في أزقة وأنفاسه ما استطاعت إلى ذلك سبيلا باسم الحرية ولا شيء غير الحرية، حتى تلك الشر ذمة المستخذية من اليهود تحاول ذلك وتعمل له في كل بقعة توجد فيها بشتى الوسائل والأساليب الملتوية في السر والعلن باسم الحرية أيضاً، ولكل منهم عذره أو كذبة الجميل المستساغ لانه لا يقدم على شيء إلا (تضحية) من أجل السلام والعرفان والحرية.

لقد استعبدت الأمم الضعيفة لأنها لم تفهم من الحرية إلا أضدادا التي أراد لها السادة من خيانة وفجور وفساد وفوضى والتي أدت بهم إلى هذه الدركات الدنيئة من العبودية، فهل تراها تستفيد من الماضي وتعمل على تحقيق نصيبها من الحرية الطبيعية الصحيحة التي يحرص عليها السادة المستعمرين كل الحرص ويقيمونها فيما بينهم؟ أم تراها تؤثر دعة الخنوع والفقر والعبودية على مرارة الكفاح الصادق من أجل الخلاص والحرية عملا بالخرافة القائلة (أن للأقدار وحدها أن تجعل من تشاء سيدا وتجعل من شاء مسودا؟

والآن يلوح أن العصر الحديث بمديناته وعلومه وفلسفاته لم يرق بالإنسانية درجة واحدة نحو الكمال المنشود والفهم الصحيح لحقيقة الحياة، فالإنسان في كل زمان ومكان لم تستطع المدنيات المتعاقبة ولا المعارف المتعددة أن تهذب من طباعه أو غرائزه شيئاً وإنما زاده هذا الشعاع الضئيل من سراب المعرفة تيهاً وعجباً وأنانية ووحشية ورجع القهقري نحو عصور الهمجية الأولى. فهو لا يكاد يفرغ من ظلم إلا ليبدأ ظلمات، وهو لا يكاد يشبع شهوة إلا لتصرخ في شهوات، وهو لا يكاد يستجيب لأنانية حتى تستبد به أطماع وأحقاد وأنانيات تؤوه إزاء نحو الحرب تفضي إلى حروب تفضي به إلى فناء.

ترى هل هنالك من عناية تنقذ هذا العصر من شره وتشعر الإنسان بقيمته فيدرك أنه روح وقلب قبل أن يكون جسداً وشهوة، ويعرف أنه خلق لغاية وحياة أعقل من جهالة الشهوات وأسمى من ظلام الفناء؟ أم تراه عصر قد مات ضميره وفقد إنسانيته وتخلى عن دينه فركبه الهوى ومكن من أزمة قياده الشهوات فهو - في جهله وعماه - لا يرى الحرية في غير شهوته ولا يرى العالم قد خلق إلا لتلبية هذه الشهوة أو (الحرية) كما يشاء أن يضلل نفسه النعامية بتسميتها، وليس يرى هذا المسكين شيئاً يعادل إخفاقه غير الانتحار والفناء. لهذا تجد ذرة وإيدروجين قائلاً (أنا! أنا! أنا! إما أن أكون مالك كل شيء، وسيد كل شيء ورب كل شيء، وإلا فويل مني لكل شيء)! ولا يستحي هؤلاء (العقلاء) أن التاريخ سيؤنبهم يوما فيقول فيهم (يا له من عصر مجنون، عصر الشهوة ذلك الذي كان يعيشه آخرون!).

إبراهيم البطراوي