مجلة الرسالة/العدد 915/بمناسبة انتصاف القرن العشرين:
مجلة الرسالة/العدد 915/بمناسبة انتصاف القرن العشرين:
حياة العلم بين منهجين
للأستاذ حامد حفني داود الجرجاوي
كان أرسطو الفيلسوف اليوناني أول من انتزع العلوم من الفلسفة. وهو وإن لم يخرجها عن إطارها القديم فقد نزل بها من عالم المثل الذي لا يحس إلى عالم الواقع. وهكذا أخرج أرسطو العلوم من دائرة الوهمية عند أفلاطون إلى دائرة الواقع المحس. رأى أرسطو وأن كل علم يشبه مجموعة خاصة من الأفكار، يربط بين أجرائها وجوه شبه معينة. فهدته الأجزاء وأوجه الشبه وأوجه الاختلاف إلى ربط كل مجموعة في دائرة معينة فنشأت فكرة العلوم المختلفة التي أخذ يسلخها الواحدة تلو الأخرى من سديم الفلسفة الواسع وهيولا الأفكار. فلما تم له ذلك سمى هذه البديهيات التي اصطنعها في التفرقة بين علم وآخر (المنطق) أو المدخل إلى العلوم.
وقد ظل منطق أرسطو مقياس العلماء في العصور الوسطى يكشفون بفضله عن مكنون العلوم ويربطون بين الأفكار المتشابه. وهم في ذلك يصدقون ما صدقه المنطق ويكذبون ما كذبه.
ولم يحرم رجال الدين في هذه الآونة من اتخاذه في البرهنة على قضايا الدين والاستدلال على وحدانية الله ووجوه. وقالوا كل صنعة لا بد لها من صانع. أعظم وهو الله سبحانه وتعالى.
وفي أوائل القرن السابع عشر تبدل وجه الفلسفة مسفراً عن فلسفة حديثة حمل مشغلها فرنسيس بيكون المتوفى سنة (1626م) وأتباعه. وقد كان بيكون أشدهم ثورة على فلسفة أرسطو، فالفكرة في نظر بيكون أيا كان نوعها لا تصدق إلا إذا برهنت له عليها واقتنع بصحتها. وجعل (التجربة) شرطا في التصديق
وهكذا ضيق بيكون مجرى العلم بعد أن كان واسعاً لأن الكون مليء بالأفكار التي لم تخضع للتجربة، ويتعسر إجراء التجربة على أكبرها. وسرعان ما اصطدم المذهب التجريبي الذي استنه بيكون بالأفكار. وهي أفكار نقلية عقيدية لا يجيز رجال الدين البحث فيها. كما أنها لا تجرب كما تجرب المواد الخام في المعمل. وكانت صدمة عنيفة صدم به بيكون وصدم بها منهجه التجريبي الذي عجز عن تفسير قضايا الدين وأخفق إخفاقاً تاماً في تناولها.
إذاً لم يستطع مذهب بيكون أن ينهض للقيام بخدمة العلوم الدينية كما نهض بخدمة العلوم الطبيعية.
وعند ذلك انبرى بعض الوسطاء من الفلاسفة ليوافقوا بين منهج أستاذهم بيكون وبين قضايا الدين التي استعصت على التجربة وكان توماس هوبز المتوفى سنة (1679) أشدهم حماساً، فاعتبر أن هناك شعبيتين هما (المادة) و (الوحي) وذكر أن القوانين الطبيعية تصح عليها التجربة لأنها (مادة) وأن قضايا الدين وكل ما وصل إلينا بالنقل عن رجال الدين إنما هو (وحي) أو من قبيل الوحي؛ ويجب تصديقه لأنه وحي، ولكنه لم يعلل ذلك
وهكذا أخفق وسطاء بيكون كما أخفق بيكون لما في منهجهم من ضعف وضيق حال بينه وبين الاتساع لشمول المساءل الدينية النقلية، فلم يستطيع تفسيرها
وكان هذا الإخفاق سبباً في تشكك الفلاسفة. فمنهم من ترك فلسفة المادة والروح جانباً كجون لوك. ومنهم من أنكر المادة أصالة ليتقي شرها ويصدق بالوحي كما فعل: بركلي وهيوم وأذكر أني ناقشت أستاذنا بود الأمريكي عام 1945 م بمعهد التربية العالي للمعلمين، في فكرة الأخلاق والتربية الدينية، وكيف نوفق بين الأهداف الدينية والأهداف الدنيوية، فكان مما أجاب به قوله: (إن الأخلاق نسبية لا مطلقة، وإن الفلسفة تتعارض مع الدين) وهكذا أبي الفيلسوف التربوي إلا أن يعطيني صورة عن الفلاسفة المعاصرين في مناهجهم.
هذه حيرة!!!
فكيف نوفق بين قضايا المادة التي تخضع للتجربة وقضايا الروح التي يعسر علينا إقامة التجربة عليها؟
فكرت طويلا وقد هداني البحث إلى منهج يستطع أن يحل مشاكل المادة والروح.
وقد قلت: نعم إن طبيعة (المادة) تخالف طبيعة (الروح) ونستطيع أن نصدق بمظاهر (المادة) بإقامة التجربة عليها في المعمل فنعرف - مثلاً - تمدد المعادن بالحرارة وتقلصها بالبرودة ثم قلت: وحيث أن (الروح) والمسائل الدينية النقلية: كحساب القبر وسؤال منكر ونكر وغيرها لا تدخل تحت دائرة حسنا ولا يمكن وضعها في معملنا - أعتبرها صادقة ما لم تقم التجربة يوماً - على إثبات ضدها، وبمعنى أوضح: إن حساب القبر صحيح ما لم يثبت بالتجربة ضده.
وهكذا نستغني عن إقامة التجربة على الأمور الروحية بقولنا للمنكر أو المكابر: أقم التجربة على ضدها أو أثبت ضدها.
وهكذا تكون تجربة الأمور الروحية صحيحة بطريق عكسي يتفق مع طبيعتها. وحيث أن المنكرين للأمور الروحية والمسائل العقلية يعجزون عن إقامة التجربة على ضدها، فإني أعتبر إبكارهم لها من قبيل إنكار الفروض العلمية. ومن أنكر الفروض العلمية فقد أنكر العلم كله. لأن الأصول الأولى للتجربة أيا كان نوعها هو الفرض الذي يسبق التجربة.
وهذا هو (المنهج العلمي الحديث) الذي وصت، واستطعت أن أوفق فيه بين قوانين (المادة) وقوانين (الوحي) حيث أخفق الفلاسفة في التوفيق بينهما.
ولعل هذا المنهج الذي رأيت أنفع لحياة العلم، لأنه لا يجعل من الدين والفلسفة عدوين يحارب أحدهما الآخر. وشعره: (يجب التصديق بالقضايا العلمية المروية عن أسلافنا ما لم يقم الدليل المادي على بطلانها سواء بالنص العارض، أو تمحيض عدم تقبل العقل المنصف لها. (أما منهج فيكون ففضلا عن عجزه وعجز أتباعه عن التوفيق بين قضايا لمادة والوحي، يضيق دائرة العلم حيث يقول: (يجب إبطال كل شيء ما لم يقم الدليل التجريبي على صحة المبطل) وهو قانون خطأ لأن التجربة غير ميسورة في كل وقت
وأنت ترى بعد هذا. أن (المنهج العلمي الحديث) الذي رأيته يوسع دائرة العلم ويرفع الشك عن الإنسان، بينما ترى منهج بيكون يضيق دائرة العلم ويقف بك موقف بك موقف الشاك المرتاب. وشتان ما بين المنهجين. فالفرق بينهما - كما ترى - كالفرق بين من يبني ومن يهدم.
حامد حفني داود الجرجاوي
دبلوم معهد الدراسات العليا وأستاذ التربية بمدرسة المعلمات الراقية بباب اللوق